ربما من المبكر جداً الحكم على امكان حدوث انقلاب يساري! في اسرائيل بيد عميرام متسناع، ولكن من الواضح ان الانقلاب حدث في حزب العمل الذي لم يتمايز عبر أكثر من عقد تقريباً عن الوسط الاسرائيلي، وكان في السنوات الأخيرة بمثابة نسخة كاريكاتورية عن حزب الليكود، وفي أحسن الأحوال ذيلاً أو نسخة باهتة، خصوصاً ان واحداً من عتاولة هذا الحزب تاريخياً هو شمعون بيريز ارتضى لنفسه، بعد سلسلة من الفشل جعلته الفاشل دائماً، أن يكون المبرر والغطاء السياسي الخارجي لتسويق سياسة شخص كان ثمة اجماع في أوساط اليمين واليسار على أنه لا يفقه شيئاً في السياسة هو آرييل شارون. يذكر المتابعون أن اليسار الاسرائيلي الذي أعاق شارون من احراز النصر في لبنان بحسب توهمه، كان حتى ظهور متسناع كالمرأة المازوشية التي تصر على العودة الى أحضان الذكر الذي يتلذذ بجلدها بالسياط وتبرر له فعلته بنشوة الراضي. هذا اليسار بدأ يستعيد ذاته في اختيار متسناع. إذ ان نسبة التصويت بلغت نحو 60 في المئة، بينما كانت النسبة السابقة بين ابراهام بورغ واليعيزر نحو 44 في المئة فقط، ما يعكس الرغبة في حل، يتجاوز الحلول الحالية، ويتجاوز المأزق الذي يشكّل سمة الفصل الأخير في كل صراع. السمة اليسارية مع التحفظ الجزئي على هذا التصنيف بين يمين ويسار واضحة في انتخاب متسناع، فهو حقق فوزاً لا مثيل له في المدن الكبرى وفي الكيبوتسات. والدلالة واضحة. فاختيار متسناع هو اختيار مدني اشكينازي، ذلك ان الضواحي الاسرائيلية والريف عموماً للسفارديم، أضف الى هذا ان الحقن اليميني المتشدد في السياسة الاسرائيلية يكمن منبعه الأساس في الأوساط السفارديمية التي تتخذ موقفاً أصولياً وتبالغ في التشديد كي تثبت مدى ولائها للدولة، الولاء الذي طالما كان مُشككاً به. بهذا، وبمعنى جزئي أيضاً، نقول ان الانقلاب الحاصل في حزب العمل له سمتان: اشكينازية أي غربية ومدينية، باعتبار ان المدن هي الأكثر تضرراً من العمليات الاستشهادية، فضلاً عن تمركز المصالح الاقتصادية فيها، والضرر الذي لحق بها جراء سياسة العمل العسكري والانفجار الأمني لا يطاق. وفي هذه المدن يكمن الرهان على انقلاب سياسي في انتخابات الكنيست في 28 كانون الثاني يناير المقبل طلباً للخروج من المأزق. صحيح انه انقلاب بعيد، لكن تجربتي قدوم نتانياهو، وهو الذي كان الأضعف في مبارزته مع بيريز، وقدوم شارون وهو ما كان مستبعداً قبل شهور من الانتخابات مع باراك، يجعل الحراك السياسي الاسرائيلي مفتوحاً على كل الاحتمالات. لكن السؤال يبقى مبهماً أو أقله مستهجناً، عن سبب تساوي بن اليعيزر ومتسناع في الوسط العربي وتحقيق اليعيزر نصراً ساحقاً في أوساط حزبه من الدروز، إذ تحالف معه صالح طريف. وكان الوسط العربي في حزب العمل لا يدرك أهمية صعود متسناع كفرصة للخروج من المستنقع، أو لعله لا يزال منغمساً في آنيات المعارك الانتخابية" حيث لا توجد