باشر رئيس لجنة الرصد والتحقق والتفتيش هانس بليكس مهمته يوم الأربعاء الماضي، محمّلاً العراق مسؤولية تقديم أدلة واثباتات مقنعة انه لا يملك أسلحة دمار شامل. وتوقع رئيس "أنموفيك" ان يقدم تقريره الأول الى مجلس الأمن في 27 كانون الثاني يناير عقب الانتهاء من عملية التفتيش الأولى التي أوكلت اليه استناداً الى القرار 1441. وهي عملية بالغة الخطورة لكونها تمنح بليكس وأفراد طاقمه المئة، مسؤولية تنفيذ نظام رصد من المتوقع أن يحدث اختراقاً في جدار السيطرة المطلقة التي يمارسها صدام حسين على العراق منذ سنة 1979، بل منذ انقلاب 17 تموز يوليو 1968 عندما كان يحكم من وراء الستار طوال فترة رئاسة احمد حسن البكر. ويرى المراقبون ان الخيار الذي لجأ اليه صدام حسين بهدف حماية نظامه من ضربة عسكرية مدمرة، قد يكون الخيار المطلوب أميركياً لتنفيذ عملية اغتيال يقوم بها أحد الضباط على طريقة بينوشيه في تشيلي، خصوصاً وأن مجلس الأمن أعطى لجنة التفتيش سلطة استثنائية تفرض على صدام الامتثال لمطالبها وفتح أبواب كل القصور أمام أفرادها. ومعنى هذا ان الرئيس العراقي لم يعد شبحاً خفياً مرهوباً يصعب رصد تحركاته داخل الملجأ الأمني الذي بناه له مهندسون يوغوسلاف، بل تحول - إثر قبوله قرار مجلس الأمن - شخصاً متهماً يمكن استجوابه والتحقيق معه، وفي حال امتناعه عن التجاوب مع رغبات المفتشين يكون قد أعطى الحجة للهجوم المتوقع. يقول الديبلوماسيون العرب في واشنطن ان قبول العراق مبدأ عودة المفتشين خضع لسلسلة محادثات سرية قامت بها روسياوفرنسا مع الإدارة الاميركية. وبما ان هاتين الدولتين مهتمتان باسترداد ديونهما الضخمة من العراق، فقد أكد لهما الرئيس جورج بوش المحافظة على نصيبهما من شراكة مجزية إذا هما أيدتا مشروع القرار المعدل. واشترط بوتين عدم استخدام القوة العسكرية لاسقاط نظام صدام حسين إذا ما أثبتت لجنة التفتيش خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل. ويتردد في موسكو انه طلب من بوش تجديد الصفقة التي عقدت بين خروتشيف وكينيدي عام 1961، أي الصفقة التي أزيلت بموجبها الصواريخ من كوبا مقابل وقف عمليات التآمر ضد نظام كاسترو. وبسبب ذلك الاتفاق استمر الرئيس الكوبي في الحكم حتى اليوم. ويبدو أن وزير خارجية روسيا ايغور ايفانوف استخدم منطق ذلك الاتفاق لاقناع صدام حسين بأن استمراره في الحكم رهن بالموافقة على مشروع سلام الشرق الأوسط بعد ازالة أسلحة الدمار الشامل والامتناع عن تهديد اسرائيل. ويستدل من مراجعة صياغة القرار 1441 ان الخيار العسكري لم يستبعد، وان الولاياتالمتحدة ليست في حاجة الى قرار ثان من الأممالمتحدة، كما أعلنت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس. وكان من الطبيعي ان يخلق هذا الالتباس خلافاً في التفسير بين واشنطن ولندن من جهة وبين باريسوموسكو من جهة أخرى. ولقد خرج هذا الخلاف الى العلن عندما قال الرئيس جاك شيراك ان شن حرب ضد العراق يحتاج الى قرار من مجلس الأمن... في حين صرح