Jean Olivier Heron. Modeste Propsition. اقتراح متواضع. La Decouverte, Paris. 2002. 64 pages. ما قرأت قط نقداً لاسرائيل ألذع من هذا النقد. وهذا من قبل كاتب فرنسي يصرح منذ مطلع كتابه بأنه يحب اسرائيل ويحب الشعب اليهودي الذي يلتئم شتاته فيها كما لو أنه قطعة من جسده. والواقع ان مثل هذا النقد ما كان ليصدر إلا عن كاتب يعلم مسبقاً انه في حمى من شبهة اللاسامية. واللاسامية هي، كما يقول، الرهاب الذي طالما شل المثقفين الأوروبيين عن ممارسة النقد حيال اسرائيل. اسرائيل التي يقول، في فاتحة كتابه ايضاً، انها جلبت على نفسها العار بممارستها سياسة سحق العظام تجاه شعب مستقر منذ آلاف السنين فوق أرضه، من دون ان يكون لها من ذريعة تحتج بها سوس الادعاء بأن هذا الشعب يحيك "مؤامرات أرانب" بهدف الإلقاء بالقناصة الى البحر. اسرائيل التي جلبت العار على هيئة الأممالمتحدة بقدر ما ألزمتها بأن تقف مكتوفة الأيدي ازاء جميع جرائم سحق عظام الفلسطينيين التي اقترفها ويقترفها جنود جيش "الدفاع" الاسرائيلي، كما في جنين مثلاً. اسرائيل التي جلبت العار على اميركا نفسها بقدر ما ان هذه الأخيرة اختارت ان تنحاز الى "معسكر القناصة" ضد "معسكر الأرانب"، مقدمة بذلك خير الذرائع لعدوها الذي يكرهها حتى الموت، أي ابن لادن، وكل ابن لادن آخر يمكن ان تحبل به أمه في رحم اليأس المطلق للشعوب العربية التي تقف حكوماتها عاجزة عجزاً مطلقاً ايضاً عن تقديم يد العون للأشقاء الفلسطينيين. اسرائيل التي جلبت العار على سائر الديموقراطيين ومحبي الديموقراطية في العالم بقدر ما قدمت مثالاً على العكس لدولة صغرى تملي ارادتها على مجمع أمم العالم. وأخيراً اسرائيل التي جلبت العار على ضحايا المحرقة - الأبشع من نوعها في التاريخ - بقدر ما حولت أحفادهم الى حراس في أكبر سجن مفتوح في العالم. ومما يزيد في لذع هذا النقد الموجه الى اسرائيل، وبخاصة الى سياستها تجاه الفلسطينيين، انه مكتوب بلغة ساخرة وساذجة معاً تذكّر بلغة كبار كتّاب السخرية السياسية في مطلع القرن الثامن عشر من أمثال الايرلندي جوناثن سويفت. من نماذج هذا النقد الساخر الحوار الذي يديره كاتبنا بين نفسه وبين صديق اسرائيلي ساخط على ادانته "التسوية" للعنف وللعنف المضاد في اسرائيل/ فلسطين، وبالتالي على وضعه "الجندي" الاسرائيلي و"الارهابي" الفلسطيني في سلة واحدة، وبالتالي ايضاً على عدم تمييزه بين "الجريمة" و"العقاب". هنا يرّد كاتبنا وهو يستعير اسلوب سويفت: - على رسلك! ولكن اذا بدا لك على هذا الأساس ان الموت الذي يتسبب فيه الجنود الاسرائيليون هو اكثر لياقة من الموت الناجم عن تفجير المدنيين الفلسطينيين لأنفسهم، فلم لا تتركون في هذه الحال هؤلاء الأخيرين يتجهّزون كما يتجهز الجيش النظامي ليصونوا شرف القتال بأسلحة متكافئة، وليواجهوا الدبابة بالدبابة، والصاروخ بالصاروخ، و"ف 16" ب"رافال"، وليموتوا بالتالي كجنود، بدلاً من ان ينتهوا محمولين في كيس من الجنفيص بأشلائهم المختلطة بأشلاء ضحاياهم الأبرياء؟ هذا ان لم تشأ ان تقلب المعادلة وتجعل الجنود الاسرائيليين يقاتلون قتال الند للند، فيردون بالحجارة على الحجارة في معارك أشبه بمعارك صبيان الحارات وتلاميذ المدارس، في ما قد يصح وصفه بأنه "حرب أزرار" على الطريقة الشرقية! اما اذا لم تتعادل الأسلحة، فلا مناص من ان تتعادل الدموع، وفي هذه الحال لا يملك المرء الا ان يقول شيئاً واحداً: الويل للأمهات من كلا الجانبين! والواقع ان كاتبنا لا يستعير من سويفت أسلوبه فحسب، بل كذلك "اقتراحه المتواضع" الذي جعله عنواناً لكتابه بالذات. فالكاتب الايرلندي المرير السخرية "عميد كاتدرائية القديس بطريق في دبلن"، كان نشر بالانكليزية عام 1729 "اقتراحاً متواضعاً" بهدف "منع اطفال الفقراء في ايرلندا من ان يكونوا عالة على أهلهم أو على وطنهم ولجعلهم نافعين للجمهور". ولقد كان مؤدى هذا "الاقتراح المتواضع" رهيباً. فقد لاحظ سويفت ان الايرلنديين امة مزواجة منجابة. فعلى رغم انهم أمة صغيرة ما كان يتجاوز تعدادهم في حينه مليونا ونصف مليون نسمة، فقد كانوا ينجبون سنوياً مئتي ألف طفل. واذا استثني من هذا الرقم خمسون ألف طفل يموتون ساعة الوضع أو في الأشهر الأولى من عمرهم بسبب الأمراض والأوبئة، وإذا استثني من ذلك الرقم ايضاً ثلاثون ألف طفل ممن يولدون من آباء وأمهات ميسوري الأحوال وقادرين بالتالي على القيام بعبء تغذيتهم وتربيتهم، فإن الباقين منهم - وهم مئة وعشرون ألفاً - محكوم عليهم بحياة العوز والفقر والجوع والأمية واللاتربية والتسول في الطرقات، هذا ان لم ينتهوا الى الجنوح وتنظيم عصابات السرقة الصغيرة. ومن هنا خطر لسويفت ان يصوغ "اقتراحه المتواضع" لتخليص الأمة الايرلندية الصغيرة من هذا العبء الثقيل الذي لا طاقة لها عليه، وكذلك لتخليص الأمة الانكليزية الكبيرة، المهيمنة على مصائر ايرلندا، من محاذير خصوبة الأمهات الايرلنديات التي من شأنها، اذا ما أطلق لها الحبل على غاربها ان تقلب موازين القوى الديموغرافية وان تزيد عدد "البابويين" - أي الكاثوليكيين - زيادة خطرة في مملكة بريطانيا العظمى الانغلكانية. وبمنتهى "الجدية"، بل مطالباً بأن ينصب تمثال له في الساحات العامة عرفاناً من الأمتين، الصغيرة والكبيرة، بجميله، يقترح سويفت التخلص من تلك الاعداد الكبيرة الفائضة عن الحاجة من أطفال فقراء الايرلنديين عن طريق سوقها الى المسالخ ودكاكين الجزارين بحيث يتم تحويلها من "أفواه لا مجدية" الى طعام لذيذ لتغذية جنتلمانات المملكة وإغناء ولائمهم بلحم بشري طفلي لا يقبل المقارنة، بحال من الأحوال، لا طعماً ولا طراوة، مع لحم الضأن أو البقر القاسي. وفضلاً عن ذلك، فإن جلود أولئك الاطفال التي لا تقل هي الأخرى طراوة، من شأنها ان تباع بأغلى الأثمان لتجار الجلود نظراً الى صلاحيتها الممتازة لتُصنع منها قفازات لطيفة للسيدات وأحذية صيفية رقيقة لمحبي الأناقة من رجال المملكة. أما عوائد تلك اللحوم بمعدل عشرة شلنغ للرأس الواحد في السنة، فمن شأنها ان تغذي خزينة المملكة بما لا يقل عن خمسين ألف جنيه في السنة، وان تزيد من قدرة الآباء الايرلنديين على التردد على الخانات والخمارات، وان تغني الأمهات الايرلنديات عن التسول في الشوارع