يدخل الرئيس حسني مبارك الولاية الرابعة مستنداً الى نجاحات أمنية أفرزت مناخاً هادئاً يأمل المصريون ان يستمر بعد سنوات المعاناة التي لم تتوقف خلالها أصوات طلقات الرصاص ومشاهد الدمار وجثث الضحايا. ورث الرئيس المصري عن سلفه أنور السادات تركة ثقيلة من العداء المتبادل بين الحكومة والأصوليين. لكن الطريقة التي تعامل بها مبارك مع الاصوليين في بداية حكمه لم تظهر رغبة منه في الانتقام أو الثأر او استمرار العداء، على رغم انه كان اقرب المقربين الى السادات، وكان مقعده في المنصة يجاور مقعد الرئيس الراحل الذي قضى برصاص اربعة اصوليين على رأسهم خالد الاسلامبولي. أحال مبارك المشاركين في عملية اغتيال السادات ومن ساعدوهم على محكمة عسكرية، في حين أحال بقية عناصر تنظيمي "الجهاد" و"الجماعة الاسلامية" ممن كانوا ينوون تنفيذ خطة لقلب نظام الحكم على محكمة مدنية. واطلقت السلطات كل من حصلوا على احكام بالبراءة وتمتعت الحركات الدينية بقدر من الحرية من خلال ممارسة نشاطات في الجامعات والمساجد والأحياء الشعبية من دون مضايقات أمنية. لكن استمر العمل بقانون الطوارئ الذي فُرض على البلاد عقب اغتيال السادات. ويبدو أن رغبة الأصوليين في الهجرة والسفر الى افغانستان ساهمت بقدر كبير في ان تخلو بقية سنوات الثمانينات من مواجهات مع الحكومة. وفي الوقت نفسه لم تتخذ الحكومة أي إجراءات لعرقلة سفر مئات من الاصوليين الى باكستانوافغانستان، رغبه منها في "التخلص منهم" و"اتقاء شرّهم" من دون ان تدري ان هؤلاء سيصبحون في مرحلة لاحقة اكبر خطر يهددها. ويؤكد الأصوليون في نشراتهم ان "القتال" فُرض عليهم، وأنهم لم يختاروا خوض المعركة مع الحكومة. ويعتقدون ان السياسات التي اتبعها وزير الداخلية الأسبق السيد زكي بدر كانت السبب وراء حدوث بعض المواجهات بينهم وبين الحكومة في النصف الثاني من الثمانينات. لكن ثبوت عدم ضلوع تنظيمي "الجهاد" و"الجماعة الاسلامية" في ثلاث محاولات لاغتيال عدد من رموز الحكومة وهم وزيرا الداخلية السابقان النبوي اسماعيل وحسن ابو باشا والصحافي مكرم محمد أحمد، بعدما تبين ان تنظيماً صغيراً يعتنق عناصره افكاراً اكثر تشدداً، وهو تنظيم "الناجون من النار" كان وراء المحاولات الثلاث، ساهم في بقاء الحالة الامنية في البلاد على هدوئها. غير ان واقعة مقتل الناطق باسم "الجماعة الاسلامية" الدكتور علاء محيي الدين العام 1990 أثناء سيره في منطقة الهرم كان الشرارة الاولى في اندلاع الصراع مرة اخرى. اذ اتهم التنظيم الحكومة بتصفية محيي الدين ورتب عملية انتقامية لاغتيال وزير الداخلية السيد محمد عبدالحليم موسى. إلا أن المنفذين أخطأوا وقتلوا رئيس مجلس الشعب البرلمان الدكتور رفعت المحجوب. وبعد اقل من سنة ونصف سنة وقعت حادثة "صنبو" الشهيرة، حينما قتل عدد من الاسلاميين 13 قبطياً، ما اعتبرته الحكومة تحدياً غير مقبول وتطوراً نوعياً في عمليات الاصوليين لا يمكن السكوت عنه. فردت الحكومة بحملات لتصفية الأصوليين في اسيوط التي تحولت الى مركز للصراع بين الطرفين، ومنه انطلق العنف الى غالبية المدن المصرية. وبمرور الوقت طوّر كل طرف