وزير الخارجية الاميركي كولن باول بأن بلاده لا تحتاج بالضرورة الى تفويض جديد من الأممالمتحدة لشن حرب على العراق. وفجأة حسم خطاب الرئيس بوش هذا الجدل عشية وصول فرق التفتيش الى بغداد، بإعلانه من بوخارست الدعوة الى التصدي للديكتاتوريين واطاحة صدام حسين كما أطيح نيقولاي تشاوشيسكو. وكان هذا التصريح كافياً لاظهار النية الاميركية المبيتة بأن القرار 1441 ليس أكثر من عملية تمويه موقتة أريد بها ارضاء فرنساوروسيا والمانيا والصين، خصوصاً وأن دعوة التخلص من صدام حسين كانت بمثابة تحريض سافر على القتل، تماماً مثلما شجع غورباتشيف الجماهير الرومانية على قتل الرئيس تشاوشيسكو. السؤال المطروح قبل شن المعركة الأخيرة ضد النظام العراقي، يتعلق بطبيعة الاسلوب الذي استخدمته الولاياتالمتحدة للتوصل الى تحقيق نصر سياسي من دون قتال؟! الجواب يكمن لدى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي أنشأ في "البنتاغون" مكتباً خاصاً للتضليل والتلفيق والكذب. ومع ان التعاطي في شؤون الدعاية ونشر الاشاعات كان محصوراً بوزارة الخارجية والاستخبارات المركزية، إلا أن ضعف أدائهما أثناء حرب افغانستان أعطى البنتاغون دوراً اضافياً لتجميل صورة الحملة الاميركية. وعليه قرر رامسفيلد مع رئاسة الأركان، تأسيس وحدة خاصة تحمل اسم "مكتب التأثير الاستراتيجي"، تنحصر مهمتها في نشر اخبار ومعلومات ملفقة تشرف على توزيعها شركة "مجموعة ريندون". وتمثل هذه المجموعة شركة علاقات عامة سبق وقدمت خدمات استشارية لل"سي اي ايه" ولدولة الكويت أثناء فترة الغزو، وللمؤتمر الوطني العراقي المعارض. المثقفون في أوروبا انتقدوا بشدة النهج الإعلامي الأميركي الجديد، لأنه في نظرهم يحارب الارهاب بشن ارهاب فكري مضاد يؤدي تلقائياً الى تغيير جذري في طبيعة النظام الديموقراطي. وكتبوا سلسلة مقالات في صحف مختلفة بينوا فيها مساوئ التحول من مجتمع يحكمه السياسيون الى مجتمع يحكمه العسكريون. وأبرزوا في هذا السياق أخطاء المكتب الجديد المنقول عن "مكتب التأثير الشعبي" الذي أنشأه وزير الدعاية والتنوير النازي جوزيف غوبلز تحت شعار: اكذب... ثم اكذب... ثم اكذب، فلا بد أن يصدق الناس كذبة واحدة! ويرى المؤرخون ان الحرب الإعلامية التي شنها غوبلز كانت أفعل وأقوى من الحرب العسكرية التي شنها هتلر بدليل انها تحولت الى نهج متبع في غالبية الأنظمة الديكتاتورية. ولقد تحدث عنها الكاتب روبرت هيرتز شتاين في دراسة ضخمة عنوانها: "الدعاية النازية، أو الحرب التي ربحها هتلر". وتفاخر بريطانيا بمكاتب الخداع والتضليل التي أسستها وزارة الإعلام خلال الحرب العالمية الأولى تحت اشراف قطب الصحافة اللورد بيفربروك. كما أسست في الوقت ذاته دائرة خاصة سميت "دائرة الدعاية ضد العدو" باشراف اللورد نورثكليف، واقتصرت مهمته عام 1917 على اخضاع الصحف للرقابة الرسمية واستنباط حملات سياسية بواسطة الصحف والملصقات والمنشورات بهدف التأثير على تفكير الرأي العام. أما بالنسبة لقرار اطلاق مكتب