في مثل يوم غد توفي ميشال شيحا عام 1954، الشاعر والمفكر والصحافي والمصرفي اللبناني، وواضع مسودة الدستور اللبناني، أقدم الدساتير المستمرة في العالم العربي. واستدعاء فكر ميشال شيحا يكتسب اهميته من تغيير ما في العالم العربي نتيجة الحرب الأميركية - العراقية المتوقعة، ومن شهادة الجميع على صمود المنظومة السياسية للدولة اللبنانية القائمة على الاعتراف بالتنوع والتعدد ضمن الوحدة، وهو صمود تحتاجه الدول العربية ومجتمعاتها اكثر من اي وقت مضى. الملف عن شيحا ساهم فيه سمير فرنجية وسعود المولى وكرم الحلو الذي ننشر مقالته بعد غد الاثنين. من المفيد في هذه المرحلة بالذات التي نشهد فيها كلاماً متزايداً حول التعددية والديموقراطية في المجتمعات العربية أن نعود الى ما قاله وكتبه ميشال شيحا قبل اكثر من نصف قرن، اذ كان بين الاوائل الذين بحثوا سبل تنظيم شؤون المجتمعات المتعددة الاسس والتكوين. في أساس اهتمامات شيحا مسألة التوفيق بين واقعين: واقع الانتماء الى الجماعة وواقع الانتماء الى الوطن. إنها مسألة قد تبدو اليوم قابلة للبحث والحل بدليل ما هو مطروح من حلول للعراق بعد اطاحة نظام صدام حسين. لكن الأمر لم يكن كذلك في منتصف القرن الماضي حيث كان النموذج المطروح على الدول العربية هو نموذج الدولة القومية التي لا تعترف بانتماء سوى الانتماء الى الدولة، وتعتبر كل ما عدا ذلك من انتماءات متنوعة أمراً يشكل خطراً على وحدة المجتمعات، فينبغي بالتالي حصره في المجال الخاص وعدم السماح له بالتعبير عن نفسه. واجه شيحا مفهوم الحداثة الذي كان سائداً في اوروبا منذ القرن التاسع عشر والذي كان ينطوي على فكرة الوحدة الداخلية غير المركبة. فرأى أن هوية الانسان في لبنان انما هي هوية مركّبة تحتوي على انتماءات متعددة عائلية، مهنية، وطنية، طائفية، ثقافية، انسانية... يحدد بعضها تاريخ المجموعات اللبنانية، وبعضها الآخر التكوين الطبيعي للبلاد الساحل والجبل والسهل الداخلي، إضافة إلى عوامل أخرى، وهذه الهوية المركبة ليست تراكماً عشوائياً للانتماءات المتعددة، انما هي تعبير عن خلاصة موّحدة للشخصية الانسانية. ولا يتم انتقال الانسان من دائرة الانتماء الصغرى إلى الدائرة الكبرى الا اذا اطمأن إلى حضوره في الاطار الاوسع، واطمأن في الوقت ذاته إلى أن هذا الانتقال لن يجعله يفقد الاطار السابق. ويمكن الاستخلاص من كلامه أن اختزال الهوية بأحد مكوناتها قد يؤدي إلى احداث فصل غير طبيعي بين دوائر الانتماء المختلفة للانسان ويضعف تماسك شخصيته وتكاملها، مما يدفعه عند الازمات إلى الهروب إلى دائرة أوسع أو أضيق من الدائرة المأزومة. والتجربة اللبنانية قدمت نماذج عن هذين الانفصام والهروب: فعندما تهتز دائرة الانتماء الوطني لدى الشخص، نراه يهرب إلى دائرة أوسع قومية أو أممية أو أضيق طائفية أو عائلية. الطريق الذي سلكه شيحا قام على رفض مبدأ الانصهار الوطني الذي يؤدي الى الغاء خصوصية المجتمع ووضعه في حال من التبعية والتهميش تعوق مقدرته على تطوير نفسه وتشل حركته. فاختار سبيلاً آخر، معتبراً أن مصدر غنى لبنان هو في تنوع مجتمعه. فانطلق من كون "لبنان مؤلفاً من أقليات طائفية مجتمعة" ورأى أن الطائفية هي "الضمان لتمثيل سياسي واجتماعي منصف" بالنسبة الى هذه الأقليات. وفي هذا السياق الذي ساهم شيحا في التأسيس له، جاء الاعتراف المتبادل بين المجموعات اللبنانية واعتراف الدولة بالمجموعات ليضع الحجر الاساس للديموقراطية اللبنانية. وقد شكل هذا الاعتراف حاجزاً من دون صعود سلطة ديكتاتورية على مجتمع موحد قسراً بدعوى الوطنية والامن القومي والانتظام العام، كما هي الحال في معظم البلدان في منطقتنا. لم ينعم اللبنانيون وحدهم بتلك الديموقراطية بمن فيهم أولئك الذين ظلوا يشتمونها وإنما قدمت ايضاً متنفساً لكل العرب الهاربين من ضيق مساحة الحرية والديموقراطية في بلدانهم. لقد استطاع لبنان على امتداد فترة طويلة من تشكله الوطني أن يمارس ديموقراطيته التوافقية، المنبثقة من تكوينه السياسي والاجتماعي الخاص، كما استطاع أن يكون مساحة مميزة للحرية، يختبر فيها الانسان قدرته على التفاعل مع الشريك المختلف، وعلى استيعاب التنوع، مقدماً بذلك مساهمة حقيقية في اغناء الحضارة الانسانية. وهذا هو المعنى الحقيقي