وهن يجررن وراءهن خمسة أو ستة من "أفلاذ اكبادهن"، وان تمكن المزراعين الايرلنديين من تسديد التزاماتهم المالية لمالكي الأرض وتحاشي مصادرة محاصيلهم ومواشيهم، وأخيراً - وليس آخراً - ان تحرر دافعي الضرائب البروتستانتيين من عبء أداء ضريبة العشر لكنيسة الغالبية الكاثوليكية الفقيرة، وان توقف بالتالي مدّ هجرتهم الى اميركا هرباً من تسديد هذه الضريبة التي تدخل في تناقض مباشر مع محفظتهم ووجدانهم في آن معاً. هذا الاقتراح هو الذي يستعيده كاتبنا المعاصر جان أوليفييه هيرون. فالاشكالية الاسرائيلية - الفلسطينية تشابه من اكثر من وجه الاشكالية الانكليزية - الايرلندية. أمة قوية في مواجهة أمة ضعيفة، وديموغرافية منضبطة في مواجهة ديموغرافية منفلتة من عقالها، ومجتمع غني في مواجهة مجتمع فقير، وأخيراً - وليس آخراً - عدد كبير من أطفال الفلسطينيين الذين باتوا بحجارتهم، يمثلون إرباكاً للجنود الاسرائيليين المحتمين من "قذائفهم" بمدرعاتهم ودباباتهم المضاعفة التصفيح من طراز مركافا. ولكن بما ان أكل لحوم البشر، لا سيما الاطفال، لم يعد مستساغاً، فضلاً عن انه محرم في الشرعة الدولية في مطلع القرن الحادي والعشرين هذا، فإن كاتبنا يجري تعديلاً جوهرياً على اقتراح سويفت. فمن خلال زياراته المتعددة لاسرائيل في اطار عمله كمحرر في "دليل غاليمار للأراضي المقدسة" لاحظ ان الدولة الاسرائيلية، بعد فيضان الاسمنت المسلح الذي اجتاح هذه الأراضي نتيجة لإنشاء المستوطنات على مد الساحل والداخل معاً، باتت شديدة العناية بالحفاظ على التنوع البيئوي، الحيواني والنباتي، وعلى وضع حد لانقراض الأنواع الحية. وبما ان الفلسطينيين هم نموذج نادر لنوع حيّ مهدد بالانقراض، نتيجة للتهجير ومصادرة الأرض والأملاك وتهديم البيوت وجرف الأراضي الزراعية واغلاق بوابات العبور والعمل، فضلاً عن ايقاع "معقلن" للتصفية المادية بمعدل ثلاثة قتلى في اليوم الواحد، فإن كاتبنا يقترح تحويل المناطق المتبقية في ايدي الفلسطينيين من "الأراضي المقدسة" الى محمية طبيعية يطلق عليها اسم Palestian National Park ويتمتع "النوع الحي" المقيم فيها ب"حق عدم الانقراض". فعلى هذا النحو تضمن "الارانب" الفلسطينية لنفسها الحماية من بنادق "القناصة" الاسرائيليين. كما من الموت تعطيشاً. فمعلوم ان الدولة الاسرائيلية تؤمن لمستوطنيها ولمواشيهم ودواجنهم عشرة أضعاف كمية الماء التي تسمح بوصولها الى الفلسطينيين، وبنسبة ملوحة أقل بعشرة أضعاف ايضاً، وفضلاً عن ذلك فإن "المحمية الطبيعية الفلسطينية" من شأنها ان تجلب اعداداً كبيرة من السياح، الأمر الذي سيغني الخزينة الاسرائيلية، عدا انه سيخفف من لوم الشقيق الكبير الاميركي الذي لا بد ان يضيق ذرعاً ذات يوم بالافعال الانتقامية "المفرطة في استعمال القوة" من جانب الشقيق الصغير الاسرائيلي، والذي لا بد ايضاً ان ينظر بعين الاستحسان الى اسرائيل وهي تكرر في الشرق الأدنى التجربة التاريخية لأميركا في الغرب الأقصى: فمن "هنود حمر" برسم الإبادة سيتحول الفلسطينيون في محميتهم الطبيعية الى نوع حي برسم الحماية من الانقراض!