ضمن التيارات الثقافية الجديدة ظهر تيار "الهناجر" المستمد اسمه من "مسرح الهناجر" الذي تضمه دار الأوبرا المصرية استيعابًا لقدرات الشباب وطاقاتهم الإبداعية. الغرض الأساسي من مسرح "الهناجر" كان إيجاد معترك ثقافي تختلط فيه توجهات الشباب الأدبية والفكرية والشعرية وكل الألوان الأخرى لإيجاد صور فنية تعبر عن طموحاتهم، كجيل جديد وربما جيل ثائر. لكن مسرح "الهناجر" تسبب في "هنجرة" مجموعة من الشباب باتوا أقرب الى المثقفين "الطفيليين" بدلاً من ان يكونوا مثقفين مجددين. والمؤكد بعد أكثر من عشرة أعوام على افتتاح "الهناجر" أن المكان لم يحقق الهدف المرجو. وفيما يكيل الكثير من هؤلاء "الطفيليين" الاتهامات لرواد الحركة الثقافية والمسرحية، يرى الكثير من النقاد أن شباب "الهناجر" أفسدوا القضية الثقافية التي لم يحسنوا استغلالها ولا التعاطي معها، فأخرجوا صورة لم يستسغها الكبار في الأدب والشعر والموسيقى والمسرح. ومن الملاحظ في الفترة الأخيرة أن معظم عروض "الهناجر" يلازمها مصطلح "الحديث"... ظهر "الرقص الحديث" و"الموسيقى الحديثة" و"الأدب الحديث"، وتحولت كافتيريا "الهناجر" قاعة يجتمع فيها كثير من الشباب، وكان يمكن أن يظل هؤلاء المحدثون منغلقين على أنفسهم لولا أنهم - وللشهرة التي استطاع "الهناجر" الاستحواذ عليها منذ افتتاحه - صاروا مثلاً أعلى لكل محاولات الإبداع التي ترى في نفسها الحداثة. وظل الهناجر متأرجحًا بين الواقع والمفروض. ماهر اللحام كاتب شاب وأحد رواد الهناجر يقول ل"الحياة": "الهجوم علينا من الكبار ناتج عن انفصالهم التام عن المجتمع وطبقاته. إنهم يغفلون امكان التجديد في أي شيء، مع أن الفن في أساسه قائم على التجديد، والإبداع لا يتأخر فقط بالجمود بل يموت، وإذا كنا نجد نحن في أنفسنا موهبة ما، فنحن نعتبر أن مجتمع "الهناجر" أفادنا كثيراً، إذ أن ما يسمونه ب"مجتمع الهناجر" تهكماً اعطانا المكان أو "البوتقة" التي تصب فيها كل التيارات الإبداعية. ويضيف: "ربما أنشئ "الهناجر" كمسرح، لكنه تحول منتدى ثقافي متشعب يرتاده الشعراء والقصاصون والرواد، ما يعطينا فرصة الالتمام سلباً وإيجاباً. واذا كانت النتيجة لنا غير مضمونة كما يشيع كبار المثقفين، فإن الإبداع في حد ذاته مقامرة، وكثيرون منا يراهنون على مواهبم". أما أبرز الاتهامات الموجهة إلى أدباء "الهناجر" فهي محاولات التجديد للتجديد. فكثير منهم حولوا شكل القصة القصيرة شكلاً يمكن أن تُطلق عليه صفة "ما بعد الحداثة". وإذا كانت القصة الحديثة ظهرت في السبعينات عبّر النقاد في ما بعد على رغم مهاجمة الحرس القديم، جاء "المهنجرون" لتغيير القصة والرواية بما يعتبره البعض هدفاً لهما. الأديب الشاب باسل الصاوي يقول ل"الحياة": "في السبعينات خرجت القصة القصيرة عن قوالب كان من الضرورة أن تخرج منها، أو تختلف معها، إذ أن القصة القصيرة أو الرواية تنطبق على أي عمل إبداعي، يعكس الواقع. ولا يضير ان نفعل الشيء نفسه في عالم يتغير كل شهر، فيما يأتي الشهر الذي يليه بتغيير جديد". ويضيف: "من دون الدخول في تفاصيل جد فنية، لا ينكر أحد أن القصة القصيرة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، بدت مختلفة كل الاختلاف عنها قبلها، والحرب العالمية اثرت في الأدب سواء الأوروبي