التضليل الإعلامي من واشنطن، فإن الأسباب الموجبة نشأت من عدة اعتبارات أهمها: أولا، معارضة القيادة لخوض حرب ضد العراق يمكن أن تغرق القوات الأميركية في مستنقع من الدم شبيه بمستنقع فيتنام. ثانياً - استبعاد فكرة الاعتماد على القوى المعارضة في الشمال والجنوب، الأمر الذي يجعل من الحرب جبهات طويلة مفتوحة من تركيا حتى الأردن ومن ايران حتى الكويت. ثالثاً - مخاطر القيام بهجوم بري واسع ترفض الدول العربية المحيطة بالعراق أن تشارك فيه كما فعلت عام 1991. لهذه الأسباب وسواها قررت الادارة الاميركية استخدام حرب التضليل والبلبلة لكي تبعد عن نفسها مخاطر التورط في معارك برية يصعب تقدير خسائرها وضحاياها. وبدلاً من ان تعترف بالمأزق العسكري الذي تعانيه، شنت هجوماً اعلامياً مركزاً استهدف كل الدول العربية المعارضة للحرب مثل السعودية ومصر والأردن وسورية والامارات العربية المتحدة. وشددت في حملة التعمية والتمويه على وصف الآثار المدمرة التي ستخلفها تداعيات سقوط نظام صدام حسين. وتقدر صحيفة "نيويورك تايمز" ان مكتب التضليل الاعلامي كان يصدر كل يوم اكثر من عشرين تحقيقاً ومقالاً وتحليلاً يوزعها المكتب على المجلات والصحف ومحطات التلفزيون والراديو في مختلف القارات. وركزت هذه المقالات المضللة على أمرين مهمين: الاول يهتم بوصف النتائج العسكرية التي سيحدثها الهجوم الاميركي بحيث يؤدي ذلك الى اضعاف معنويات صدام حسين وضباطه، الامر الذي يدفعهم الى القبول بالمفتشين. والثاني يشدد على إبراز الاهتزازات السياسية التي ستعانيها الدول العربية بسبب سقوط النظام العراقي. ورسمت عدة مقالات هادفة مقارنة بين التغيير الذي حدث بعد سقوط الشاه وقيام الثورة الاسلامية في ايران، وبين ما يمكن أن يحدث بعد سقوط نظام صدام حسين والآثار التي ستترتب عن ذلك على الصعيد الاقليمي. وكان واضحاً ان الحملات المتكررة ضد السعودية نتجت عن موقفها السياسي المعارض لاستخدام القوة العسكرية ضد العراق، قبل استنفاد الوسائل الديبلوماسية. كذلك اتضح ان ارتباط سورية بعلاقات تجارية مع بغداد، كان يزيد من اتهامها بحماية جبهات الرفض مثل "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"حزب الله". وهكذا نتج عن هذه الحملات شبه قناعة جماعية بأن التغيير في العراق سيغير طبيعة النظام الاقليمي، وسيحدث ثورات داخلية ضد الأسر الحاكمة. ونجحت اميركا في دفع سياسة التهويل الى أقصى مدى ممكن بحيث استسلم صدام حسين الى الضغوط الخارجية، ووافق على عودة المفتشين تنفيذاً لقرار لا يختلف في شروطه عن قرار استسلام اليابان بإرادة الجنرال ماك آرثر. ولقد أمر باخراج كل المساجين السياسيين خوفاً من اتهامه بانتهاك حقوق الانسان. وفي ضوء هذه النتيجة غير المتوقعة، باشرت الولاياتالمتحدة في إعداد ما وصفته مجلة "تايم" في عددها الأخير ب"الحرب قبل الحرب". وتعترف المجلة التي اختارت تمثال صدام غلافاً، ان البنتاغون تعلم من اختبارات سابقة في افغانستان والبلقان، أهمية الحرب النفسية في