طريقته في التعاطي مع الطرف الآخر، فتخطت عمليات الأصوليين استهداف رجال الأمن الى ضرب السياحة ومحاولات اغتيال المسؤولين. وفي المقابل عمدت الحكومة إلى تصفية "مراكز التطرف"، فقضت على نفوذ الاصوليين في أحياء شعبية كانت لهم فيها لسنوات الكلمة العليا، كإمبابة وعين شمس وبولاق الدكرور والعمرانية في القاهرة والجيزة، إضافة الى قرى ومدن ومحافظات اخرى في الصعيد والوجه البحري. وظلت قضية الاصوليين الذين تركوا افغانستان وانتشروا وتشعبوا وتسربوا الى دول اخرى تمثل قلقاً بالغاً للسلطات المصرية التي بذلت جهوداً حتمية لإقناع الدول التي وصل اليها هؤلاء بتسليمهم. فنجحت محاولات وفشلت اخرى. وحينما نفذت عناصر في "الجماعة الاسلامية" محاولة اغتيال مبارك في اديس أبابا العام 1996 بعد اقل من سنة على قيام زملاء لهم في تنظيم "الجهاد" بتفجير السفارة المصرية في إسلام اباد، وضح ان مساحة الصراع بين الطرفين اتسعت بدرجة خطيرة. غير ان الحادثتين ساعدتا السلطات المصرية على إقناع المجتمع الدولي بخطورة وجود الاصوليين في الخارج. فأبرمت القاهرة اتفاقات أمنية مع دول عدة، وبدأ سيل الاصوليين المسلمين في الخارج يتدفق على مصر. وجاءت حادثة الأقصر العام 1997 تمثل نهاية العمليات الاصولية داخل مصر، ليس فقط لكون مبارك غيّر وزير الداخلية السيد حسن الألفي وعين العادلي مكانه، ولكن ايضا لأن الحادثة تسببت في تفاعلات شديدة داخل تنظيم "الجماعة الاسلامية" ظلت تدور شهوراً طويلة حتى اصدر التنظيم في آذار مارس الماضي قراراً بوقف كل العمليات العسكرية داخل البلاد وخارجها، استجابة لمبادرة سلمية أطلقها في حزيران يونيو العام 1997 القادة التاريخيون للتنظيم الذين يقضون عقوبة السجن في قضية اغتيال السادات. وليس سراً ان تفجير سفارات اميركا في نيروبي ودار السلام قبل نحو سنة ساهم ايضا في تضييق الخناق على قادة الاصوليين في الخارج، بعدما صارت اميركا طرفاً مباشراً في الصراع مع الحركات الاسلامية الراديكالية. لكن المؤكد ان الاسلوب الذي اتبعه العادلي في عدم استفزاز الاصوليين من دون التفريط في "هيبة الدولة" كانت له نتائج افرزت حال الهدوء التي تنعم بها مصر حالياً. ويرى محللون ان سنوات العنف الدامي كانت احد الاسباب التي منعت مبارك من إجراء اصلاحات سياسية بعدما خشي ان يتمكن المتطرفون من اختراق قطاعات المجتمع. لكن الحال تبدلت وظهر على الساحة أن أصوليين كانوا محسوبين في الماضي على تيارات راديكالية يطالبون بتأسيس حزب للإسلاميين بعدما كان حديث هؤلاء عبر سنوات عن الاحزاب من باب الكفر. لكن آراء أخرى ترى ان "الاحتقان" السياسي وضيق الهامش الديموقراطي كانا السبب وراء بروز ظاهرة العنف ولجوء الاسلاميين الى السلاح بعدما انسدت امامهم سبل التعبير عن الرأي. المهم في الامر ان الولاية الرابعة لمبارك ستشهد - كما اعلن - تغييرات في الأشخاص والسياسات. وتأمل المعارضة ومعها قطاع من الاسلاميين ان يكون التغيير جوهرياً، وأن يقضي على اسباب العنف حتى لا يكون الهدوء "حالة وقتية" او مجرد هدنة لجأ اليها الأصوليون لالتقاط الأنفاس، ثم تدور عجلة الصراع مرة اخرى.