لم تكن الدولة اليوغوسلافية ولا الحزب الشيوعي اليوغوسلافي يفتقران الى إيديولوجية جامعة، بمقدار ما كانا بحاجة الى مرونة إيديولوجية تسمح للعام ان يضبط الخصوصيات المتعددة والمنضوية فيه، من دون الغاء قسري للحساسيات القومية والدينية والثقافية، ومن دون الغاء للذاكرة المتنوعة التي يمكن ان تستوي على نصاب جامع، من دون ان ينسحب جزء منها لصالح جزء آخر ويذهب في عزلته القسرية لينمو نمواً سرطانياً مدمراً، لا يلبث ان يؤدي الى انفجار أو انفجارات تشظي الدولة والمجتمع معاً... وهكذا، وبشكل مفاجىء، انفرط العقد وتحولت الجماعات اليوغوسلافية الى جماعات متحاربة، وبدا وكأن الفترة السابقة، فترة المجتمع الواحد والدولة الواحدة والحزب الواحد والعقيدة الواحدة، قد كانت فترة لتربية الفوارق بدل إزالتها، وغلب استقطاب الإنقسام والعنف على استقطاب الوحدة والسلام، وغلب النزوع الاصلي والفطري الى تحقيق الذات على معايير المصلحة والمنفعة، التي لم تكن محفوظة تماماً في زمن الوحدة، التي افتقرت الى العدالة بين الجماعات المكونة للاجتماع العام وبين أقاليم الاتحاد، قياساً للبوسنة مثلاً أو كوسوفو، في دخلهما القومي ودخل الفرد ومعدل النمو ومستوى المعيشة والتقديمات والفرص العلمية و العملية المتاحة أو المتحققة والتطور العمراني والإنتاجي.. ألخ، على صربيا أولاً وكرواتيا ثانياً، وحتى على مقدونيا والجبل الأسود، في زمن الوحدة، وإذا ما عكسنا رؤيتنا للمسألة، وتحصل لدينا ان معيار المصلحة والمنفعة هو الغالب في سلوك الدولة والحزب وهو الركيزة في التمييز، الذي لم يكن أقل حدة أو أثراً سلبياً من أمثلة التمييز العنصري في أقسى صورها في جنوب إفريقيا، إذن فالأمر أدهى وأمر، لان معنى ذلك ان دولة الوحدة، على قاعدة العقيدة الواحدة، لم تعمل فعلاً على تحقيق المساواة بين جماعاتها الدينية أو القومية، ما يعني ان الجامع لم يجمع، بل استغلت الماركسية والشيوعية ودولة البروليتاريا، في مراكمة الفوارق وتشريع الإستغلال والتمييز العنصري والديني ومفاقمته وتسويفه. وفي نظري، انه لا مسوّغ منهجياً للفصل بين النظرية القسرية التمامية التي تلغي الخصوصيات نظرياً، وتدمر مستويات منها عملياً، لصالح عمومية مفترضة تتم ترجمتها في تغليب عنصر على عنصر أو دين على دين أو مذهب على مذهب أو جهة على جهة أو إقليم على إقليم، وبين معيارية المصلحة، باعتبار انها، بما هي تمييز أو امتياز، في المنافع والناتج الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والعمراني، تأتي كما لو كانت محصلة، وهي في الواقع دافع أصلي أصيل في التكوين الذي يدفع الى تغليب جماعة على جماعة.. هل يمكن ان تكون هذه القراءة مدخلاً الى قراءة متأنية لحال لبنان ومآله؟ على أساس ان إرادة التوحيد التي أعيد تأسيسها أو ترميمها في الطائف، من الممكن ان تكون بداية أو عرضة لفهم خاطىء لمداها الأبعد في التكوين اللبناني المتنوع، الذي من اجل حفظ المستوى الناجع لوحدته، لا بد من التخفيف من غلواء السعي المضطرب الى توحيده قسرياً وعشوائياً من دون نصاب جامع؟ عوداً على بدء، أسجل ملاحظتي المترددة قليلاً، وهي ان النظام الاتحادي اليوغوسلافي، المتحدر من ايديولوجية تمامية أو كليانية تلتبس بالكولونيالية، لم يكن نظاماً متطابقاً مع بنيان المجتمعات اليوغوسلافية المتعددة أصلاً أو فصلاً وذاكرة وحساسية وحلماً، ولكن ذلك لم يمنع من إنتاج الدولة القوية، غير ان قوة الدولة القائمة على الغلبة العسكرية أساساً، وعلى تحالفات دولية ومقتضيات الحرب الباردة الطويلة، لم تشفع للنظام الضعيف، المتأتي ضعفه من المفارقات بين الايديولوجيا والاجتماع، فسقطت الدولة وسقط النظام، صارت الدولة دولاً والنظام أنظمة، ونهضت الذاكرة المتورمة، ثأراً للماضي وإعادة لتأسيسه وتجديده بالدم وعليه، وإقامة للمستقيل الملتبس بالمواجع والاحقاد والمبالغات وقتل الحريات مرة ثانية! أما في لبنان، فالنظام طائفي من دون جدال، رغم ان الدولة مدنية بحسب الدستور ولا دين لها، ولكن هذا التناقض آتى ثمراته معكوسة، فالنظام أكثر رسوخاً، والدولة ما تزال ضعيفة كما كانت وفي حالة تشكل إشكالية. وتجربة الحرب والسلم حتى الطائف وما بعده الى الآن، كشفت عن اسباب قوة في النظام، أهمها كونه مطابقاً لبنية المجتمع الاهلي، بحيث ان خصوصيات هذا المجتمع تتسرب الى مؤسسات المجتمع المدني إذا لم تكن هذه المؤسسات قائمة من البداية على موجباتها، والاحزاب والنقابات والاندية والجمعيات والروابط الثقافية والرياضية، وإن كان كثير منها، يقوم اول ما يقوم، على أساس ان يكون نموذجاً مغايراً لأنظمة المصالح الطائفية، فانها سرعان ما تقع في آليات التجاذب الطائفي. لقد تراجع الخطاب الذي حمل تغيير النظام هدفاً، ليدخل في مجال الدولة ودورها وأنظمة عملها وتركيبها باعتبارها المفصل الأضعف في بنية الكيان، وضعفها يغري بالعمل على تغييرها الممكن، وإذا ما كانت الدولة هي القابلة للتغيير، فان التوجه السليم والمجدي لأطروحات التغيير ومشاريعه، هو ان تدفع بالدولة الى الاشكال والمضامين والافكار والآليات التي تقرّ بها من النظام الثابت، حتى يحصل الإنسجام المطلوب، الذي يحفظ الدولة والمجتمع ودورهما التكاملي على قاعدة النظام، الثابت، وفي ظله. فهل نكون مدعوين الى تحقيق دول الطوائف أو دولة الطوائف؟ ربما وربما كان ذلك أجدى في تخفيف النزوع الطائفي، وتجنّب الوقوع في التناقض، إذ من الملحوظ، انه كلما تعالت النبرة اللاطائفية وسال دمنا في سبيلها، ينكشف ان اللحن الطائفي هو الكامن المقيم في الخطاب اللاطائفي. لا يجادل أحد في لبنان بان مؤسسات التعليم الطائفي والمذهبي الخاصة، قد بلغت أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب من حيث العدد، أما أسوارها فقد ازدادت ارتفاعاً وسماكة، وتسود فيما بينها الآن، حالة سجالية، تختزن سلوكيات تجزيئية، وتحول الدين الى جدار يفصل البيت عن البيت، والحي عن الحي والغرفة عن الغرفة والشرفة عن الشرفة والوطن عن الوطن... وقد انهزمت الدولة من خلال تراجع المدرسة الرسمية ودورها، والسؤال هو ما اذا كان بامكان الدولة ان تنتصر في هذا المجال؟ بعدما بعد العهد بتأسيس الاستقلال، الذي اصبح الخوف عليه أقل بكثير مما كان، ما أعاد الى مكونات الاجتماع حيويتها التي أخذت تشتغل باتجاه آخر... حتى لقد أصبح في إمكان بعض الاصوات التي تجاهر بالقول بانه من اجل وطن واحد ودولة واحدة ومجتمع واحد، لا بأس من إتاحة الفرصة، بمفعول رجعي، للطوائف جميعها،. ان تحفظ نظامها وانظوماتها الفكرية والإعلامية والتربوية والفقهية ولحمتها الداخلية وذاكرتها المنقاة وحلمها العادل، من داخلها، وان تكون الدولة في شغلها وادائها حافظاً ضابطاً لهذا الحراك من دون تبادل في الأدوار. واذا كان لا بد من منطقة وسط، تكون بمثابة صعيد أو صعد للتواصل بين الطوائف وبين الدولة، فانه يمكن ان يكون مجلس الشيوخ مكاناً موزعاً على الطوائف بحسب أحجامها، على ان يبقى مجلس النواب مشروعاً مفتوحاً تتقاطع من خلاله الطوائف، من دون ان يقوم على حسابها أو في مواجهتها بالضرورة، كيف نتجنب مآل يوغوسلافيا في لبنان؟ وماذا لو قرأنا بهدوء تجربة بلجيكا وهولندا وغيرها؟. على ان نستبعد في كل قراءاتنا السياسية فكرة العيب.. أو نخفف من حضورها، لان الاخلاق لا تختزل السياسة والسياسة لا تلغيها... وللسياسة أخلاقياتها السياسية بعيداً عن الابتذال. إذا لم يعترف الطبيب بالمرض فكيف يستطيع ان يعالجه؟ من دون ان يقضي على المريض بالطبع؟ وتكون الطائفية مرضاً اذا كانت منشدة الى الجور ناشدة له ومتنكبة للعدل والانصاف، أما اذا كانت الطوائف محكومة بالعدل، أي محتكمة الى الدين في أصوله ومقاصده، فان العدل مضمون وليس شكلاً، ويمكن ان يتطور الشكل بصورة طبيعية وتدريجية ليطابق المضمون، من دون ان ينكسر ويكسر المضمون. ولعل العدل، عدل الطوائف داخلها، بشرط الديموقراطية، بما هي مساواة، يشكل شرطاً وعلامة على إمكانية العدل في الوطن ومع الآخر، الشريك في الوطن والدولة... وقد تكون القسمات الطائفية في وجه الجماعة وفي بعض مكونات دمها، جميلة أو أقل جمالاً أو قبيحة أو أقل قبحاً، في نظري أو نظرنا أو نظر الناظر الآخر، ولكنها لا تلخص كيان الجماعة وماهيتها ولا تخرجها، بحكم الضرورات والضروريات، عن نصاب الاجتماع العام أو سياق التطور وحركة التاريخ ولا تجمدها، والأهم هو: كيف نحافظ على حضورها وحراكها داخل السياق من دون ان نلغيها فندفع بها قهراً الى اعادة تحقيق ذاتها بشكل مرضي؟ ولا يجوز ان نتوهّم إمكان استئصال الجماعة من اجل تغيير لون وجهها وبعض مفردات وعيها المفارقة، والممكن هو ان نطوّر أو نتيح لها ان تطوّر أنماط معيشتها وتفكيرها وعلائقها، لتصل، بكامل وعيها الى المنطقة التي تحفظ فيها ذاتها والذات الاخرى، بالعلم والعمران والانظمة المدنية وتفكيك الصورة النمطية عن الذات وعن الآخر، وحساب المتغيرات، وفرز ما يمكن تغييره عن الثابت، الذي يمكن دائماً، وفي الوقت المناسب تعديل الرؤية على موقعه وحركته. يمكن، والمطلوب دوماً، هو ان تبقى الجماعة، أي جماعة، مشروعاً مستقبلياً، ولكن قطعها تعسفاً عن ماضيها وتسفيه هذا الماضي، هو تشويق لها للعودة الى أسوأ ما في الماضي من حساسية وجراح وكهوف. وإغراء لها بالسهولة، والماضي سهل، لا يحتاج الا الى مقدار من الخوف، مقدمة لاستنفار ايديولوجي شامل، اما المستقبل فهو مركب ومعقد واحتمالي وإشكالي، يحتاج الى وعي مناسب لإشكاليته، والى رؤية عقلانية واقعية لا تستعجل ولا تؤجل في المبادرة الى الاستحقاقات. هل كتاب التاريخ الموحّد للمدارس في لبنان هو مشروع توحيد وطني للطوائف اللبنانية؟ ينبغي التدقيق واعادة فحص المفاهيم وقراءة التجارب بعقلية غير منفصلة، بعقل تاريخي، مقيم داخل التاريخ ومتحرّك بين مفاصله ومحطاته وأمثولاته، لا في فضاءات التجريد القاتل... وهل ان الطوائف اذا قرأت كل منها ذاتها ووطنها في كتابها وفي ذاكرتها بامكانها ان تستكشف المساحات المشتركة وتنقي ذاكرتها، وتبدأ لتبحث براحة وطمأنينة ووعي ذاتي غير مفروض، عن احتمالات التكامل طبقاً لضروراته التي تستشعرها من مقتضيات وجودها وحضورها وديمومتها وفعاليتها؟ إني أميل الى تصوّر وتصديق هذه الفرضية نظراً للأدلة الكثيرة على صحتها في تجارب الأمم والشعوب التعددية. بعد الطائف وتطبيقاته الصحيحة والمنقوصة والمشوهة وتوقيفاته الملحوظة المجلس الاقتصادي الاجتماعي، لجنة إلغاء الطائفية الخ. لا يبدو ان بامكاننا الاقتراب من بند الغاء الطائفية خوفاً من الانفجار، ويهون بعضنا من الامر بالقول بأن المسألة ممكنة ولكنها مؤجلة بعض أقطاب السياسة والدولة في لبنان اعتبر ان إثارة موضوع الزواج المدني بالشكل الذي أثير فيه قد أجّل هذه المسألة "الغاء الطائفية" خمسين سنة اخرى. وعليه فانه اذا استعجلنا وفككنا المتحدات الطائفية، فان ذلك قد يكون سبباً في إعادة إنتاج الفوارق والعصبيات، ولا يقول هذا من يقوله الا لأنه يلمس ويرى الى ان النظام الطائفي في لبنان يعادل في رسوخه رسوخ الكيان والوطن، ويتشارط معه الى حدّ بعيد. في هذا الحيز الشائك بين المستور والمكشوف، بين الممكن والمستحيل، بين السهل أو المستسهل، والصعب أو المستصعب، ينزف لبنان دماً ومالاً وأخلاقاً وديناً ووطناً وذاكرة وحاضراً ومستقبلاً وثقافة وعلماً واجتماعاً ودوراً ومعنى. ومن هذا الحيز تتحوّل الطوائف والمذاهب الى أحزاب تمامية مغلقة منغلقة مزروعة بارادة الإلغاء والنفي والتدمير للذات والآخر، وفي هذا الحيز تتحوّل الاحزاب اليسارية واليمينية، العلمانية والدينية والوطنية، الى مساحات من الأوبئة الطائفية، على حساب الدين والوطن والانسان والقيم والمصير، وإنكار الآخر وتجاهلاً يثمر جهالة، ويتجلى باستمرار جهلاً بالذات وإنكاراً لها وغربة عنها وفصاماً، ويتحوّل تعبير الاعتراف بالآخر كما هو، الى تعبير استهلاكي لا مدلول عملياً وسلوكياً ومعرفياً له. وماذا لو لم تعوزنا الشجاعة وقلنا بان المطابقة بين النظام الطائفي الطبيعي في لبنان، وبين مشروع الدولة يمكن ان يشكل ضمانة لتطوير النظام والدولة معاً، لا في اتجاه لا طائفي بالمطلق، بل في اتجاه طائفي متقدم ومتطور باستمرار، الى الحد الذي يعطل أشد السلبيات الطائفية ضرراً، ويبقي على الضروري والثابت في كيان الجماعات اللبنانية مما يحفظ لها أنصبتها الخاصة ويدخلها مطمئنة الى النصاب الوطني العام، ولا يمنع، بل يغذي وعيها لأهمية الانفتاح على بعضها البعض، على أساس الاعتراف المتبادل بالمصلحة والمصير الذي هو إضمامة من مصائر مؤتلفة ومتآلفة ومتصالحة ومتضامنة ومتكافئة ومتكاملة ومتناصرة؟ ولعل البديل هو الصيرورة الى دولة أديان تحل الايديولوجيات المتقابلة محل الجماعات المتحاورة، بمساعدة الخطاب العلماني المراوغ والخطاب اللاطائفي الملغوم والطائفي المتشنج، واذا كانت دولة الدين الواحد في أوطان ذات دين واحد، بمستوى عالٍ من الصعوبة، فكيف بدولة الأديان، التي تنتهي أو لا تقوم الا على نقض الدين والوطن والمجتمع والدولة وتخرج الناس من نور الايمان الى ظلمات الكفر؟ قد يكون هذا الكلام مغامراً أو مخاطراً، ولكن الاتجاه العام في لبنان، والكلام والفعل اللبناني والاسرار الدفينة في داخل اللبناني، كل ذلك يشكل خطراً ماثلاً وناجزاً أو جاهزاً... واذا ما استمرت آليات السياسة اللبنانية شغالة بالصورة الملموسة في المشهد اللبناني الحالي وخلفياته ومؤشراته، فانها ستعيد انتاج الدولة الاكثر طائفية.. ما يعني انه لا بد من مسار مختلف عن التكاذب اللبناني السائد وعن الإزدواجية اللبنانية التي تحول التعددية من أطروحة حضارية الى كارثة وطنية. يمكن ان نتفق على ان الدولة ظاهرة تاريخية، نشأت من حاجة في الاجتماع البشري اليها، في لحظة استواء الجماعة على حال من التحضر والتعقيد، الذي استوجب تمييزاً وتمايزاً وظيفياً بين الشأن العام والشأن الخاص وما يناسب كلاً منهما من الإدارة، وما تقتضيه الحاجة، في لحظة تاريخية ما، يدخل في تاريخ الجماعة التي أنتجته ويصبح رهناً بحاجتها وعدمها، يزول بزوال هذه الحاجة ويتغير بتغيرها ويتطور بتطورها. كما يمكن ان نتفق على ان الجماعة في التاريخ البشري ظاهرة أصيلة، وان الحاجة الى الانتماء اليها تبلغ من العمق في تكوين الفرد، بحيث تبدو أحياناً وكأنها غريزة من الغرائز، يمكن ان يهذبها مستوى حضاري ما، بينما يجعلها مستوى حضاري آخر أقرب الى الوحشية، وما يبدو من ان مجتمعات بعينها، تصل في تطورها الى غياب الجماعة والانتماء اليها عن وعي أفرادها، الى حد القطيعة شبه الكاملة، لا يلبث في لحظة التصحر الفردي، ان يعود الى حال من الاتصال أو الحنين، الصحي أو المرضي، الى الجماعة، ذلك لان ما يكون أصيلاً وغير طارىء، يكون ما ينشأ عنه أو عليه محكوماً بقوانين الأصل نفسه، يصبح أصلاً أو أصيلاً، من دون ان يعني ذلك انه يقع خارج التاريخ تماماً. في المشهد العالمي الآن، نلاحظ ان الدولة كمؤسسة تتصدى للشأن العام، فتجتمع العامة تحتها وعليها، آخذة بالضمور، نتيجة اتساع الشأن العام وتعقيده البالغ، ما جعله يفيض كثيراً عن قدرة الدولة على استيعابه والقيام به، وجعلها تنحسر وتفسح في المجال لمؤسسات المجتمع المدني كوسيط وشريك لها في الانتاج والتنمية والثقافة والسياسة، مع الابقاء على منطقة اختصاص حصري للدولة، وربما الى حين، هي منطقة المؤسسات السيادية. وإذا ما بقيت التطورات سائرة في نفس الاتجاه بوتائر متسارعة، فان فكرة الدولة، والدولة المؤسسة الجامعة، الى انقراض، على الأقل في نمطها المتعارف والمتعدد الاشكال كما نعرفه. أين يذهب الفرد إذن، ليطلب الطمأنينة ويحافظ على شعوره وإحساسه بالانتماء؟... من المسلم ان الدولة في أرقى أشكالها ومضامينها، وفي أنجح تجاربها، لم تشكل بديلاً كاملاً ونهائياً من الجماعة، لانها لم تبلغ نصاب العدل والحرية الكاملة، وربما لم يكن من شأنها ذلك، لان النسبية قانون في الشهود، والإطلاق هو في الغيب فقط... ولأن الدولة خارج تكوين الفرد، وفي وعيه المفارق، ومشروطة لديه بشروط معقدة، فانه في لحظة ضعفها أو تراجعها أو جورها أو استبدادها أو الاستبداد بها أو عليها، يضعف انتماؤه اليها، وربما فقد هذا الانتماء وهجرها أو عمل على تغييرها أو تقويضها، في حين انه لا يدخل في طموحه أو همه ان يقوّض الجماعة، حتى لو تخطاها بمشروع يمر من فوقها، حيث انكشف ان مشروعات هذه سمتها تمر بالجماعة وتكشف