قيادات واعية لطبيعة دورها، وهو أمر جائز بالنظر الى أن هذا الوسط المندرج في حزب العمل، يعمل من دون الالتفات الى مصالحه الاستراتيجية كوسط عربي، انما لاعتبارات المصالح الآنية. وينظر ايضاً الى انتخاب بن اليعيزر في ذلك الوسط على أنه جزء من "التجاذب الطائفي" والمناخ الشرقي الذي مثله صعود بن اليعيزر في الانتخابات الماضية، إذ يوصف اليوم صعود متسناع باعتباره عودة الى سيطرة الاشكيناز على حزب العمل، بعدما واجه بن اليعيزر ومنذ اللحظة الأولى لصعوده تكتلاً اشكينازياً ضده، وها هو ينتهي الى ما انتهى اليه شلومو بن عامي وغيره من السفارديم. ومهما كان الأمر، فإن صعود متسناع يشكل مادة اضافية للتنبؤ بأن الأمر يتجاوز هذه العنعنات، على رغم اقرارنا بأنها جزء من حقيقة الوضع السياسي الاسرائيلي الذي تتجاذبه الطائفية والشرذمة الإثنية والعسكرة، وأن ما حدث ينبئ على المستوى البعيد بانقلاب نوعي في الطرح الاسرائيلي للخلاص من المأزق، على خلفية العمليات الاستشهادية التي باتت أوساط كثيرة وليست أكثرية، حتى الآن على الأقل تدرك ان لا خلاص لها إلا بطرح خيارات استثنائية تتجاوز خيارات اليمين وتكون في أقصى اليسار، بل في يسار أطروحات رابين وباراك معاً، وليس من المقبول أن يقوم بهذا إلا جنرال من وزن متسناع الذي كان قائداً للمنطقة الوسطى وتمرس بالأعمال الميدانية والمدنية قبل أن يبزغ كخلاص من وضع جعل فيه بن اليعيزر من حزب العمل ليكوداً باهتاً، وكان ثمة رفض ان يكون ميرتساً باهتاً أيضاً، إلا ان محاولة متسناع لضبط أطروحاته لم تجعله يتمايز كثيراً عن ميرتس، لكنه غدا أقرب الى منظّر لحزب عمل جديد هزت تاريخه الدموي اخفاقاته في التوصل الى حلّ. وكان لدوره في انشاء المستوطنات ان عطل عليه امكان ألاّ يتحول هذا الوضع الى أسر جديد له، فسمّن كلبه، وكلبه أكله. ولعل متسناع حمى حزبه من المزيد من التشرذم والتشظّي، لأنه كان على موعد مع انشقاق أعلن عنه - كاحتمال - يوسي بيلين إذا ما أعيد انتخاب بنيامين بن اليعيزر ثانية. وباختصار، فإن أقصى اليسار بات اليوم بعد انتظار طويل في رأس حزب العمل، وعلى هذا الأساس ستكون اسرائيل على موعد مع أخطر وأشرس انتخابات للكنيست منذ تأسيس الدولة العبرية: بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. لكن الأبرز في هذا التوقيت ان مشروع متسناع لن يكون مشروعاً للخلاص الأمني، إنما هو مشروع يتناول الخلاص الاقتصادي الذي انعكس التدهور فيه من وضع أمني بلا أفق وليس ثمة امكان لحله بالطرق العسكرية. زمن المعجزات ولّى، لكن، ليس في السياسة معجزات، الا ان سمتها الأساس ان لا شيء نهائياً فيها وكل شيء قابل للتبدل" فلا تحالفات مطلقة ولا أعداء الى الأبد. وهذا ما يجعل البرنامج السياسي لمتسناع امام احتمالات هي في النتيجة مدى قدرة المجتمع الاسرائيلي على ان يحتمل لفترة طويلة لعبة "عض الأصابع" التي تطاول الأمن والحياة