بدأ البرلمان المغربي متأخراً بأسابيع مناقشة مشروع موازنة سنة 2003، التي ستدخل حيز التنفيذ مطلع السنة المقبلة، بعد ان منح الثقة لبرنامج حكومة ادريس جطو الذي وعد باجراء تعديلات على الموازنة لجعلها اكثر قرباً من التوجهات التي تهدف الى تحرير وتأهيل قطاعات صناعية وتجارية تماشياً مع خيارات العولمة والمناطق التجارية الحرة، اضافة الى ايلاء البعد الاجتماعي حصة اكبر في نفقات الموازنة التي تقدر بنحو 16 بليون دولار. قال وزير المال والتخصيص فتح الله ولعلو خلال تقديمه لمشروع موازنة 2003 ان الحد الادنى المتوقع للنمو سيكون في حدود 4,5 في المئة، وهي النسبة نفسها المحققة سنة 2002، مع امكانية رفع نمو اجمالي الناتج المحلي الى ستة في المئة في حال توافرت شروط مساعدة مثل تحقيق زيادة في الانتاج الزراعي واستقرار اسعار الطاقة عند متوسط 24 دولاراً لبرميل النفط ونجاح برامج التخصيص ورفع حجم الاستثمارات الاجنبية، وهي من العوائق التي حالت دون توسع الاستثمار المحلي والادخار القومي خلال السنة الجارية. وينتظر ان يتوصل البرلمان الى اتفاق على التعديلات التي تنوي الحكومة ادخالها على الموازنة، التي اعدت في منتصف الصيف الماضي قبل نتائج الانتخابات الاشتراعية التي جرت في 27 ايلول سبتمبر الماضي وأعادت التكنوقراطيين الى الحكم تحت ضغط واضح من رجال الاعمال والفئات الفقيرة، التي اعتبرت انها كانت اقل اهتماماً في خيارات الحكومة الاشتراكية السابقة التي لم تول عناية كافية بالبعد الاقتصادي. وكشفت مصادر مطلعة ل"الحياة" ان التعديلات، وغالبيتها مشاريع جديدة، تشمل بناء مجمع صناعي- تجاري حول ميناء طنجة الاورمتوسطي بكلفة بليون دولار، والتخطيط لبناء 100 الف شقة جديدة وزيادة التوظيف في مرافق القطاع العام واستخدام صناديق المخاطر 122 مليون دولار لتمويل تأهيل الشركات المغربية واعدادها للمنافسة الدولية وتخلي الدولة عن بعض القطاعات الانتاجية وزيادة وتيرة التخصيص والانفتاح المالي. واعتبر وزير المال ان خطة الاستثمار المكثف في البنى التحتية التي وعدت بها الحكومة من شأنها ادخال ديناميكية جديدة على الاقتصاد المحلي، خصوصاً في مجال الطرق السيارة والموانئ والمطارات والسكك الحديد والاتصالات ومياه الشرب والاسكان والطاقة. وقال الوزير، الذي قدم الموازنة أول من أمس، ان الدولة ستستثمر نسبة 23 في المئة من اجمالي الناتج المحلي التي قد تبلغ سبعة بلايين دولار باحتساب مشاريع الشركات العامة مثل مكتب الفوسفات وشركة "الخطوط الملكية المغربية" و"اتصالات المغرب" ومكاتب الكهرباء والماء والسكك الحديد. وتوقع ان تدر عملية نقل شركات عامة الى القطاع الخاص نحو 1,2 بليون دولار، على ان تستقر تحويلات المهاجرين عند 3,7 بليون دولار والسياحة عند 2,5 بليون دولار ومثلها للاستثمارات الخارجية، ما يسمح بتحقيق فائض في ميزان المدفوعات ويرفع الاحتياط النقدي المقدر حالياً بنحو عشرة بلايين دولار، على ان يظل عجز الخزانة في حدود ثلاثة في المئة من الناتج والتضخم 2,5 في المئة. وقال ولعلو ان المغرب تضرر اقل من غيره من مضاعفات احداث 11 ايلول 2001 وانهيار اسهم شركة الاتصالات