تناقضاً صارخاً، ويبقى الفرد بعيداً عن جماعته، مسكوناً بموروثاتها وموروثاتها والحنين اليها، بنسبة أو باخرى، قابلة للنمو أو الضعف، وهكذا كثيرون من المتوهمين الى جماعاتهم مرضى بها... والتوازن الطبيعي، الإعتدال، هو ان يسعى الفرد أو الجماعة الى تطوير الفرد والجماعة وإقامة أهليتها للحياة والاستقطاب على شروط معرفية واجتماعية ونفسية وسياسية متقدمة ومعاصرة وحوارية. أما عندما تصبح الدولة على خط التراجع والانحسار والإنحصار، وتفقد جاذبيتها واستقطابها، في حين تزداد لائحة الشروط عليها طولاً وعرضاً وعمقاً، فان النزوع الاصلي الى الكون في جماعة والالتزام بها، يتفاقم الى حد يدعو الى وعيه وعياً كاملاً وصحياً، حتى لا ينفلت من عقاله ويتحوّل الى مشروع تدمير للجماعات الاخرى، بالعنف المباشر أو غير المباشر. إذن يصبح مشروع الإنتماء أو العودة أو الاندماج أو الالتصاق والانصهار في الجماعة بين احتمالين، فإما الاحتماء وطلب الأمان الجسدي والروحي والثقافي والاقتصادي في الحضن الواسع، حضن الجماعات المتعددة المؤتلفة على نصاب جامع وغير نابذ، وأما العدوان على الآخر نتيجة عصاب أو رهاب جماعي، يعزز وهم الفرد والجماعة، بأن الآخر نقيض لا بد من الغائه لحفظ الذات والوجود، وعندما تستكمل جماعة من الجماعات اجتثاث جماعة اخرى، يمتد المرض العصابي الى داخلها سادومازوخية لتصبح جماعات فرعية متناحرة، وأفراداً متناحرين، وتستمر دورة العنف حتى النهاية، أو حتى تأتي جماعة اخرى، من وراء الحدود أو وراء البحار، توقف الدم وتجمع الأشلاء والبقايا لتشتغل بها وعليها. ان حضور الجماعة في وعي افرادها لا يتلاشى، حتى في أعلى حالات الدولة وأشدها قوة وأهلية، ولكنه يبرز مرة، ويحتدم مرة، ويهدأ مرة، ويكمن مرة الى ان يثيره مثير... وهو، الآن في لبنان، بارز ومؤشره في اتجاه الاحتدام، ما يعني انه دخل حيز الخطر أو يكاد، وهو يتجه هذا الاتجاه معترفاً ماءه ورواءه ونُسغه من بحر الدماء التي سالت في الحرب ولم تستطع حالة السلم ان تجففها. وكان يمكن للدولة اللبنانية ان تتوفر على حال أكثر يسراً ثقافياً وسياسياً واقتصادياً أو أقل فقراً، لتشكل شرطاً أولياً لاعادة الجماعات اللبنانية الى سياق الاندماج، غير ان مشروع الدولة قد تركب فيما تركب عليه، على مشروع التسوية الصعبة مع اسرائيل، أو البعيدة الأمد أو المستبعدة في المدى المنظور والمحتوى العادل نسبياً، أو الأقل جوراً على الاطراف العربية، غير ان مشروع التسوية تعثر فتعثر مشروع الدولة، وانقلب أهلها في الموالاة والمعارضة، في مؤسسات الدولة وحولها، الى العراك اليومي المكشوف على التفاصيل والحصص والحرام، من دون أي سقف سياسي يحفظ التوازن، وتعطلت آليات الداخل اللبناني، فتلكأت مشروعات المجتمع المدني، لتعود المؤسسات الاهلية، الطائفية والمذهبية، الى البروز والإتساع والتكاثر، لتصبح دولة موازية ومتربصة في حيز الإمكان السياسي لتنقض في اللحظة المؤاتية... يعني اننا يمكن ان نعود الى حالة الانتظار السابقة لنشوء كيانات بديلة للكيان، بكل ما يقتضيه ذلك من دورة عنف جديدة، أشد شراسة وأوسع انتشاراً بين الطوائف وداخلها تبعاً ونظراً لانسداد الآفاق، وبين المناطق وداخلها، بين المذاهب والاحزاب وداخلها، الى ما يناسب