فجأة، ومن دون سابق انذار، وفي توقيت اختاره الرئيس العراقي ظناً منه أن من شأنه تصدير الفتنة إلى الكويت، خرج علينا الرئيس "المهيب" برسالة اعتذار من الشعب في الكويت منتدباً لإلقائها الوزير نفسه الذي كان قد عزله سابقاً من موقعه في وزارة الخارجية عقاباً له على اخفاقات ارتكبها، تماماً كما انتدب وزير خارجيته لإعلان قبول القرار الدولي 1441، وكأنه بذلك يرتكب الخطيئة ويترك لغيره تلاوة فعل الندامة عنها. ولعل أول ما تبادر إلى عقل المشاهد العربي وذهنه أن رسالة الاعتذار المزعومة إلى الشعب في الكويت رددها 32 مرة شاءها صدام أن تكون جرس انذار لقادة المنطقة ولكل المعنيين في منطقة الخليج، ولا سيما منهم حكام الكويت، تماماً كما ورد حرفياً على لسان أحد أركان حزب البعث الحاكم في بغداد سعد قاسم حمودي، وهو تهديد جديد يضاف إلى تهديدات صدام المتكررة للمنطقة وللكويت في الطليعة، ضارباً بعرض الحائط كل مقررات قمة بيروت العربية التي دعته أولاً وأخيراً إلى طمأنة الكويت وبناء الثقة معها. كان من المآخذ على الكويت، بعد انجاز التحرير من الغزو العراقي، إضرارها على رغم كل ما أصابها من دمار وخراب وما لحق بشعبها من تشريد وإذلال على يد الشقيق الأقرب، انها أوجزت مطالبها من النظام العراقي، على كثرتها، وارتضت تحديدها بمطلبين اثنين هما: الاعتذار من الكويت عما أصابها على يديه وإعادة أبنائها الأسرى الذين أخذوا عنوة من داخل وطنهم واقتيدوا قسراً إلى زنزانات القهر وأقبية الظلم في بغداد، وكان ذلك مساهمة من الكويت في محاولة رأب الصدع واستجابة لمساعي الأشقاء والأصدقاء في قفل هذا الملف توطئة لإعادة وصل ما انقطع في مرحلة لاحقة تكون في مصلحة الشعبين الشقيقين أولاً، وفي مصلحة الأمة العربية وتضامنها ثانية. ولقد بدا ذلك واضحاً أمام الأشقاء في قمة عمّان، ومن بعدها في قمة بيروت في آذار مارس الماضي، التي شاءت القيادة الكويتية ومعها الأشقاء السعوديون والعرب الغيارى على المصلحة القومية، أن تكون المصالحة هديتها إلى القمة وإلى لبنان الشقيق الذي استقبل القمة على أرضه أولاً، وأخيراً إلى الشعب العربي بمختلف أقطاره. لكن روحية التسامح هذه من جانب الكويت، ومحاولة نسيان الماضي على رغم قساوته، والانفتاح من جانب الاخوة السعوديين وباقي القادة العرب، والذي توّج في البند العشرين من قرارات قمة بيروت الذي ينص على دعوة العراق إلى التعاون الكامل في حل مسألة الأسرى والمرتهنين الكويتيين ووقف الحملات الإعلامية المسيئة، وتأكيد احترامه استقلال دولة الكويت وسيادتها وأمنها وضمان سلامة ووحدة أراضيها وتجنب تمرار ما حدث عام 1990 وتقديم كل ما من شأنه طمأنة الكويت إلى نيات النظام العراقي والاعتذار عما أصابها على يديه وبناء الثقة معها. لكن كل ذلك قوبل لاحقاً، وعلى رغم محاولة ممثل العراق في القمة الظهور بمظهر الحمل الوديع والعربي المتمسك بعباءته العربية تعبيراً عن غيرته القومية، كل ذلك تبدد في أول مناسبة اذ راح مسؤولو النظام ورموزه يتبارون في انكار وجود أسرى كويتيين في العراق وكأنهم دخلوا الكويت في رحلة استجمام ولم يتركوا وراءهم اليتامى والأرامل ومئات الشهداء ودماراً لا يوصف في مجالات شتى لا تزال الكويت تحاول منذ ذلك التاريخ الأسود محو آثاره. لكن ذروة المهازل وقمة الانتهاك لقرارات قمة بيروت تأتي هذه المرة من رأس النظام