والاقتصاد... والمستقبل. وهذا هو الرهان الذي تعتمده حركة المقاومة ومن يقف وراء العمليات الاستشهادية: الاحتمال الأول: ان هذه العمليات تدفع نحو المزيد من اليمين وأن المجتمع الاسرائيلي المصاب في الأساس، فوق عقده الأخرى، بعقدة الأمن، سيكون على موعد مع مزيد من تجريب أقصى اليمين، الأمر الذي سيعزز من شوكة المتطرفين الى حين تحكم اسرائيل حكومة مستوطنين متطرفة في شكل صرف وتذهب بعيداً في تجريب المزيد من القوة، وبعض الترانسفير لأنها لا تستطيع ان تقوم به بالفعل مهما ادعت امكان ذلك، وتدمير البنى الاقتصادية وتشكيل صورة نمطية في الوعي واللاوعي العالميين عن اسرائيل كدولة غير آمنة للسياح، الى أن يفهموا بحسب تعبير عكيفا الدار المراسل السياسي لصحيفة "هآرتس" كنه العلاقة بين الاحتلال في نابلس والجنود القتلى في الخليل وما حدث في ميتسر والبطالة في الهستدروت التي ارتفعت الى 12 في المئة، والى ان يدرك الاسرائيليون مغزى العلاقة بين الاحتلال وبين نصف مليون اسرائيلي يعانون اضطرابات نفسية نتيجة الوضع الأمني الصعب خلال العامين الماضيين. ويكشف بحث نشر أخيراً ان 68 في المئة من الاسرائيليين يشعرون بعدم الأمان، وأكثر من نصف السكان يشعرون بالاكتئاب، والنسبة ذاتها تعاني اضطرابات في النوم أو عند التركيز، كما ان نصف السكان يمتنعون عن الخروج الى أماكن عامة أو السفر في الباصات و37 في المئة يسترجعون الأحداث الدامية أثناء يقظتهم أو في كوابيس نومهم، و25 في المئة من الاسرائيليين يشعرون بالنفور والعزلة في أعقاب الوضع الأمني "معاريف" 21/11/2002. ولكن، علينا في مواجهة كل هذه المعطيات ألا نستسهل الأمر الى حدّ التوهم ان هذه المعاناة ستنتهي الى الاتجاه يساراً بصورة آلية، لأن الوضعية المعقدة للمجتمع الاسرائيلي تدفع به على خلفية عقدة الأمن الى الاتجاه يميناً على المستوى الآني ويساراً على المستوى الاستراتيجي، أي: صقور في الحال الأمنية الآنية وحمائم في الحال المستقبلية، وهذا ما يفسر الاحتمال الذي ينبع من ظهور خيارات متسناع الأخيرة. الاحتمال الثاني: وهو خيار مفتوح ويبدو انه مجرّب" فإيهود باراك أدرك ان الاسرائيليين مع نتانياهو ومن سبقه وصلوا الى سقف القدرة على احتمال الوجود الطويل في لبنان باسم الأمن والدفاع عن المستوطنات الشمالية. كما انه أصر على أن اليسار كف عن الاعتقاد أن التوصل الى اتفاقية سياسية سيؤدي هو الآخر الى وضع حد للاستنزاف البشري والعسكري والاقتصادي في جنوبلبنان، وبالتالي أطلق وعداً واضحاً بالخروج من المستنقع، وقرر أمام الناخبين أن اسرائيل ستخرج من لبنان خلال سنة سواء توصلت الى اتفاق مع اللبنانيين أم لم تتوصل. هذا التعهد الذي أطلقه باراك وهو القادم حديثاً الى حزب العمل من رئاسة الأركان الاسرائيلية كان له فعل السحر في التحول في المناخ الاسرائيلي آنذاك. فباراك كان وجهاً جديداً بما يتجاوب مع الميل نحو