أو الاميركي في شكل عام ليس بصفتها حرباً تواجه فيها جيوش جيوشاً أخرى وإنما بصفتها مواجهة حادة بين بعض العالم وبعضه الآخر وقد استطاع أحد أقطابه اختبار سلاح فناء كامل بنجاح للمرة الأولى، ولما كان الأديب هو "الترمومتر" الاجتماعي والثقافي، كان لا بد أن تتحول القصة القصيرة شكلاً مغايراً عما كانت عليه قبل هذا الحدث. ولا شك في أن مجتمعاتنا الآن تتغير بشكل ربما أسرع واقبح مما حدث إبان الحرب الثانية. وربما نحن الشباب الأكثر تأثرًا بهذه التغيرات. لذلك فإن نتاجنا مختلف عن نتاج أي أديب مخضرم، على الأقل لنا رؤيتنا، ولنا "هنجرنا" الذي نمارس فيه الإبداع". في "الهناجر" يختلط المسرح بالأدب بالموسيقى بالشعر، والأكثر إثارة أن ما يحدث داخله، مختلف تمامًا عن الأساليب الفنية خارجه. وربما مسرح "الهناجر" هو الأول الذي أعلن في داخله عن مصطلح "الرقص الحديث". وإذا كانت مدرسة "الرقص الحديث" تم تقنينها بواسطة وزارة الثقافة وتكليف فريق مدرب على توجيه فرقة تحمل الاسم نفسه، وفيما شبه البعض مسرح "الرقص الحديث" بالقصة الحديثة والشعر الحديث الذي لا معنى لأي منهما، فإن القاص الشاب صابر الرويعي يقول: "ليس منطقيًا إصدار الأحكام المسبقة، خصوصًا أن معظم من تكلم عن الأساليب الجديدة للقصة والشعر التي يكتب بها معظمنا كان حكمه "سماعياً" أي قبل أن يقرأ ما نكتبه. وإذا كان مصطلح الرقص الحديث يثير لدى بعض الأدباء رغبة في السخرية، فإن هذا النوع من الرقص غزا أوروبا كلها ويتعامل معه الكثير من المثقفين على أنه تغيير بطريقة لا هي مثيرة ولا هي ضارة". ويضيف الرويعي: "يحيى حقي خرج في بداياته عن المفهوم المعتاد للرواية في عصره، كذلك فعل يوسف إدريس، والهجوم على طه حسين لم يتوقف عند البعض حتى الآن. وهؤلاء العظام كانوا طليعة مجتمعاتهم فلا هم استسلموا ولا هم قاوموا نزعة التجديد". أما القاص إيهاب صالح فيقول: "فات النقاد أن الحركة الثقافية عجلة مستديرة وعلى رغم أن العجلة إطار دائم إلا أنها تأخذ من أسفل لتعلو به ثم تعود وتأخذ من اسفل مرة أخرى، وهي رمز للتجديد المستمر. وإذا كان معظم أدباء الستينات خرجوا من المقهى والمعتقل فيمكن اعتبارنا مستبدلين للمقهى بكافيتريا الهناجر". الأديب الشاب علاء الأسواني يقول ل"الحياة": "الثقافات المشابهة للهناجر تأثرت بالاتجاه العدمي الذي ظهر في أوروبا. وهناك من الشباب من تعامل مع ما يأتي من الغرب كما لو أنه كتاب سماوي لا يتحمل الخطأ. وبدا كل ما يتفتق عنه الذهن الأوروبي افتراضاً هو صحيح لدينا وجوباً، لذلك ظهرت تجمعات أدبية تتقمص هذا الاتجاه العدمي فلا يفيد ولا تستفيد". ويقول الأسواني: "من شأن هذه الاتجاهات بتجمعاتها أن تتلاشى وتنتهي من تلقاء نفسها، ولا داعي لإعطائها أكثر من حجمها". أما الأديب صبري موسى فيرى أن "هذه التجمعات مهما كانت فهي تتغذى من الغذاء المناسب للأديب الذي هو الالتحام بالقاع". ويضيف: "المشكلة الرئيسة أن الأدباء الكبار لديهم حالة من الانفصال عن الواقع. فالواقع يبدأ في الشارع، والشباب هم الشارع، وهم الأكثر قدرة على التعبير والتغيير ومهما كان شكل هذه التجمعات وطرقها وفلسفتها، فهي المنقذ الأدبي الوحيد للأدب خصوصًا في حالة الغضب التي يعيشها العالم العربي. الأدب انعكاس رئيس للواقع".