من يتابع تفاصيل اجراءات اعادة تماثيل رجال الاستقلال الى مواقعها في لبنان يتبين له كما هو واضح ان هذه الاعادة على قيمتها الرمزية، لا تمثل اعترافاً من سياسيي اليوم بدور هؤلاء الرجال، اذا اعتبرنا ان الاعتراف يملي تصرفات مشابهة وأداءً سياسياً موازياً. ثم ان أمكنة هذه التماثيل، وهي ما زالت نفسها الى اليوم فقدت دلالات ومعاني انتقيت من اجلها في السابق. فتمثال أول رئيس لحكومة استقلالية لبنانية رياض الصلح الذي أعيد الى ساحته، وعلى رغم ما عاد وأضفاه عليها من مهابة، ومن إعادة ربط المكان بذاكرة وبأحداث، وبأسلوب في الحياة والتخاطب، خسر محيطاً كان على علاقة بوضعه وباختيار الجهة التي ينظر اليها رياض الصلح، وبمعانٍ كثيرة قد لا تكون مستمدة من وقائع فعلية، لكنها على ما يبدو كانت ترميزاً ذكياً وضرورياً. ويقول بيروتي عاصر رياض الصلح ان التمثال وضع عند نهاية المنحدر الذي ترتفع فوق السرايا الحكومية وخلفها أحياء بيروتية تقليدية، وكان يمثل رجلاً قادماً من هذه الاحياء ليلاقي هناك رفاقاً له وافدين من الجهة المقابلة في ساحة البرج، مكان التقاء لبنانيي الجمهورية الأولى. وتمثال رياض الصلح الذي أعيد ترميمه هو أكثر تماثيل رجال الاستقلال نجاحاً من حيث مطابقته ملامح صاحبه التي تتجاوز صورته الشخصية. فقد استمدها النحات الإيطالي مازكوراتي، الذي كلف مهمة صنع التمثال، بعدما اتصل بجميع أصدقاء رياض الصلح ومعارفه وحاول معرفة أسباب حبهم له وسبر أغوار شخصية هذا الرجل ومزاجه وأخلاقه. لذا خرج التمثال من بين يديه، رجلاً يقف وقفة يخاطب فيها طريقة في الوقوف والكلام تنبئ بمعرفة قريبة برياض الصلح. ومناسبة اعادة تمثال رياض الصلح الى مكانه بعد ترميمه، أعادت طرح موضوع تمثال أول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال بشارة الخوري الذي نالت منه الحرب بدورها أيضاً، لكن امكان ترميمه غير ممكنة خصوصاً ان الاضرار التي أصابته تفوق تلك التي أصابت تمثال رياض الصلح. فهو بعدما نسف، ذوبه الجناة وسرقوا مادة البرونز منه. ويقول نجل الرئيس السابق الراحل، الشيخ ميشال الخوري "ان التمثال لم يكن أصلاً ناجحاً، علماً ان نحاتاً إيطالياً سبق ان نحت وجه بشارة الخوري بطريقة أفضل، وهذا الوجه ما زال موجوداً، ونحن نفكر اليوم بإضافة الجسم اليه، وسنكلف نحاتاً لبنانياً ذلك، خصوصاً وأن المجلس البلدي الجديد لمدينة بيروت مهتم جداً بالأمر". والوجه الذي تحدث عنه ميشال الخوري والذي نحته في حياة بشارة الخوري فنان بلجيكي لم يعد يذكر اسمه، خالٍ من القبعة التي طالما اعتمرها بشارة الخوري ولازمت صورته لدى اللبنانيين، حتى الاجيال الجديدة منهم، في حين ان الفنان الايطالي الذي نحت تمثال رياض الصلح حرص على وضع الطربوش على رأسه، وهذا ربما هو الفرق بين ان ينحت رجل راحل من خلال صورته المتبقية في أذهان عارفيه. فتتجاوز قيمة التمثال الصورة المباشرة، وأن ينحت رجل حي أثناء جلوسه في صالونه مثلاً. والطربوش والقبعة هنا ليسا زياً فحسب وإنما جزء من أدوار اجتماعية وسياسية