مع بدء العد التنازلي للحرب التي تستعد الولاياتالمتحدة لشنها من اجل اسقاط النظام العراقي، بعد الانهيار المتوقع لنظام التفتيش الحالي على اسلحة الدمار الشامل العراقية، تخطو واشنطن خطوات ابعد قليلاً من شعارها المبهم بأن العراق "سيكون افضل بدون صدام حسين"، وتكاد تقدم للعراقيين وللعالم معالم صورة عراق المستقبل التي تعمل على صياغتها وفقاً لرؤيتها وحساباتها ومصالحها الاقليمية والكونية. قد لا تبدو هذه الصورة الآن مفصلة ولا مكتملة غير أنها تكشف بما احتوته وبما اسقطته من تفاصيل عن نمط التفكير الاميركي وعن الخطوط العامة لبرنامج عمل او خطة طريق هيئتها الولاياتالمتحدة لليوم التالي للتخلص من النظام في بغداد. بدأ بعض ملامح التفكير الاميركي هذا يظهر في الوثيقة الاميركية التي قدمت اخيراً في لندن الى اطراف المعارضة العراقية خلال استعداد الاخيرة لعقد مؤتمر جديد لها تسعى من خلاله الى التوافق في ما بينها على صيغة عمل مستقبلي يتزامن مع تنفيذ المشروع الاميركي لتغيير النظام. بينما تظهر ملامح اخرى في تقارير وأوراق أعدت في مجموعات عمل خاصة في بعض مراكز الابحاث الاميركية بمشاركة بعض عراقيي المنفى وباشراف وزارة الخارجية الاميركية ومجلس الامن القومي وابرزها تقرير "مجموعة العمل الخاصة بمبادئ الديموقراطية" الذي ينظر اليه باعتباره مسودة لدستور العراق المقبل. كل هذه الحزمة من الاوراق والافكار التي تتضمنها، والتي ستوضع على مائدة مؤتمر المعارضة بهدف تبنيها، تكشف عن جهد اميركي مضن بذل خلال الشهور القليلة الماضية لرسم صورة عراق المستقبل في عملية اشبه ما تكون بعملية استنساخ تجري داخل مختبرات مغلقة. تفصح "وثيقة لندن" التي عُززت لاحقاً بخطاب رسمي وقّعه اربعة من كبار مسؤولي الادارة الاميركية، لغةً ومضموناً، عن الاسلوب والنيات التي تضعها هذه الادارة أولاً في التعامل مع المعارضة، وثانياً في رسم صورة عراق المستقبل الذي تضع لبناته. ولو تجاوزنا اللغة وهي لغة استعلائية واملائية بكل المقاييس تضع شروطاً والتزامات مسبقة على كل المعارضين العراقيين كثمن لمجرد المشاركة في مؤتمر للبحث في "رؤية لعراق المستقبل" فإن بعض بنودها المدونة يكشف نيات لاستبقاء معظم قواعد اللعبة في أيدٍ اميركية وتقليص بل حتى استبعاد العراقيين من انتاج المعايير التي تخص مستقبلهم ومستقبل بلادهم. فإصرار "وثيقة لندن" مثلاً على "عراق في سلام مع جيرانه يتخلى عن اسلحة الدمار الشامل ويقبل من دون شرط قرار مجلس الامن الدولي 687 وباقي قرارات المجلس" هو شرط مثقل بالالتزامات لأي نظام جديد اضافة الى أنه يبقي العراق المقبل وكأنه دولة مارقة ولا يفتح أي باب للأمل لشعب العراق للتخلص من تبعات اخطاء النظام الحالي مثل تعويضات الحرب او حتى في رفع فوري للعقوبات التي تفرضها قرارات الاممالمتحدة ورؤية نهاية عاجلة لمسلسل عمليات التفتيش عن الاسلحة. ثم ان "وثيقة لندن" لا تعطي درساً مفيداً في الديموقراطية التي تشير الى ان الولاياتالمتحدة تساندها وتدعو اطراف المعارضة الى تبنيها حين تصر على اعتبار مؤتمر المعارضة القادم مجرد "حدث عام" اي ليس اجتماعاً لوضع سياسات وترفض قيامه بانتخاب جمعية وطنية او انشاء حكومة موقتة وتصرّ في فقرتها الاخيرة على ضرورة موافقة المندوبين الى المؤتمر مسبقاً على كل بنود الوثيقة وعلى ان يوافقوا في قراراته على المبادىء التي تضمنتها "وثيقة