المتمترس وراء أحقاده، وقد فضحتها كلماته على لسان من انتدبه إلقاء ما يسمى "رسالة الاعتذار" لشعب الكويت، وليس للشعب الكويتي الشقيق وقيادته التي خاضت معركة شرسة غداة صدور قرار القمة مع بعض الشرائح السياسية والإعلامية في الكويت لإقناعها بايجابية التوجه العراقي الجديد على قاعدة "عفا الله عما مضى"، غير أن "الاعتذار" الرئاسي جاء فنكأ جرحاً وأكد حدس الكثير من المراقبين وصحة ما توقعه العارفون بحقيقة النيات "الصدّامية"، كما جاء ليظهر غيرة الرئيس العراقي العمياء على مصلحة "شعب الكويت" الذي يعاني من "احتلال" كان هو المتسبب الأول والأخير في استحضاره إلى المنطقة. فتح ما سماه "الاعتذار" صفحة جديدة ولكن سوداء أيضاً في العلاقة مع الكويت، عنوانها الأساس، كما أعلن وزير الإعلام الكويتي الشيخ أحمد فهد الأحمد الصباح "محاولة دق الأسفين بين الشعب الكويتي وقيادته" التي يتهمها بالعمالة للأجنبي، وهي القيادة نفسها التي ما انفك طوال فترة حربه مع إيران ينوّه بعروبتها ويشيد بأصالتها القومية، بل يمنحها أكبر الأوسمة في تاريخ العراق الحديث. جاءت "رسالة الاعتذار"، وليتها لم تأت، ساعية الى تحريض الشعب الكويتي، أو بعض شرائحه على الأقل، ضد القوات الأميركية التي ما كانت لتطأ أرض الكويت لولا أحلامه التوسعية و"حبه الأخوي" للكويت وشعبها، والواضح أنه فيما يجهد لنفي صفة الإرهاب عن نظامه، تأتي كلماته وفلتات لسانه وتعابيره المماثلة تماماً لتعابير قادة "القاعدة" في بياناتهم المعروفة، لتفضح زيف ادعاءاته بالإنسانية والطهارة والعفة وبياض السريرة على قاعدة "من فمك أدينك". لقد سها عن بال رئيس النظام العراقي وهو يتوجه إلى "شعب الكويت" طالباً منه الثورة على قيادته والتمرد على سياساته، أن هذا الشعب الذي ابتلي مع الشعب العراقي الشقيق بقيادة لم تستوعب مع الأسف على رغم مضي ما يقارب الثلات عشرة سنة، فداحة المأساة التي سببتها لشعبها ولأمتها، فإذا بها لم تبارح أحلامها ومطامعها وسياستها المدمرة وشهوتها إلى السلطة. لقد سها عن باله أن هذا الشعب، بمختلف شرائحه السياسية والاجتماعية، لم يتأخر على رغم حال الاحباط والتشرد التي كان يعيشها بعد أقل من شهرين على الغزو "الشقيق" عن مبايعة قيادته في مؤتمر جدة في تشرين الأول اكتوبر عام 1990 من دون ضغط أو إكراه، ودونما حاجة إلى صناديق اقتراع معروفة النتائج، وهي 100 في المئة من أصوات الناخبين حتى المتخلفين منهم، في سابقة لم يألفها عقل إنسان، أضف إلى ذلك، انه فيما كانت الكويت ترزح تحت الاحتلال العراقي لم يجد صدام كويتياً واحداً يتعاون معه. إن قراءة متأنية لرسالة "الاعتذار" تظهر بما لا يقبل مجالاً للشك، أن هذا النظام يعيش آخر أيامه، وهو في محاولته البقاء على قيد الحياة يعيش حالاً من اليأس والتخبط والتهور. كم كنا نتمنى لو أنه استبدلها بخطاب اعتذار صريح ومباشر للكويت، قيادة وشعباً، عن غزو لم ترتكب الكويت ما يبرره، على حد ما أكد النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الأحمد الصباح، وكم كنا نرغب في استبدالها بمبادرة صادقة وطيبة يطلق بموجبها فتية مؤمنين من أبناء الكويت أسرى في سجونه لم يأت على ذكرهم في رسالته لا من قريب أو بعيد، فيثبت أنه عاد إلى صوابه ورشده وعاد إلى اصالته… ولكن "على من تقرأ مزاميرك يا داود". استاذ العلوم السياسية - جامعة الكويت.