أيضاً تبادلها الرجلان أثناء حياتهما السياسية. ولهذا فهي في صلب شخصيتهما ودوريهما. ولبنان الذي أراداه نافذة للعالم العربي يطل من خلالها على أوروبا، أدى هذا الدور في البداية عبر ثنائية الطربوش والقبعة. ولم يكن معنى هذا ان رياض الصلح كان صلة لبنان الوحيدة بالعالم العربي، ولم يكن أيضاً بشارة الخوري الصلة الوحيدة بالغرب. فحين دعي بشارة الخوري الى قمة "إنشاص" العربية، وهي أول قمة للرؤساء العرب، ذهب اليه معتمراً الطربوش العربي، فيما لبس وزير الخارجية آنذاك كميل شمعون القبعة الافرنجية. وكان الهدف من ذلك الايحاء، وإن بخفر، للرؤساء العرب، بحقيقة التركيب الاجتماعي في لبنان، ثم ان رياض الصلح نفسه غالباً ما ظهر خلال زياراته للدول الغربية وهو معتمراً قبعة "افرنجية". والنحات الذي أنجز تمثال رياض الصلح قارب حقائق من هذا النوع. ويقول ميشال الخوري ان قرار عائلته في اختيار نحات لبناني لتكملة تمثال والده، يعود الى اسباب مشابهة، وهي انه اذا كان لبنانياً فلا بد من انه عرف عن بشارة الخوري ما يمكنه من توظيف معرفته في التمثال. أما التمثال الثالث، وهو تمثال الشهداء الذي فاز بمناقصة ترميمه معهد الفن المقدس في جامعة الكسليك، فأنجز وتقصد عصام خير الله الذي أشرف على عملية الترميم، ابقاء بعض الثقوب التي أحدثتها الرصاصات في أجسام أشخاص التمثال لتذكير الناظرين اليه بالحرب التي كان الوسط التجاري في بيروت أحد مسارحها، وضمنه ساحة الشهداء. وهذا يعني ان التمثال شهادتان واحدة لاستقلال لبنان وثانية للحرب التي مرت عليه. التمثال ما زال ينتظر في الكسليك انجاز شركة "سوليدير" قاعدته التي سيقف عليها. وفي السنة الماضية أعيد تمثال حبيب أبي شهلا الى موقعه في الساحة التي تحمل اسمه قرب قصر الأونيسكو في بيروت. لكنه عاد كاملاً بعدما كان نصفياً وبعدما دمرته إحدى الغارات الاسرائيلية أثناء اجتياح بيروت في العام 1982. وفي العام 1987 وبعد وفاة رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل، أقام نجله رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل تمثالاً عملاقاً لوالده في بلدته بكفيا، لكن عبوتين ناسفتين متتاليتين أدتا الى تحطيم جزء منه، والعائلة في صدد ترميمه واعادته الى قاعدته قريباً. أما تمثال المرحوم الشيخ عبدالحميد كرامي والد الرئيسين رشيد وعمر كرامي، والذي كان يتوسط ساحة عبدالحميد كرامي في طرابلس، فنسف بدوره في بداية الحرب، ويبدو ان ليس من امكان لترميمه. وقال الرئيس عمر كرامي ل"الحياة" ان رئيس الجمهورية الياس الهراوي سبق ان وعده بتكليف نحات إعادة نحته. لكنه أشار الى وجود مشكلة هي ان احد التنظيمات الاسلامية الاصولية وضع مكانه خلال الحرب نصباً لرمز ديني تتطلب ازالته فتوى شرعية، وإلا، فلا بد من تغيير مكانه. إذا كانت الحرب استهدفت بين أول ما استهدفت تماثيل رجال الاستقلال ما يعني ذلك من أنها كانت حرباً على ما يمثلون، فلا شيء يؤشر حتى الآن الى ان عودة هذه التماثيل عودة الى القيم السياسية التي نهضوا بلبنان على اساسها.