كان على جان دارك ان تنتظر نهاية القرن العشرين قبل ان يكون لها فيلم كبير يمجد حياتها وبطولاتها على الشكل الذي تستحقه، مغامرتها الغريبة. وكان عليها ان تنتظر حتى هذا الزمن الراهن لتجد في الفاتنة ميلا جوفوفيتش ممثلة تقوم بدورها على الشكل الذي يحلم به متابعو اسطورة البطلة الفرنسية الشهيرة. إذ، على رغم ان شخصية جان دارك فتنت دائماً الكتّاب والموسيقيين والرسامين وغيرهم من الفنانين وصولاً الى السينمائيين الذين كرسوا لعذراء اورليانز اكثر من 25 فيلماً اساسياً منذ اختراع فن السينما، وعلى رغم ان انغريد برغمان وساندرين بونير، قامتا - كل منهما في فيلم - بدور جان دارك، فإن ذاكرة السينما ظلت تحتفظ بصورة ممثلة "الكوميدي فرانسيز" المتقشفة السحنات والقرعاء الشعر، ماري فالكونيتي، بصفتها الأكثر ارتباطاً بشخصية البطلة، وأيضاً بفيلم "آلام جان دارك" للدنماركي كارل ت. دراير بصفته السينمائي الذي عرف كيف يقدم، باكراً ومنذ العام 1928، افضل وأهم فيلم حققه الفن السابع عن جان دارك. ولئن كان، حتى "جان دارك" لوك بيسون الذي تألقت فيه ميلا جوفوفيتش، عجز عن مضاهاة فيلم المعلم الدنماركي الكبير، فإن ما لا يتعين نسيانه هو ان كبار المخرجين، من روسليني الى سيسيل دي ميل الى فيكتور فليمنغ، من بعد جورج ميلياس، ومن قبل اوتو بريمنغر ثم، بخاصة، روبر بريسون، وقعوا افلاماً عن جان دارك... وكانت غالباً ناجحة. بيد ان النجاح الذي حققه - نقدياً بالتحديد، وتاريخياً- فيلم دراير، لم يوازه إلا النجاح الشعبي الساحق الذي حققه فيلم بريسون. ومع هذا شتان ما بين الفيلمين: فإذا كان الثاني استعراضياً فخماً، مملوءاً بالبطولات والمعارك، فإن الأول بسيط هادئ، تراجيدي يكتفي بتصوير يوم واحد من حياة جان دارك هو يوم محاكمتها والحكم عليها. فدراير لم يكن يهمه ان يصور المعارك والنضال، بقدر ما كان يهمه امر آخر تماماً، عبر عنه يومها بقوله: "لقد كانت نيتي وأنا احقق فيلم "جان دارك"، تكمن عبر اكسسوار الأسطورة وحيثياتها، في اكتشاف الفاجعة الإنسانية الكامنة وراء هالات البطولة، وفي شكل اكثر تحديداً: اكتشاف الصبية التي كانت تدعى جان. كنت اريد ان أقول ان ابطال التاريخ هم، ايضاً، كائنات انسانية". الحقيقة ان دراير نجح تماماً في مشروعه هذا، حيث ان الفيلم - حتى وإن كانت نسخته الحقيقية فقدت بعد ذلك ولم يعرض، حتى العام 1985، إلا مشوهاً ناقصاً بعد ان عملت به مقصات الرقابة - حين عرض للمرة الأولى نال اعجاب، بل حماسة، الكثير من كبار المثقفين الفرنسيين من امثال جان كوكتو وبول موران، والسينمائي لودوكا، الذي جهز الفيلم بعد فقدانه ورعى ما تبقى من نسخه، غير متردد دون عرض النسخة المشوهة، منذ العام 1952. المهم في الأمر هنا هو السؤال:... ولكن ما الذي أثار شغف المثقفين بهذا الفيلم الصامت المتحدث عن حكاية معروفة ومزدهرة الانتشار؟ في كل بساطة: تقشفه، وكون مخرجه عرف كيف يدخل فيه في صلب موضوعه غير مهتم إلا ببطلته ومعاناتها، في وجه حكامها وجلاديها. وهو من اجل الوصول الى هذا، عثر على ديكور بسيط في قصر روان، غرب فرنسا، كان في الأصل مقراً لقصر العدل. وكان من مزايا هذا القصر شبهه بمراكز التعذيب ايام محاكم التفتيش، مع اكسسواراته الضرورية: جسر متحرك، عجلة تعذيب. اما الأسلوب الذي مكن دراير من ايجاد اطار للغته السينمائية فكان الأسلوب السيكولوجي الذي جعله في معظم المشاهد يصور لقطات مكبرة لوجه جان ولوجوه حكامها متواجهين. وفي هذا السياق قد يصح ان نذكر ان دراير الذي استبعد من السيناريو الأصلي كل زينة تخرج عن جوهر الحدث، تعمد - كما اشرنا - ان يركز الأحداث في يوم واحد مصوراً محاكمة جان دارك وموتها. وكانت النتيجة فيلماً ساحراً غريباً يوصل الآلام الى اقصى درجات تعبيرها ويجبر ممثليه على تقديم اقسى ما عندهم، حتى وإن كانوا صامتين، بخاصة ان الكاميرا، بحسب تعبير الناقد كلود بيكي، عرفت كيف تتسلل الى عمق اعماق تجاعيد الوجوه، وخلايا الجلد آخذة من ذلك كله تعبيراتها المدهشة. ولكن كيف يجيء تسلسل الأحداث في هذا الفيلم؟ في كل بساطة، نحن هنا في فرنسا في العام 1431م، ولدينا الصبية البسيطة الطيبة جان التي ناضلت منذ البداية رافضة ان يحتل الإنكليز بلدها... لكنها الآن وقعت اسيرة في ايدي البورغينيون، فيما تخلى عنها الملك شارل السابع الذي كانت تناصره تاركاً اياها لمصيرها. وها هم الآن جنود وارويك الإنكليز ووارويك هو حاكم قصر روان، المعين من السلطة الإنكليزية يقتادونها لتحاكم امام محكمة دينية... لكن جان على رغم ايمانها - او ربما بسببه، ولأنها تعتبر علاقتها الإيمانية علاقة بالله لا بالكنيسة، ترفض الانصياع لجلاديها... وتقابل تعنتهم وعتوهم بتواضع وهدوء يثيران جنونهم وحفيظتهم اكثر وأكثر. وإزاء هذا، ولأن جلاديها يريدون سحقها نفسياً ودينياً وجسدياً، يدفعونها في لحظة قسوة عنيفة الى التجديف فتجدف. فلا يكون من المطران غوشون، رئيس المحكمة الكنسية إلا ان يأمل بالبدء في تعذيبها جدياً. فتتخلى لوهلة عن افكارها - كما حال غاليليو - لكنها سرعان ما تتراجع عن تخليها في لحظة وعي وكبرياء... وهكذا توقّع بنفسها صك موتها، حيث تقاد الى سوق روان لتحرق حية. في البداية يقف الشعب ضدها معادياً لها، ثم بعد ذلك يكتشف هذا الشعب ان التي احرقت قديسة حقيقية فيتراجع عن عدائه لها ويثور، غير ان الجنود سرعان ما يطوقون ثورة الشعب، تحت ضغط رجال الدين وبمعاونتهم ويقمعون التظاهرة، فيما تحترق آخر بقايا جثة العذراء المناضلة. منذ العام 1985، إذاً، اعيد تركيب النسخة المتوافرة، والمشوهة من فيلم "آلام جان دارك" من جديد وبدأت تعرض عروضاً عالمية معيدة الى الأذهان واحداً من اجمل الأفلام وأقواها في تاريخ السينما العالمية. ولكن ايضاً، سينما ذلك الفنان الدنماركي الذي اعتبر، على الدوام، الروح والإنسان صنوين لا يفترقان، وطبع سينماه دائماً بطابع روحي شرطه الأساس إبراز ما هو انساني داخل الإنسان. ولئن كان وصل الى ذروة تعبيره عن هذا كله في "آلام جان دارك" الذي يعتبر واحداً من افضل افلامه، فإن كارل تيودور دراير 1889 - 1968 ملأ معظم افلامه الأخرى بنفحة روحية ندر ان تمكن غيره من المخرجين، لاحقاً، من متابعته فيها، وربما باستثناء مواطنه الشاب لارس فون تراير، الذي اعلن دائماً انه يدين بالكثير للمعلم، ويدين الى درجة انه بدل اسم عائلته الأصلي ليصبح ذا اسم شبيه به. ومن افلام كارل دراير الشهيرة "الغول" 1931 و"دييس ايرايا" 1943 و"أوردت" "الكلمة" الذي كنا قدمناه في حلقة سابقة واخيراً "جيرترود" الذي كان آخر افلامه في العام 1964 قبل ان يتوقف عن عطاء دام قرابة نصف قرن، ويخلد الى هدوء انهاه موته.