ما الذي يشغل الوعي الثقافي لناقد أدبي يعيش هذا العصر الذي تحوّل فيه الكوكب الأرضي إلى قرية كونية صغيرة؟ أتصور أن مشاغل هذا الوعي تغدو مشاكل متعددة الأبعاد، مشحونة بهمومها ومطامحها ومشكلاتها النابعة من هذه الهموم والمطامح في آن. أقصد إلى مشاكل تتجسّد بها خصوصية هذا الوعي وملامحه النوعية، سواء في علاقته بالعالم المتقدم من حوله، أو علاقته بحاضر التخلف الذي يعانيه في عالمه الذي ينتسب إليه، أو علاقته بماضي هذا العالم الأخير، ومن ثم تراثه الممتد الذي ينطوي على كثير من جوانب السلب وجوانب الإيجاب. ولا تنفصل عن ذلك كله علاقة هذا الوعي بنفسه، سواء على مستوى الإفراد الذي يغدو به الوعي نفسه ذاتاً وموضوعاً، أو على مستوى الجمع الذي تتعدد فيه الرؤى، وتغدو الحاجة ماسة إلى الحوار البناء والتفاعل الخلاّق من منظور التسامح ورغبة الإفادة. أما البعد الأول فيتصل بعلاقة المثقف العربي بالعالم المتقدم الذي يتسارع إيقاع تقدمه يوماً بعد يوم، وتتزايد حدة المسافة التي تفصل تقدمه المتسارع عن الواقع الجامد لمجتمعاتنا العربية، تلك التي لا تستطيع - بحكم ما هي عليه من تخلف - أن تفارق علاقات التبعية السياسية الاقتصادية أو الاتبّاع الفكري الثقافي الغالب عليها. وهو وضع يفرض على المثقف العربي موقفاً متميزاً في تعقيده أو ازدواجيته، فعلى هذا المثقف - من ناحية أولى - أن يتابع أوجه تقدم العالم الكوني الذي يعيش فيه ويتأثر به، وأن يغدو أكثر يقظة في التعرف على كل أسرار التقدم وآلياته، خصوصاً في هذا الزمن الذي تحطمت فيه الحواجز والسدود، وتحول فيه الكوكب الأرضي كله إلى فضاء مفتوح بفعل الثورة المذهلة من تقنيات المعلومات والاتصالات، الأمر الذي ما عاد يمكن فيه لأحد أن ينعزل عن المسار المتسارع للتقدم، أو يتوقف عن التفاعل مع تياراته المتوازية أو المتعارضة أو المتصارعة. ويعني ذلك أهمية المعرفة، العميقة لكل ما يحدث في القرية الكونية الصغيرة التي نطلق عليها اسم الكوكب الأرضي، وتأمل دلالات التحول التي تصحب المتغيرات العالمية والحوار مع التيارات الفكرية الجديدة التي تصل ما بعد الحداثة بالعولمة بالأفكار المتعارضة عن حوار الحوارات وصراعاتها في الوقت نفسه. وإذا كان الحوار يتطلب لغة الأكفاء الذين يشعرون بالندية العقلية مع كل من يقع في دائرة حوارهم، جاعلين الأولوية للوعي النقدي ومنطق المساءلة وروح التسامح، فإن تقدم الحوار يعتمد على المعرفة المتعمقة التي لا تتوقف عند حد، ولا تنهكها المتابعة المضنية لكل ما يحدث ويكتب ويرى في القرية الكونية الممتدة، وذلك من منظور الثقافة التي نحياها في سعينا إلى تمييز خصوصيتها، أو التي نعانيها في بحثنا عن أفق واعد لها. وأتصور أن هذا المنظور يكشف عن الناحية الثانية التي تكشف - بدورها - عن خصوصية وضع المثقف العربي، بالقياس إلى أشباهه من المثقفين في العالم المتقدم، فهو - في الوقت الذي يشعر بمسؤوليته عن متابعة التقدم في القرية الكونية التي تحيط به - مؤرق بمسؤوليته عن مواجهة التخلف الذي لا يزال قائماً في مجتمعه، والذي يفرض عليه التصدي لمشكلاته، والبحث عن حلول جذرية لأوضاع متقادمة، لا علاقة لها بإيقاع العصر الذي نلهث في متابعة متغيراته. وتفرض المسؤولية الأولى على المثقف العربي أن يتفاعل مع قضايا التقدم العالمي، ويفيد منه، ويسعى إلى أن يدخل طرفاً فيما تفرضه من حوار، كي يغدو مسهماً بحضوره في المدى العالمي للتنوع البشري الخلاق. أما المسؤولية الثانية فتفرض على المثقف نفسه، وفي الوقت ذاته، أن يبحث عن حلول أكثر جذرية لقضايا التخلف التي تحيط به، معانياً ما لا يعانيه قرينه مثقف العالم المتقدم من ألوان القمع السياسي، وأشكال التطرف الديني