يسع القارئ ان يدرج ما ترويه، في هذا "الملحق"، هالة من القاهرة، خريجة كلية السياحة والفنادق قبل ثمانية اعوام، في الثلاثين تقريباً، وبعض ما يرويه عاطف القاهري كذلك، خريج كلية الزراعة في 1995، 29 عاماً. في سلسلة طويلة من "الحالات" التي يتداولها معالجو الاكتئاب والسويداء والإحباط والانكفاء والغم والتعاسة والانهيار العصبي، ودارسوها. فالأطباء، معالجين ودارسين، تناولوا هذه الأعراض، الكثيرة التنوع والتنقل بين "لوحات" او وحدات مرضية وعلاجية متفرقة، منذ نشأة الأمراض العصبية، ومحاولته الانفراد بموضوعه، أو موضوعاته وأمراضه ومرضاه، والاستقلال به عن الطب الجسماني والعضوي. وعلى شاكلة اختصاص الطبيب الفرنسي، شاركو، بالهستيريا، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، اختص طبيب سويسري ألماني، كروابيلين، في مطلع القرن العشرين، بالاكتئاب "السوداوي". وقد لا يكون تعاقب الطبيبين الكبيرين، زمناً ووقتاً، على دراسة وعلاج المرضين النفسيين هذين، الهستيريا والإحباط الاكتئابي، في منعطف القرن التاسع عشر الى القرن العشرين الأوروبيين، مصادفة او اتفاقاً. فالمرضان، او مجموعتا الأعراض اللتان تنسبان إليهما وتعرّفهما، منشأهما انقسام المريض على نفسه، والمنازعة او الخلاف بين "مرتبتين" من مراتب شخصية المرء "الواحدة" على ما ذهب إليه إ. بيبرينغ، احد ابرز دارسي الاكتئاب" وهما مرتبة الأنا، أو "جهازها" على ما يسميه فرويد، ومرتبة مثال الأنا، او ما يتطلع المرء إلى بلوغه، وكان حافزه الى فعل ما فعل، والانصراف عما انصرف عنه. وليس عرضاً خالصاً ان يعمد فرويد، في مقالة معروفة في "الحداد والاكتئاب" أو "الملانخوليا" في 1915، الى التمثيل على "فقد الشيء"، اي موضوع الحب ومتعلقه، بترك الخطيب المرأة المخطوبة أو ترك المخطوبة خطيبها. ويعزو عاطف جملة الأعراض التي يشكو منها، وهي تجريح النفس، والشعور بالترك، وحمل الحال على قدر لا يرد، والانكفاء، والهشاشة، والعزلة، والهلوسة، والشعور بضعف الهوية وإغفالها وعمومها، ونضوب الرغبة في "موضوع" آخر، والانكفاء الى الماضي وبعضها يتفق مع "لوحة" د.مجدي صموئيل وبعضها لا يتفق - يعزوها عاطف كلها الى "أسر تجربته" هذه. وعلى هذا، تكاد تكون اعراض عاطف مثالاً لأعراض الاكتئاب "وينقصها"، لحسن الحظ، العرض العضوي الحاد، والإمعان في الهلوسة، وفي ضعف الهوية، وينأى بها نقصانها هذا من الهستيريا، ومن الذُّهان ومركباته. ويدخل عاطف، كذلك تحت باب "الأسباب الاجتماعية" التي ينجم عنها حال الاكتئاب في المجتمع المصري، ويعزو إليها د. ثروت اسحق انتشاره. وحمل الإحباط والاكتئاب على "الأسباب الاجتماعية"، أو على "اسباب" خارجية، قرينة على قوة الأنا ودفاعاتها، من وجه أول، وقرينة، من وجه آخر، على سطحية العَرَض والإصابة، ووقوفهما دون ثنايا اللاشعور وطبقاته العميقة والمطوية. فمثل هذا الاكتئاب يدخل في باب "الأحوال السوية" على ما تسميها إديث جاكوبسون، الأميركية، وتميزها من "الأحوال العصابية" الهستيريا، الهجاس... والذهانية الفُصام، العُظام، ومركبات الاثنين. وتكاد تكون رواية هالة رداً على عاطف وتعليلاته "الاجتماعية". وهي الرواية الأقرب الى المثال التحليلي، وإلى الأخذ بدينامية التعليل النفسي الداخلي وتوالد التظاهرات النفسية بعضها من بعض. وتنسب هالة اعراضها - ومنها انقلاب المزاج وتذبذبه بين العصبية المفرطة وبين الانكماش القانط والتسليم، ومنها "إطلاق ذهنها في القصص والروايات" وعيشها "في قصة غيرها"، على ما تقول، الى الأعراض الأخرى السائرة - تنسب اعراضها الى خسارتها والدها اما ما تسميه "تواضع جمالها" فهو من باب بخس النفس وتجريحها، وكذلك حملها تقاطر الخطّاب على ارصدة ابيها. وهي تؤوِّل غياب ابيها المستديم والمتطاول عزوفاً عن أبوته، وتخلياً متعمداً عنها، وعن والدتها. فخسرت، جراء العزوف والتخلي هذين، ما يصل بينها وبين رغبة الآخرين فيها، ورغبتها في الآخرين. وجرحها هذا جرحاً نرجسياً عميقاً. ولم يتح لها فرصة تعرف نفسها في مرآة والدها. ولمّا لم يترك الأب لأسرته، وللمرأتين فيها وهما هالة وأمها، ما يقيت الرغبة ويغذيها غير "الفلوس والحفلات والملابس الغالية والسيارة الفارهة"، أنزلت هالة هذه عن اي مكانة، وخلعت عنها اي دلالة. وجمعت بينها وبين "الأرصدة" في باب واحد مشترك. فكل الرجال، او الخطّاب، شأن الوالد الذي خلف "الفلوس" بديلاً عنه وعن إحاطته وحضانته وحرارته، يحلون المال محل الرغبة والعاطفة. والوالد والزوج - رجل الأم - في هذا المعرض واحد: "والدتي دائماً صامتة، علّها تبحث عن زوجها - والدي - مثلما ابحث عنه". وذلك على نحو ما هي هالة ووالدتها واحد في التصور والتخييل. ويستدل من روايتها الى ان العامين هما الوقت الذي انقضى ربما على ابتدائها العمل - وجبهها بالسؤال "آنسة أم مدام؟" أو: إلى اي رغبة أنجبتك تنتسبين؟ -، وفي اثنائهما تزوجت زميلاتها الواحدة بعد الأخرى. فردها هذا الى وحدتها الأولى، وإلى انسلال امها وأبيها من دائرة استدلالاتها وعلاماتها التي ترسم مسالك دنياها الأليفة والمرغوبة، وتستقبل رغباتها وإراداتها. والى سكوتها عن علة التأريخ بالسنتين المنصرمتين، تمر هالة مرّاً سريعاً بجلستي الطبيب النفسي. وتوقعها الشفاء من اكتئابها "السوي" بعد جلستين أقرب الى الإقرار بضعف الرغبة في الشفاء - بواسطة نبش الوقائع والأوهام والتخييلات الطفولية وقولها وإدراجها في سياقات متماسكة - منه الى تقرير واقعة علاجية مثل إخفاق طبيب عضوي في تشخيص عَرَض ووصف علاجه المناسب. وهي تختصر كذلك الإشارة الى "القصص والروايات" التي تحب قراءتها، وكانت "تعيش" حياة شخوصها وأبطالها. واختصار كلامها على امومتها، شأن عاطف في تناوله ما يدور بخلده في اثناء تعاطيه المخدرات، يقطع الطريق على الحدس في "التكوينات" أو "الأخلاط" المتخيلة التي يتغذى منها هذيان يلم بقتامية الشعور والوعي، ولا يبعد منها كثيراً. وقد يكون قرب القصص والروايات، وما تحوكه هالة حول هذه وتلك وتمزجه بهما من رغباتها وأخيلتها، من الشعور والوعي، باعثاً آخر على إحجامها عن التحليل النفسي. وسكوتها، اخيراً، عن ابيها وأمها - فهما يتصوران في حديثها بصورة انسانين جامدين وعصابيين - يحول بين القارئ وبين التكهن في حصة الوراثة في الاكتئاب. ويدخل معظم الذين يُقبلون على الكلام على إحباطهم واكتئابهم وغمهم وقنوطهم... او افكار الانتحار التي تراودهم، وهي حال كل المتقلبين بين سطور "الملحق" هذا، تحت الاكتئاب "البسيط" أو السوي. والشخص الذي يرد على الخسارة هذه، او على الإخفاق، بالإقامة على حال الإحباط والتعاسة والانسحاب من الدنيا ومخالطتها، يشكو نزيف "طاقة الأنا"، على قول المحللين. ويتفاقم الإحباط، ويبلغ "الانهيار العصبي" والشلل والعجز عن المبادرة، في حال الإصابة بجرح نرجسي يسد على المصاب ابواب الاعتداد بالنفس كلها. فيحمل "الجريح" على نفسه حملة قاسية، ويبخسها التقدير، بخساً "مازوشياً"، ويصليها العدوان الذي يتراءى له ان "الشيء" والد هالة في حالها يصليه إياه، خصوصاً إذا ارتدى حلة التجاهل والإنكار. فهذان يعيدان الشاب الى حال العالة التامة على الأم، المرضعة والحاضنة والوَصْلة بالعالم. وهي حال تسبق العلاقة الأوديبية، والفروق التي تُنشئها وتثبتها، وتوجب الهويات المتميزة من طريقها، ومعها الاستقلال بالرغبة، والقيام بتبعات هذا الاستقلال. ويغلب الشعور بقصور طاقات الأنا عن موجبات الحال ومثال الأنا على شعور حاد وكامن بالذنب والتقصير. فيذهب المحبط المكتئب الى ان الهوة بينه وبين العالم ومعاييره ودواعيه لا رادم لها. فيغلب الاشتباه، والترجح بين العدوانية وبين الاستكانة والتسليم، على النوازع الأصلية والعميقة. و"تختلط كل الصور في الذهن". فلا يبقى إلا انتظار "خبر" مبهم، يفشي سراً مطوياً يرد الى المكتئب المحبط هوية "حقيقية" تنسبه الى والد عظيم ومتفهم، وإلى والدة حنونة وقوية، وتزيح عن صدرها كابوس نسبة مزيفة جرّت على صاحبها اقداره التاعسة. وإذا كان حمل هذا على "انانية رأس المال" ثروت اسحق تعسفاً، وإغفالاً لإواليات نفسية مستقلة، وبعثاً لأهومة "الإنسان الاشتراكي الجديد" من رميمها السوفياتي او الماوي، فلا شك في اضطلاع العلاقات الاجتماعية المتغيرة والمضطربة، وغير الثابتة على مثالات متوارثة ومعروفة، بدور راجح في "انتشار" الإحباط والاكتئاب "السويين" و"العصابيين". فوجوه وصف المحبطين المكتئبين، وأحوالهم، كلها، تعود الى وضع الناس في مواضع غير مناسبة، على خلاف تعريف البلاغة او القول "السوي". والاكتئاب المرضي، على هذا، هو بمنزلة اللحن والنشاز والعجمة من اللغة. ولا يقتصر على إصابة اللسان فيصيب النفس المستوية ذاتاً وعيناً