فكرة الوطنية اللبنانية حديثة العهد جداً وهي بذرة ملتبسة منذ تولى المسيحيون الموارنة تحديداً في جبل لبنان بلورتها منتصف القرن التاسع عشر في مواجهة السيطرة العثمانية. وما لبثت هذه الفكرة ان أدرجت ضمناً في الفكرة العربية التي سادت في الربع الاخير من القرن الماضي واشتدت مع الحركات العربية مطلع القرن، وتطورت هي الاخرى من فكرة اللامركزية السياسية التي تعطي العرب حقوقهم في اطار الدولة العثمانية الواحدة الى مطلب الاستقلال العربي القومي عن الدولة العثمانية. فجاءت الحركة العربية بمعاونة من الغرب الاوروبي آنذاك تنجز هذا الاستقلال من دون ان تحقق الكيان العربي الواحد. وخضعت الدول العربية لسلطات الانتداب الفرنسي - الانكليزي ونشأت بالتالي حركات وطنية للاستقلال عن الاستعمار تزامنت في بلاد المشرق العربي، خصوصاً في سورية ولبنان واتخذت منحى آخر في بلاد المغرب بحكم المشروع الالحاقي الاستيطاني. تعرّضت الوطنية اللبنانية الى تطور تاريخي حاسم في عام 1920 حين أعلن الانتداب الفرنسي حدود لبنان الكبير، ما جعل الفكرة الوطنية ذات مضمون مركب من الاتجاهات الدينية والثقافية والسياسية التي حواها لبنان الكبير، وقد كانت آنذاك متضاربة مسيحية - اسلامية - لبنانية - عربية وفي كل من هذين الاتجاهين العريضين تفرعات وافكار متفاوتة. تنوّع هذا الولاء الاقليمي بمعنى مناطقي - جغرافي لكيان سياسي محدد يشكل الهوية الوطنية أعاق الى زمن طويل فكرة المواطنية اللبنانية، لأن اللبنانيين لم يجمعوا على ولاء وطني مركزي واحد. وخضعت الدولة لتجاذبات الولاءات الطائفية الى حد جعلها مؤسسة لحوار وصراع لم ينتج اندماجاً كاملاً بين اللبنانيين، ولم يحول الدولة الى سلطان مركزي يضعف تدريجاً الولاءات السابقة عليها وتحديداً الولاءات الطائفية. عن هذا التطور التاريخي نشأت معطيات أعاقت تبلور المواطنية. أولاً: ان الجماعات والمناطق جبل لبنان القديم ولاية بيروت والاقضية الاربعة التي تشكل كيان لبنان اليوم كانت قد عرفت تفاوتاً في تطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وفي توجهاتها السياسية. فجاءت صيغة الشراكة الطائفية المناطقية تحافظ على هذا التفاوت وتغذيه في كثير من الاحيان لان الدولة لم تأخذ على عاتقها مهمة توحيد اللبنانيين بتنمية المواطنية اللبنانية على حساب الانتماءات والولاءات السابقة. ثانياً: إن لبنان الذي حقق استقلاله الناجز عام 1946 بجلاء الجيوش الاجنبية تعرّض لعواصف اقليمية وتجاذبات لم تساعد اللبنانيين على ان يركزوا جهودهم على بناء الدولة بل هي فرضت عليهم صراعات سياسية عطلت جهودهم هذه، وجعلت مفهوم الوطن والكيان موضوع جدل بين استقلال ينطوي على روح انفصالية تماماً عن هموم المنطقة وبين ارتباط بالمنطقة ارتباطاً الحاقياً وحتى توحيدياً. ووقع لبنان أسير هذا التجاذب بين الحركة الصهيونية والحركة القومية العربية وظل تحت وطأة هذا التجاذب الى حد إنفجاره في الحرب الاهلية في شكل مأسوي. يخترق هذا التاريخ المعقد جدل بين فكرة المواطنية والكيان والدولة وبين فكرة الرعية أو الانتماء الطائفي أو الافكار القومية المتعددة اللبنانية والسورية والعربية وما فوقهما من متحدات أممية أو إسلامية. إذا كان اللبنانيون هم صفوة هذا التاريخ العكر كما يقول ميشال شيحا أو هم هذه المجموعات اللبنانية أو الشعوب أو السلالات الحضارية أو العرقية أو الثقافات الدينية أو الحديثة. أو هذه الفسيفساء والسجادة العجمية المزركشة... اذا كان اللبنانيون في التاريخ هم هذا المركب الخاص الذي أوحى للبعض ان يفكر بأن يعيد فرزه الى خيوطه وألوانه وعناصره وهذا أمر كان على الدوام موجوداً على صعيد الفكر السياسي وقد بلغ ذروته في الحرب عبر دعوات اللامركزية السياسية والتقسيم والكانتونات والتعددية الحضارية، الا ان هذا التطور التاريخي هو ايضاً يعطي حجة معاكسة لم تكن في يوم من الايام ضعيفة واهية أو فاقدة مقوماتها الاساسية. على العكس من ذلك كان الصعيد السياسي أو المستوى السياسي هو الذي