وضغوط الأزمات الاقتصادية والجمود الاجتماعي. بعبارة أخرى، يبدو هذا المثقف منقسماً على نفسه ما بين وعي التقدم الذي يراه بعينه، ويتطلع إليه بقلبه، ووعي التخلف الذي ينغمس فيه، باحثاً عن حلول أكثر جذرية. والواقع أنه لا فارق جذرياً بين المسؤولية الأولى لوعي التقدم والمسؤولية الثانية لوعي التخلف، فكلتاهما وجهان لعملية عقلية متحدة، هي عملية الوعي النقدى الذي يضع كل تقدم يراه - أو يتأثر به - موضع المساءلة، في الوقت نفسه الذي لا يكف عن مساءلة شروط التخلف المحيطة به، ساعياً إلى اكتشاف أسبابها الدفينة، وتعرية جذورها المتقيحة، ونتائجها التي وصلت ما بين السياسي والاقتصادي والديني والثقافي والاجتماعي. حال المثقف العربي في هذا الوضع حال الازدواج المتجاوب الذي تتحول به عملية الوعي النقدي إلى عملية جدلية، أو - على الأقل - عملية يتبادل طرفاها التأثر والتأثير. أقصد إلى أن كل نجاح يحرزه المثقف في تفهم شروط العالم المتقدم ومن حوله، وكل إنجاز يضيفه في مدى مساءلة هذا العالم والكشف عن أسراره، يفضي إلى نجاح مماثل في تفهم شروط الواقع المتخلف، ويدفع الفهم إلى المضي بعيداً في مساءلة العلاقات التي تتولد عنها مشكلات التخلف وقضاياه، العكس صحيح بالقدر نفسه، فكل إدراك سليم للواقع الذي يعيشه المثقف العربي، وكل فهم عميق لمشكلاته النوعية وخصوصية أوضاعه الضاغطة، لا بد أن يفضي إلى صياغة جديدة لأسئلة جذرية، يمكن أن تجد الإجابة عنها في متابعة أحوال التقدم ومساءلة ظواهره المصاحبة. ويزيد من الدلالة الجدلية في هذا الوضع الذي تتبادل أطرافه - حتى في علاقات تعارضه - التأثر والتأثير، أن كل شيء في هذا العالم أصبح موصولاً بغيره، وأن شروط إنتاج المعرفة تقدمت على نحو استثنائي مع أدوات توصيلها وتقنياتها الحديثة، فأحدثت تغيرات جذرية في علاقات المعرفة المتبادلة وعمليات المثاقفة. ولذلك أصبح ما يحدث في أي مكان في العالم مشاهداً في العالم كله بواسطة الأقمار الاصطناعية والفضائيات التي أحدثت تغييرات جذرية في دلالات الزمان والمكان، فاختزلت امتداد المساحة الزمنية إلى الفيتو ثانية، وأحالت الأمتداد اللانهائي للمكان إلى تزامن آني لا يعرف الحدود أو السدود، ويستبدل بالمعرفة اللاحقة المعرفة الآنية التي تسقط المفاهيم الجديدة للزمان على المغزى المتغير للمكان. وقل الأمر نفسه على مواقع المعرفة الجديدة على شبكات الانترنت، أو الأنواع المستحدثة من الكتب المطالعة على شاشاته، أو الحلقات النقاشية التي يتوصل بها المثقفون على اتساع العالم كله، ويتبادلون الرأي والمشورة والإفادة المعرفية من دون أن يغادروا أماكنهم. والحق كل الحق مع أولئك الذين يتحدثون عن الحاجة الماسة إلى خرائط عقلية جديدة لأوضاع العالم المعاصر، خصوصاً بعد أن شهد هذا العالم من التغيرات الجذرية ما جعله يشهد أفقاً مختلفاً اختلافاً جذرياً في شروطه فالخرائط العقلية القديمة أصبحت بالية، عاجزة عن الكشف عن التوجهات الجديدة للعالم الذي تغير تغيرات جذرية ما كان يمكن لأحد أن يصدقها من قبل، أو حتى يتخيلها، منذ ثلاثة عقود أو أقل، في المدى الزمني الذي يفصل ما بين عالم كان قائماً على الثنائية القطبية بين قوتين عظميين، وعالم يقوم - اليوم - على أحادية قوة واحدة، تقوم بدور امبراطور العالم الجديد الذي يفرض شروط وقواعد جديدة للعبة. وفي موازاة هذا التغير السياسي هناك عشرات من المتغيرات الجذرية الموازية، سلبية وإيجابية، تبدأ من التطور المذهل في تقنيات المعرفة، وفي علاقات توزيعها التي عرفت أشكالاً أحدث من الهيمنة، ولا تنتهي عند الصراع بين منظمات الاستغلال العالمي الجديد.... ولا يمكن للمثقف العربي، في علاقات المعرفة المتغيرة، أن