للتجربة الانسانية اللبنانية، المعبر عنه بالعيش المشترك. ولقد قدّم لبنان نموذجاً لنمط حضاري في البحث الدائم عن العيش والترقّي قائم على أسس التسوية والتوافق والانفتاح، وعلى التأليف المتنوّع الذي يغتني بعناصره المكوّنة فيسعى إلى تجاوزها من دون إلغائها. وهذا النمط الحضاري عبّر عن نفسه في التسويات التي تضمنتها التجربة السابقة: تسوية بين بنى اجتماعية تقليدية ومقتضيات الحداثة، تسوية بين الانفتاح على العالم والمحافظة على الهوية، تسوية بين ضرورات الدولة واستقلالية المجتمع، تسوية بين معتقدات دينية مختلفة وانتماءات سياسية تبدو احياناً متعارضة، وحساسيات متنوعة... شكّل هذا النمط الحضاري القائم على التجربة اليومية لمجتمع شديد التنّوع الاساس في التجربة اللبنانية. وبالتالي فإن تمسك اللبنانيين بوطنهم لا ينبع فقط، كما في مجتمعات اخرى، من اعتبارات تاريخية أو قومية، بل هو مرتبط ارتباطاً شديداً بأسلوب الحياة الذي ولّده هذا النمط الحضاري والذي لا يمكن اختزاله لمصلحة فريق واحد في لبنان، لأنه يشكل تعبيراً عن تفاعل الاطراف بعضهم مع البعض الآخر، وليس انجاز جماعة دون اخرى. ما الذي تسبب في ضرب التجربة اللبنانية الذي ساهم شيحا في تحديد معالمها؟ هناك عامل اساسي تمثل في قيام دولة اسرائيل، وهي أول دولة دينية في المنطقة تقوم على مبدأ الغاء كل ما عداها. فلقد أدى هذا الأمر إلى تبديل جذري في طبيعة المنطقة. ومن أهم التحولات التي تسبب بها قيام الدولة العبرية، تحويل الشرق الاوسط ساحة صراع رئيسية بين الشرق والغرب، وقيام أنظمة حكم راديكالية في العالم العربي، الأمر الذي حرم اللبنانيين مناخ الإنفتاح والحرية الذي كان يشكّل الشرط العربي لنجاح تجربتهم، وساهم في اعادة تأزيم المشكلة الكامنة بين لبنان وسورية منذ تكوين الدولة اللبنانية. إضافة الى انتقال المشكلة الفلسطينية إلى لبنان والتي شكلّت عنصراً في تفجير الصراع الداخلي وإثارة مسألة الاقليات الدينية والعرقية في المنطقة. فعاد الخلاف على هوية لبنان وطبيعة نظامه السياسي إلى الواجهة في موازاة الصراع العربي - الاسرائيلي. وفي خضم الصراع العربي - الاسرائيلي ما بين 1948 و1975 تعرَّض لبنان لازمات قاسية كان أبرزها أحداث 1958 التي أمكن تجاوزها سريعاً، ثم وجود المقاومة الفلسطينية على أرضه اعتباراً من العام 1969 الأمر الذي أحدث تفاعلات وتراكمات سلبية حملت اللبنانيين وحملوها معهم إلى الحرب التي إندلعت عام 1975. جاء اتفاق الطائف في العام 1989 ليجدد طبيعة الصيغة اللبنانية في اتجاه أكثر عدلاً وانصافاً للجميع. وقد أدخل هذا الاتفاق مفاهيم جديدة لم يكن شيحا قد تكلم عنها. ومن أهم هذه المفاهيم، مبدأ "الانسجام بين الدين والدولة" الذي يهدف الى الخروج من التقابل القائم بين فكرتي الدولة الدينية والدولة العلمانية. وهذا المفهوم، كما شرحه السيد طلال الحسيني في مقال له، "يقضي بمراعاة اربعة أنواع من المصالح: مصالح الدولة بالمعنى الضيق، أي بما هي غير المجتمع، ومصالح الشعب، أي اللبنانيين بما هم جماعة وطنية واحدة، ومصالح الجماعات الدينية، أي الطوائف بما هي أبرز أنواع الجماعات واشملها، ومصالح الافراد بما لهم من إمرة النفس إزاء الدولة ذات السلطة، وإزاء الجماعات الدينية ذات السلطة أيضاً". ولا بد لنا في نهاية هذا المقال عن ميشال شيحا من التذكير بالتحول الكبير الذي حصل في فكر الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين والذي شكل نقطة لقاء مع ما طرحه شيحا من قبل. فكان الامام قد طالب في الاساس باعتماد "الديموقراطية العددية القائمة على مبدأ الشورى"، لكنه عاد وأوصى "الشيعة اللبنانيين بوجه خاص... وجميع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، أن يرفعوا من العمل السياسي، من الفكر السياسي، مشروع الغاء الطائفية السياسية، لا بمعنى أنه يحرم البحث فيه والسعي اليه، ولكن هو من المهمات المستقبلية البعيدة، وقد يحتاج الى عشرات السنين لينضج بحسب نضج تطور الاجتماع اللبناني وتطورات المحيط العربي بلبنان". إن هذا التحول الذي يخرج مسألة الغاء الطائفية السياسية من التداول السياسي السجالي هو الذي يفسح في المجال لبحث هادئ حول سبل تحرير الدولة من القيد الطائفي. * كاتب وسياسي لبناني.