لندن" ذاتها بالترحيب بالتصفيق وليس بالتصويت. وعلى رغم امكان الادعاء ان الوثيقة مجرد مساهمة من ديبلوماسين وموظفين صغار تتضمن خطوطاً عامة لمؤتمر المعارضة إلا أنها المرة الاولى التي تطرح فيها الادارة الامريكية رؤية ولو جنينية تحمل عناصر حاسمة لتحديد مستقبل علاقتها مع المعارضة العراقية وايضاً لمستقبل العراق. بل اكثر من ذلك هو ما اسقطته الوثيقة عمداً او ما تجاهلته من مبادىء أو رؤى أو افكار بعضها تشكل أجندات شديدة الجاذبية لأطراف المعارضة كالفيديرالية للأكراد والأسلمة للفصائل الاسلامية الشيعية والعروبية للقوميين والتي ربما ستفاجئهم بخلافها او حتى بنقيضها في وثائق اخرى تعدها مجموعات العمل الخاصة ومنها تقرير "الانتقال الى الديموقراطية في العراق". تنتمي هذه الوثيقة الاخيرة، حسب ما تسرب منها حتى الآن، كباقي تقارير مجموعات العمل التي ظهر الكثير من ملامحها - من خلال الافكار التي عبر عنها واضعوها خلال نقاشات جرت حولها في ندوات نظمها بعض معاهد البحوث الاميركية خصوصاً تلك التي اقامها "اميركان انتربرايز انستتيوت" - الى منهج "وثيقة لندن" نفسه في الانفراد والوصاية واحتكار حق اختيار أجندة عملية التغيير، كما انها تستبعد بروحها ومضمونها عملياً وواقعياً الكثير من آماني الشعب العراقي وتطلعاته والكثير مما يرد في برامج اطراف المعارضة وطروحاتها وتملي عليهم خيارات جديدة لمستقبل العراق. فهناك مثلاً اختلاف جوهري بين ما تراه المعارضة ويصرح به قادتها من ان التغيير هي عملية تجري بأيدٍ عراقية ولأهداف عراقية. وبين ما طرحه البعض في الصفوة المنتقاة من عراقيي المنفى المشاركين في مناقشات مجموعات العمل، انها "عملية تحرير اميركية" وانها "توفر فرصة تاريخية للولايات المتحدة لا يضاهيها بالحجم ما حصل في الشرق الاوسط منذ سقوط الدولة العثمانية ودخول القوات البريطانية للعراق عام 1917"، الى غير ذلك من الافكار الخلافية التي تجد تعبيراتها في المواقف من قضايا الفيديرالية، والعلاقات القومية مع الدولة، وفصل الدين عن الدولة، وانتماء العراق لمحيطه العربي، ودور الجيش ونزع سلاحه، ومصير حزب البعث... وكلها قضايا لا يمكن بل يجب ألا تحسم منذ الآن ومنن خلال اي مؤتمر للمعارضة قبل اجراء نقاش وطني عام وواسع يلي عملية التغيير وضمن استفتاء شعبي عليها. هذه الحزمة من الاشتراطات والافكار والمقترحات والتصورات التي يراد منها ان تتبلور في موقف نهائي ووثائق قبل ان تلعب اطراف المعارضة العراقية "دور ذكر النحل" لتصادق عليها ومن ثم تقدمها الى العراقيين كافة ك "برنامج وطني للتغيير"، تظهر كأنها مشروع نخبوي وفوقي لإعادة صياغة كاملة للعراق وليس مشروع اعادة بناء وطني، والفارق شاسع بين الامرين كما هو بيّن. فالأول مهما اكتسى بتسميات براقة يظل أقرب الى تلك النماذج المعروفة من استراتيجيات الهيمنة والتبعية والمحاكاة الاستعمارية والتي تتعاضد في تطبيقها قوى كونية ذات طموحات امبراطورية ونخب محلية مصلحية خانعة ومستسلمة لقدرها او ما يمكن توقعه منذ الآن بمشروع للارتباط بالمركزية الاميركية التي تتبلور صياغتها كونياً. بينما يقع المشروع الثاني ضمن الاختيارات التي يصنعها الناس من خلال التفاعل بين اراداتهم الحرة وحكمتهم وقدرتهم على التنظيم الذاتي وتاريخهم وثقافتهم ومصادرهم المحلية. لذلك تبدو الثقة التي يظهرها بعض المعارضين العراقيين في صياغة افكارهم