ذلك من تدخلات خارجية يجتذبها الشعور الأقلوي المستبد بأكثريات طائفية لبنانية، تصر على استحضار أقلويتها بحسابات ملتبسة لتشرع أبوابها أمام اللاعبين بها ومعها وعليها لحسابات اخرى. يعني ان انكفاء مشروع الدولة، من شأنه ان يعيد للجماعات نبضها المتوتر مقدمة للدم الحرام والمشتبه والخراب الذي ينهض على أديمه المملح عشب الأحقاد وشوك الضغائن وكل أنواع النظريات والطفيليات الضارة. هل يمكن ان نتلافى هذه الاحتمالات، التي يمكن ان نكون مبالغين فيها من دون ان نكون متعسفين لها وبها؟ طالما ان مشروع الدولة، حتى لو استبعدنا الاحتمالات الأسوأ، ليس من شأنه ان يبلغ من العافية والرسوخ والشمول والقوة والعدالة، الى الحد الذي يعيد جمعنا على مثال نموذجي يقينا المخاطر والاستحقاقات الصعبة، فلماذا لا نجرب الدخول مع جماعاتنا، طوائفنا، في تواطؤ يحوّل آليات الداخل من طريق الشر الى طريق الخير؟ لعل الشرط الاول في ذلك، هو ان نكف عن الحياء أو الاستحياء أو الخجل من كوننا طوائف ومذاهب، وما ذنب جماعاتنا اذا ما كانت قد أعطت لكل الاحزاب العلمانية فرصتها، فكانت النتيجة ان الاحزاب أعادت هذه الجماعات الى عصبياتها؟ لتكن هذه الطوائف أحزابنا، اذا كان لا بد من تغيير الاسماء، التي لم يتغير غيرها حتى الآن، ولندخل في سياقها، لتكن الديموقراطية أطروحة للطوائف، تضبط وتحرر إنتاجيتها الثقافية والسياسية والاقتصادية والإدارية، ومنها تطل الطائفة على الطائفة الاخرى، واذا ما كان نمو الطوائف وتطورها لم يصل، ويبدو انه لن يصل الى حالة متقدمة من التناظر، غير المستحيل أو غير المستصعب لولا تقييدات وعوائق تأتيه من خارج سياقه، من مشروعات تطويره!!! فلماذا نلزمها جميعاً برؤية واحدة، أو تفاصيل واحدة وحركة واحدة وثقافة أحادية واحدة!!! وخطاب واحد؟ وليس في الكون كله واحد الا الواحد الاحد القهار الفرد الصمد... لماذا كل واحد بقوانين نموه وشروطه الذاتية الآيلة بمقتضى المستجدات في الحياة والمعرفة، الى التماثل النسبي مع شروط الآخر، لتفضي السياقات المتعددة المتفرعة عن أصولها العامة، من بعد، وعلى نضج وكفاءة، الى بعضها البعض، وتتكون الدولة من مجموع ما يتحصل لها من نتاج ديموقراطيات الطوائف الأقرب منالاً من غيرها؟ وهل من شرط آخر لحفظ توازن الجماعة من داخلها وعلى مقربة من الجماعة الاخرى ومرأى ومسمع، لإقامة الدولة والوطن والاجتماع على ميثاقية اختيارية مرتكزة الى امتلاء بالانتماء؟ بحيث تنطلق كل جماعة الى فضائها الأرحب، وطناً ودولة وحياة، بريئة من العقد، محررة من الخوف والإحباط الدوري، من الاستئثار المبالغ فيه ومن الإحساس المبالغ فيه بالغبن؟ هل نشترط السلم، واللاعنف لهذه العملية الانقلابية الخطيرة، أو الأشد خطراً، إن لم تحتضنها عقول وإرادات بحجم مدلولاتها ومؤشراتها؟ انها البديل للعنف المخزون والعنف الموعود قياساً على المعهود، وهي لا يمكن إنجازها بالصورة المتوخاة، الا من طريق السلامة، سلامة الجسد، سلامة الفرد والجماعة، سلامة الروح والرؤية والمنطق والايمان والدين والاحساس بالمسؤولية التاريخية، عن عباد الله، الذين ابتلى بعضهم ببعضهم، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا وأكرمهم عند الله اتقاهم. * كاتب ورجل دين لبناني.