الدولية "فيفاندي" التي تملك 35 في المئة من رأس مال "اتصالات المغرب". وأضاف ان مشروع الموازنة ارتكز على فرضيات تعتمد على التوجهات الكبرى للظروف الدولية والداخلية المرتقبة ولذلك فان بلورة اطار التوقعات تستهدف من جهة الارتكاز على الاتجاهات الكبرى للواقع الاقتصادي والمالي، ومن جهة ثانية على التوجه الاداري للسياسة الاقتصادية وقدراتها المالية. ولم يستبعد اللجوء الى السوق المالية الدولية لتقليص تحملات الدين الخارجي والداخلي، الذي سينفق المغرب اربعة بلايين دولار السنة المقبلة لتسديده مقابل 4,6 بليون دولار سنة 2002، لكنه استبعد تمويل الاستثمار العام عبر القروض الخارجية، تاركاً الباب واسعاً للشركات المملوكة للدولة للاقتراض من السوق الدولية لتخفيف العبء على القروض الداخلية، التي قال انها "يجب ان تمول مشاريع القطاع الخاص المحلي"، وتجنب الخزانة استخدام آليات الاقتراض الداخلي الذي يقدر بنحو 18 بليون دولار وبات يشكل عبئاً على موارد الخزانة لانه يقترب من حاجز 50 في المئة من الناتج المحلي. لكن ولعلو يعتقد، مثله مثل رئيس الحكومة ادريس جطو، ان موارد الدولة قد تتعرض للانخفاض بانفتاح الاسواق امام الواردات الاجنبية وتقليص عائدات الجمارك تطبيقاً لبنود اتفاق الشراكة الاوروبية ومتطلبات منظمة التجارة الدولية وبيع مؤسسات الدولة الى القطاع الخاص. كما يعتقد انه سيكون على المغرب تعويض هذه المداخيل عبر توسيع الوعاء الضريبي ومحاربة التملص الجبائي والتهرب الضريبي الذي يضيع على الخزانة بلايين الدولارات بسبب تدفق السلع الرخيصة من مدينتي سبتة ومليلة المحتلين، وهو الموضوع الذي يسمم مند فترة العلاقات الاسبانية - المغربية. وتمثل الضرائب نحو 60 في المئة من اجمالي الموارد الموجهة للخزانة والمقدرة بنحو 137 بليون درهم، وهو ما يجعل العجز يقدر سنوياً بنحو ثلاثة في المئة وقد يصل الى ستة في المئة في غياب برامج التخصيص كما حدث السنة الجارية. وسيحتاج المغرب السنة المقبلة الى ايرادات اضافية تقدر بنحو 2,3 بليون دولار وسيحصّل نصفها من عائدات التخصيص ونصفها الآخر عبر ايرادات وقروض لم يكشف عن طريقة تدبيرها. وقال تقرير لوزارة المال حصلت عليه "الحياة" انه سينتج عن وضعية ميزان المداخيل والنفقات المتوقعة في مشروع موازنة 2003 عجز في الموازنة العامة يقدر بنحو 13,3 بليون درهم 1,3 بليون دولار، وهو المستوى المسموح به في اتفاق الشراكة مع الاتحاد الاوروبي. وكان عجز الموازنة سجل ارتفاعاً قارب خمسة بلايين دولار في عامي 1999-2000 قبل ان يتراجع الى نحو بليوني دولار في عامي 2001 -2002. وسيظل العجز المالي هاجساً يعيق الاقتصاد المغربي لسنوات مقبلة في غياب بديل مكمل او اكتشاف النفط، بسبب اجتفاف جزء من مداخيل تقليدية للخزانة لن يمكن الاعتماد عليها في المستقبل، مثل مداخيل الجمارك وعائدات الاحتكار التي ستتراجع بتراجع دور الدولة في الشأن الاقتصادي وانتقال الدور الى القطاع الخاص في الاستثمار. وكان رئيس الوزراء قال امام البرلمان خلال عرض برنامج حكومته الاسبوع الماضي ان اكبر اكراهات الاقتصاد المغربي للفترة المقبلة هو المنافسةالدولية