ومقترحاتهم واستعراضهم لها كباحثين وخبراء امام مختبرات البحوث الاميركية التي سرعان ما تحولها الى منتجات او اوراق عمل محلاّة بكل تعبيرات الحداثة والليبيرالية وقابلة للاستهلاك في القرية الكونية هي ثقة تبعث على الحسد حقاً. الاكثر اثارة للقلق خطط تسرّب عن الكيفية التي ستعالج بها الولاياتالمتحدة الفراغ السياسي الذي سيحصل عند سقوط النظام. وهي خطط خليطة من دعوات مباشرة للاحتلال او محاولات تجريبية ووصفات جاهزة للتصدير واستعادة نماذج بالية ينتمي بعضها لمدارس الاستشراق المتعالية او لمدرسة نهاية التاريخ الاستئصالية او هي اشد صلة بنماذج التبعية والموالاة المستهلكة تتجاوز جميعها الواقع المحلي شديد التعقيد وتوقعات العراقيين وواجبهم في البحث والاختبار والابتكار وواقع المنطقة وذاكرة اهلها التاريخية. هذه المشاريع التي تروج لحكم تحت ادارة عسكرية اميركية او ادارة دولية لفترة غير محدودة حتى يتم الانتقال الى ادارة عراقية وطنية تهيىء لانتخابات لاحقة تتضافر مع اصرار الادارة الاميركية على اعادة صياغة مبادرات قوى المعارضة الرئيسية والترويج لابتداعات منقحة لمجموعة مقربة من نخب المنفى لا تقدم خيارات حقيقية بمقدار ما تقدم نماذج مستوردة هي أقرب الى وصفة لتكرار الفشل وللفوضى وعدم الاستقرار وربما لأوتوقراطية جديدة من ان تكون علاجاً نابعاً من الحاجة والفعل الوطنيين. هناك ادراك واسع لدى اطراف عديدة في المعارضة العراقية لهذا التنافر الذي يفصل بين المتطلبات الوطنية لعملية التغير وازالة النظام الشمولي التي اصبحت حاجة ماسة وبين المشروع الاميركي للتغيير في العراق الذي من الواضح انه ينطوي على تحقيق أهداف ومصالح استراتيجية تتناسب مع الامتداد الامبراطوري والتي تستعد الولاياتالمتحدة لتدشينه عن طريق الحرب المتوقعة ضد العراق. هناك قناعة ايضاً لدى هذه الاطراف بتوفر فرصة فريدة لتحقيق ما عجزت عنه لسنوات طويلة بإسقاط النظام من خلال المشروع الاميركي للتغيير مما يعني تلاقي مصالح الطرفين على تحقيق هدف واحد. غير ان التجربة التاريخية اثبتت قبل اكثر من ثمانين عاماً على ان التقاء اهداف العراقيين والبريطانيين ضد العثمانيين لم ينتج الدولة الوطنية المرجوة بل اصبح نقطة انطلاق لمجابهة السياسات الاستعمارية، كما كان استمرار هذه السياسات وتسخير النخب المحلية لتطبيقها من خلال زجها في مدار التبعية مدعاةً لانطلاق النضال لصالح المشروع الوطني. لم تكن الازمة العراقية يوماً ازمة عارضة بل هي ازمة وطنية شاملة وعميقة تمتد من فجر الدولة الحديثة وتضرب بجذورها كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وما النظام الشمولي وممارساته التسلطية والقمعية سوى نتاج طبيعي لهذه الازمة المزمنة. نعم هناك حاجة لعملية اعادة بناء كلي للدولة العراقية على اسس حديثة تستجيب لتطلعات الناس وتتلاءم مع روح العصر وغاياته لكن ليس بالقفز على واقع البلد المعقد ومحيطه الاقليمي الحيوي ولا من خلال جعله مختبراً لتجارب تهدف الى ضم المنطقة المستعصية على الضم الى القرية الكونية. وفي هذه المرحلة الحاسمة لا بد من ان ينطلق اي مشروع للتغيير في العراق من دراسة الماضي واخذ العبر منه وإلا سيظهر العراقيون امام انفسهم وامام العالم مثل زوربا في رواية كازنتزاكي الشهيرة حين وقف ليقول "كنت اعلم جيداً ما سيتهدم لكني لا اعرف ما الذي سيبنى فوق الانقاض". كاتب عراقي.