إضعاف ارادة القتال لدى العدو. وهي تدعي أن أربعة من كبار ضباط الاستخبارات العراقية اتصلوا سراً بمسؤول اميركي، معربين عن استعدادهم للانضمام الى صفوف الفريق الرابح، أي الفريق الاميركي. ومن المؤكد ان توزيع مثل هذه المعلومات يخدم أهداف الولاياتالمتحدة، ويعزز دورها العسكري كقوة تخويف وترهيب استطاعت ان تربح حرباً من دون قتال. كما استطاعت ان تقفز بنفوذها الى داخل العراق، وتتسلل الى المواقع المحرمة كالقصور والملاجئ والمخابئ من دون أن تخسر جندياً واحداً. وهي اليوم تهيئ بواسطة المفتشين، لقيام انقلاب شبيه بالانقلاب الذي أعده هنري كيسنجر في تشيلي ضد الرئيس الليندي. والملفت ان جورج بوش كلف كيسنجر رئاسة لجنة متخصصة في دراسة الاسباب التي حالت دون تفادي هجمات 11 أيلول سبتمبر. وربما يستفيد من اختباراته السابقة في ميدان الانقلابات والاغتيالات ورسم حدود الشرق الاوسط الجديد حسب خريطة صديقه وملهمه في تأجيج حربي قبرص ولبنان المؤرخ برنارد لويس. ويتردد في واشنطن ان جورج بوش قرأ باعجاب سلسلة المقالات التي نشرها هنري كيسنجر في صحيفة "لوس انجليس تايمز" تحت عنوان: "الطريق الى القدس تمر عبر بغداد وليس العكس". وبما ان الرئيس الاميركي عازم على اتباع هذا الخط السياسي، فإن ترشيح العزيز هنري لخلافة كولن باول قد يكون احد الخيارات المطروحة بعد الانتهاء من حرب العراق. هذا الاسبوع نشرت الصحف الاميركية خبراً مفاده ان الرئيس بوش وقّع على خطة الهجوم على العراق التي ستعتمد على 250 ألف جندي. وذكرت ان الحملة الجوية ستستمر شهراً على الأقل، وستكون مستوحاة من العبر المستخلصة من حرب افغانستان. وقالت ان الهجمات الجوية تهدف الى عزل القيادة العراقية في بغداد، كما ستحاول تفادي الاحياء المدنية ومحطات الكهرباء وخزانات المياه، وأعلن وزير الدفاع البريطاني جيف هون ان بلاده مستعدة لخوض الحرب ضد العراق، وان دبابة "تشالنجر - 2" اصبحت جاهزة للعمل في الصحراء. وكان بذلك يجيب على اعتراض النواب الذين اطلعوا على تقرير القيادة المتعلق بدبابة تشالنجر اثناء التمارين التي اجرتها في رمال سلطنة عمان. ويذكر التقرير ان الدبابة توقفت بعد اربع ساعات بسبب انسداد مصفاتها من جراء تراكم الرمال. المهم من كل هذا ان الادارة الاميركية اعطت تاريخ الثامن من كانون الاول ديسمبر المقبل، موعداً لبدء العد العكسي للهجوم المتوقع. ويبدو أنها اختارت هذا التاريخ اثر انتهاء شهر رمضان المبارك لكي تؤكد للمسلمين ان ما اجازته في افغانستان لن تجيزه في العراق. اما الحكومة البريطانية فقد اعلنت عن موعد الحرب في كانون الثاني يناير او شباط فبراير 2003 في حال رفض صدام حسين التعاون مع المفتشين. والثابت من كل ما تقدم ان واشنطن لا تزال تراهن على انتصار الحرب النفسية، بدليل ان كل ما ذكرته عن وصول قوات واسلحة ودبابات ومصفحات ليس له وجود في الكويت أو قطر أو تركيا... وان ما تزعمه عن تحرك 250 ألف جندي ليس له أثر خارج دعاية "مكتب التضليل!". * كاتب وصحافي لبناني.