وانفتاح الاسواق والتزامات الرباط في منطقة التجارة الحرة مع الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة والمنطقة التجارية العربية، اضافة الى معوقات داخلية منها الجفاف. وتبدو فكرة تأهيل الشركات المغربية وتوسيع اعمال الاشغال الكبرى في مجالات البنى التحتية والتنمية الريفية احد الخيارات التي يراهن عليها الاقتصاد للفترة المقبلة، وهي ربما الفكرة الأم التي جعلت الهم الاقتصادي يطغى على الانشغال السياسي في التوجه الرسمي مند فترة على الاقل. وقد تضخ مجتمعة ما يزيد على عشرة بلايين دولار منها استثمارات عربية واوروبية. وقال ولعلو ان الموازنة الجديدة هي استمرار لنهج الخطة الخمسية التي تنتهي سنة 2007، ولكن مع تغيير الاولويات وتسريع وتيرة التنفيد والانجاز يتوقع المغرب ان يوفر نحو نصف مليون وظيفة جديدة للشباب، خصوصاً في القطاعات التي يرغب الرهان عليها مثل السياحة والصيد البحري والزراعة وتكنولوجبا الاتصالات والمشاريع الضخمة مثل الموانئ والمطارات والطاقة. وقال تقرير وزارة المال ان الاقتصاد سيسجل نمواً نسبته 4,5 في المئة نتيجة ارتفاع القيمة المضافة في الناتج المحلي غير الزراعي مثل السياحة والبناء والاشغال العامة والصناعات والنقل، ما يسمح بزيادة فرص العمل في القطاع الخاص لامتصاص بطالة الشباب التي تصل الى 13 في المئة. ويحتاج الاقتصاد المحلي الى نمو لا يقل عن تسعة في المئة في هذه القطاعات الصناعية والخدماتية سنوياً لتقليص معدلات البطالة الى ما دون 10 في المئة في السنوات المقبلة. ويعتقد المراقبون ان الزراعة ستحدد حجم النمو المقبل لانها ما زالت تمثل 14,3 في المئة من اجمالي الناتج المحلي وكل تحسن في الانتاج الزراعي يزيد الناتج بين 0,8 في المئة الى 1,6 في المئة من المجموع. واعتبرت الامطار الغزيرة التي تهاطلت على المغرب مؤشراً لتطور كبير مرتقب في القطاع الزراعي بعد سنوات من الجفاف. وقال مركز الظرفية الاقتصادية في الدار البيضاء ان مؤشرات الاقتصاد المحلي قد تحقق نمواً اعلى مما عرضته الحكومة في الموازنة، لكن على شرط التوافر على ظروف دولية وداخلية وحتى مناخية مساعدة وفي مقدمها اسعار النفط والزراعة. وتتحاشى مصادر الحكومة تقديم ارقام نمو كبيرة تحسباً لما ستؤول اليه الاوضاع الدولية غير المستقرة، ومن بينها احتمال شن حرب على العراق واسعار الطاقة والمحصول الزراعي والتخصيص. وتقوم الخطة الاقتصادية على ادماج القطاعات الانتاجية والتجارية كافة في الدورة الاقتصادية، التي قد تنسحب منها الدولة تدرجاً الى القطاعات التربوية والاجتماعية مثل التعليم والصحة والاسكان. ويتوقع ان يرتفع تكوين رأس المال الثابث الخاص بنسبة 10,5 في المئة مقابل 7,3 في المئة سنة 2002. وتعتقد الموازنة ان نمو تكوين رأس المال الخاص المرتقب سيدعم المجهود الاستثماري لموازنة الدولة في مجال البنى التحتية الاساسية وفي الميدان الاجتماعي، اضافة الى المشاريع المبرمجة في استثمارات صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية 6,6 بليون درهم، ما سيؤدي في النهاية الى تحسن مناخ الاستثمار الخاص وزيادة حصته في توسيع قدرات الانتاج.