يشطر أو يقسم اللبنانيين أولاً وفي الاساس، في حين كانت المستويات الاخرى الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية هي التي تساهم في توحيدهم. أقول ذلك حتى في المجتمع التقليدي ما قبل المجتمع المدني الحديث، ففي مجتمع جبل لبنان القديم مجتمع الامارة ومن ثم عهد المتصرفية كانت الطوائف اللبنانية قد نسجت علاقاتها على نحو يصعب فرزه الى درجة ان مشروع القائمقاميتين لم يكتب له العيش فنشأ نظام المتصرفية. إن مشروع التقسيم والكانتونات كان قد سقط في منتصف القرن الماضي لاستحالة تنفيذه وقسمة مياه البركة الواحدة حتى بين الدروز والموارنة. ثم ان المتصرفية نفسها موضوعياً طلبت التوسع والاتحاد بمحيطها في المقاطعات والمناطق اللبنانية الاخرى بالمعنى الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. أي أن اللبنانيين في متصرفية الجبل لم تكن تتوافر لهم مقومات الدولة والكيان والمواطنية فأقبلوا على توسيع حدودها مع اختلاف النظرة في ما بينهم الى هذه الحدود الجديدة. وتاريخياً كان العيش المشترك والاختلاط السكاني من أقصى لبنان الى أقصاه قد ولد في القرن التاسع عشر على رغم الحروب والنزاعات. ومهما يكن من أمر فان تطور البنيات الاقتصادية مع نشوء المدن الحديثة، المدن الريفية سابقاً زحلة - دير القمر والمدن الساحلية صيدا - بيروت - طرابلس. كان قد أسس للمجتمع المدني الحديث الذي هو بطبيعته ركيزة المواطنية الحديثة. أي المواطن الذي ينتمي الى كيان سياسي هو الدولة ويتصف بشخصية اجتماعية هي المهنة أو النشاط الاجتماعي وليس المرتبة الطائفية أو العشيرة أو العائلة. والمجتمع المدني هذا، يساهم ايضاً في ولاءات جماعية بديلة، كالنقابات المهنية أو التجمعات الاقتصادية أو المنظمات السياسية ومنها الاحزاب الحديثة. ولبنان قبل الحرب وتحديداً في الستينات والسبعينات كان قد خطا خطوات كبيرة على صعيد تشكيل المجتمع المدني وتفكيك الروابط التقليدية الى حد ان بعض الفكر السياسي اللبناني دعا الى تخطي التلهي بالمسائل الطائفية لمصلحة البحث عن الهموم الاجتماعية والتنموية كما يقول ايليا حريق وكما أحصت جريدة "الأوريون"... وكما استجاب عهد فؤاد شهاب لهذه التحديات عشية الحرب كانت المواطنية تقوى في لبنان الى حد انها زعزعت النظام السياسي. لقد بدأت شخصية المواطن اللبناني تتجلى في المطالب الفلاحية، العمالية، الطالبية، المثقفين وفي مطالب الاصلاح والتحديث العام وهي مطالب لا هوية لها الا هوية المواطن وقد اصطدمت بالنظام السياسي والمصالح الضيقة لقمم هذا النظام والمستفيدين الحصريين منه. وتزامنت مع اوضاع اقليمية متفجرة فتم توظيفها من قبل القوى السياسية ضد التغيير. إن حركة المطالب المواطنية كانت قد تجلّت في ظواهر منها: - حركات الطلاب. - بيانات بعض المطارنة ومواقفهم المنددة بالحرمان الاجتماعي. - تحولات الاحزاب السياسية وانحياز قطاعات واسعة منها الى حركة التغيير. - نمو الحركة الحزبية العلمانية في لبنان. توقفت الحرب ونشأت تسوية سياسية جديدة وميثاق وطني جديد وما زالت القوى السياسية المسيطرة تعيق بلورة المواطنية اللبنانية لأنها تعيق بناء الدولة. إن نظامنا السياسي ما يزال يجبر اللبنانيين على العيش في ازدواج شخصية. هم لبنانيون وهم الى ذلك طوائف وعائلات وابناء مناطق وولاءات سياسية شخصية تقودهم عكس الاتجاه الصحيح لنيل حقوقهم. كل تفكير بتعديل التوازن الطائفي في السلطة هو خط لا يبني الدولة. المطلوب حركة مواطنية تقوم على تركيز دولة القانون والمؤسسات، دولة الحقوق والواجبات المتساوية. إنه من باب التلهي الحديث عن الصلاحيات والسلطات والمواقع الطائفية اليوم لانها تقود الماء الى طاحونة النظام القائم. المطلوب حركة لبلورة مثالات عليا مشتركة بصرف النظر عن الاشخاص والطوائف، واستكمال نظامنا الجمهوري الديموقراطي البرلماني بتحقيق السلطة القضائية المستقلة... وتوسيع الحقوق المدنية وتجديد الحياة السياسية لإدراك المواطن حقوقه الفردية. * محام وكاتب لبناني.