يتكئ بالطريقة نفسها على مقولاته القديمة، منكفأ عليها كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمل، فقد أصبح هذا المثقف يعيش تحديات عالم لا ينفع في مواجهتها الاقتصار على إرشادات رؤى العالم التي ورثها عن زمن الاستقطاب، مكرراً الموقف الهزلي لمحاولة فهم عالم جديد بقواعد رؤية عالم قديم، فالجدِّة الجذرية لآفاق العصر التي تواجهه تفرض عليه التخلي عن الطرائق العقلية التي أصبحت بالية، غير مجدية، ومن ثم تغيير العدسات التي لم تعد معينة على الرؤية السليمة، والبحث عن عدسات جديدة تريه ما لم يكن قادراً على رؤيته من قبل، عدسات أكثر فاعلية في تضافرها مع الخرائط العقلية التي لا بد من استكمال صياغتها لتجديد ملامح آفاق العصر الذي أصبحنا نعيش في متغيراته التي لا تكف عن التدافع. وإذا كان هذا الوضع يدفع إلى وضع نظريات الزمن الجديد موضع المساءلة، والاستعداد للدخول في حوار متكافئ معها، وإبداء المرونة العقلية اللازمة لفهم المتغيرات التي تستجيب إلى مبدأ الواقع لا مبدأ الرغبة، فإن الوضع نفسه يفرض التنقيب المغاير في تربة الواقع، والبحث في علاقاته المتجاوبة، وتسليط الضوء على مناطقه المعتمة، وانطاق المسكوت عنه من الخطاب المكبوت أو المقموع سياسياً واجتماعياً وفكرياً. وبالقدر نفسه، يفرض الوضع الجديد على هذا المثقف المضي في إعادة قراءة التراث بما يستجيب إلى الخرائط العقلية الجديدة على كل المستويات. ولا فاصل بين منظور الرؤية في كل بعد، فما يحدث في العالم المتقدم لا بد أن يوضع موضع المساءلة نفسها التي تنصب على الواقع الذي نعيش سواء في زمنه الحاضر أو زمنه الماضي على السواء. وإلحاحي على المساءلة - في مثل هذه السياقات - نابع من إيماني بأهمية الوعي النقدي في هذه المرحلة المتغيرة من حياتنا، فهي مرحلة لا بد أن نتأمل عميقاً علاقاتها المائزة وشروطها المتغيرة. وإذا كان التأمل يعني درجة مطلوبة من بُعْد الوعي المُدْرِك بكسر الراء عن الموضوع المُدْرَك بفتح الراء كي يراه في شموله وتعقد علاقاته، فإن نجاح التأمل قرين فعل المساءلة الذي يتحرر من الثوابت الجامدة والعدسات المعتمة، باحثاً عن كل ما يعين على التحرر من سجن اللحظة المعرفية، خصوصاً حين تطبق هذه اللحظة على الوعي بمداراتها المغلقة. بعبارة أخرى، لن يتحرر الوعي الفردي للمثقف في صياغة الخرائط العقلية الجديدة اللازمة لمجتمعه إلا إذا وضع موضوعاته موضع المساءلة الجذرية، وأضاف إلى ذلك قدرته على وضع نفسه - بأفكاره وأحلامه وفرضياته واجتهاداته - موضع المساءلة التي تحرره، معرفياً، من شباك إيديولوجيته الذاتية، وتجاوز به أوهام الذات إلى تصوراتها المتماسكة عن نفسها والواقع المحيط بها على السواء. ولا يكتمل معنى التحرر الفكري للوعي، في هذا السياق، إلا بجعل علاقة الوعي بذاته - في فعل المساءلة الخلاقة - أساساً لعلاقته بغيره معرفياً، وذلك في مدى الحوار البناء، فالقضاء على الأوهام الذاتية هو الوجه الآخر للقضاء على الأوهام الغيرية، ومساءلة الوعي لنفسه هي البداية السليمة لمساءلة الوعي لغيره. وكلتا المساءلتين تؤسس للمعرفة الحوارية بالنفس والآخر على السواء. أقصد إلى المعرفة التي لا تندفع من مطلقات، ولا تنبني على طرف أو أطراف تدعي احتكار المعرفة، وتتسلح بالمرونة العقلية والتسامح الاعتقادي، مبرزة نسبية المعرفة بصفتها لازمة من لوازم الحوار الذي لا يفضي إلى معرفة نهائية، وإنما إلى نقطة من نقاط التقدم التي تغري بالوصول إلى نقطة لاحقة تغري - بدورها - بالمضي إلى الأمام، في المدى الذي لا نهاية له من المعرفة الإنسانية التي لا يحدها حَدُّ أو تنتهي عند غاية نهائية مطلقة. * مقدمة كتاب يصدر قريباً في القاهرة.