التجريب، وطروحاته فيه شيء من الخلاصية... ولهذا نجح. مع مأزق الوضع الأمني والخيارين: يمين دموي ويمين أكثر دموية، وبذاكرة اسرائيلية مثقوبة لا تتذكر ما فعل نتانياهو، تأتي طروحات متسناع كي تعيد الأمل بحسب الصحف الاسرائيلية بحدوث معجزة سياسية تقلب الطاولة على اليمين الاسرائيلي وتحاول تجريب الخيارات المفتوحة التي يطرحها متسناع. فعدد القتلى في حرب الاستنزاف الجارية حالياً نافس خلال سنتين عدد القتلى خلال 18 عاماً من الحرب في لبنان، وهذا ما يفسر ان غالبية الاسرائيليين تفضل الفصل بين سرائيل وأراضي الضفة والقطاع. وليس الجدار الأمني الا صورة للمأزق الذي يعيشه اليمين في اسرائيل ويتجاوب معه الجمهور الذين نقلهم الاحباط واليأس الى الجناح الأيمن في الخريطة السياسية بعدما ملوا قادة حزب العمل الذين لم يفلحوا في اقامة حلّ بوقت قياسي. بمعنى ان البحث عن حل دائم واستثنائي وسريع هو الذي سيحدد هوية الناخبين من يمين ويسار بعدما كانت التخوم غير متمايزة بين الطرفين لفترة طويلة. السؤال المطروح: هل سينجح متسناع في تحقيق الانقلاب، على رغم مهمتيه الصعبتين. الأولى: اعطاء هوية جديدة لحزب العمل بدلاً من ليكود آخر أو ليكود للفقراء بحسب بعض التعبيرات، وتجنب الانشقاق الداخلي فيه ورفع تهمة الطائفية. والثانية: أن يستثمر استمرار العمليات الاستشهادية لطرح نفسه كبديل تاريخي، خصوصاً أنه طرح مشروعاً جريئاً للغاية أظهره متمايزاً عن خصمه وأمّن له فوزاً لم يكن متوقعاً قبل نحو ثلاثة أشهر، إذ كان يتعرض للسخرية ويسمى المرشح الصوري. ويعتقد ان استجابة متسناع لحاجات الوسط واليسار معاً هي التي دفعته الى الفوز، وهما اللذان وجدا فيه البيت المنشود. والتساؤل مشروع الآن عما إذا كان في استطاعة هذه الطروحات تحت وابل التفجيرات ان تقلب المناخ الانتخابي الاسرائيلي لدعم مثل هذا الخير في صورة تؤمن الانقلاب السياسي العام. ما يميز متسناع، بحسب عضو الكنيست الاسرائيلي غولد شميدت، ان لديه احساساً جدياً وناجحاً بالوقت وجرأة مدنية، بعد جرأته العسكرية عندما وقف في وجه وزير الدفاع آنذاك شارون في حرب لبنان، والتي تجلت بالقول مباشرة لناخبيه: ثمة طريق ثالث. هذا الطريق سيمايزه أفقه المعرفي. فهو خريج الداخلية العسكرية ويحمل بكالوريوس في الجغرافيا والماجستير في العلوم السياسية، في الوقت الذي كان يحكم حزب العمل بنيامين بن اليعيزر ذو التعليم الثانوي وخريج مدرسة القيادة والأركان في الجيش الاسرائيلي وكلية الأمن الوطني، الأمر الذي كان يفسر ميله الى الذيلية لليمين الاسرائيلي وعدم تمايزه عن عقدة الأمن المتأصلة في الأخير. كل الاحتمالات مفتوحة مع قدوم متسناع الذي لم يكتف بطرق طروحات دراماتيكية، الا انه أيضاً كان جريئاً الى حد تجاوز مستشاريه بإعلان عن أنه سيفاوض عرفات، لكن السؤال يطرح نفسه هنا: أين هو المسار السوري في برنامجه السياسي؟ * كاتب سوري.