انتقلت الأسرة الى الشقة الجديدة القديمة قبل أسابيع قليلة من ذلك اليوم في كانون الثاني يناير 1952. وعندما وصلنا أنا ومصطفى الى مدخل الممر الذي يؤدي الى باب العمارة وبعده الى محل الخطاط ومدخل الى سينما رمسيس، رأينا عمال السينما والدكاكين أسفل العمارة محل جيرار للمفاتيح والأقفال ومخزن لتوزيع الصحف بجواره، الى جانب البوابين في عمارات الأوقاف الثلاثة على هذا الجانب من الشارع، الجميع يسدون مدخل الممر تحرزاً من دخول المشاغبين الى فناء السينما التي تطل عليه العمارة. صعد بنا عامل المصعد الى الدور الرابع وكان كعادته عندما تحرك المصعد يبسمل ويحوقل ويسبح طوال صعودنا وحتى وصلنا الى الدور الرابع، ففتح لنا الباب ثم دق لنا جرس الشقة. كانت شبابيك المطبخ عالية تفتح على سلم الخدمة الحديد المفتوح بدوره على مداخل الشقق. رأيت والدتي تتحرّك وراء شباك المطبخ عندما تقدمنا عبدالعزيز عامل المصعد، الى باب الشقة، وهو ما زال يبسمل ويسبح ودق الجرس، فتحت لنا أهداف في فرح هي والخادمة، وأسرعت والدتي وشقيقتي للقائنا، وانتظر العامل حتى حضرت والدتي، واعتذر لها عن إزعاجها عند الظهر، لكن "أولئك الأروام المجانين" كانوا في غاية الانزعاج، وطمأن والدتي انه هو وعمال السينما يحرسون الممر والمداخل أسفل العمارة ولا موجب للخوف، وانصرف بعد ان حيّانا جميعاً. على الغداء سألنا عن والدي، فقيل لنا انه جالس على كرسي على الرصيف أمام محلاته، وقد أغلقت ابوابها الخارجية من الحديد والصاج، وكذلك فعل غيره من التجار "بلدياته"، كان يحرس دكانه وتجارته من الأثاث والاخساب التي يمكن ان تهلك في غمضة عين اذا أصابها شرر. اختفى رجال البوليس من الشوارع، ولم يكن احد يعلم ان كانوا متجمعين في الاقسام، أو قاعدين في بيوتهم، أم مشتركين في الشغب والمظاهرات، فكان الصعايدة في سوق الموبيليات معتمدين على أنفسهم وعمالهم وحماليهم في حماية متاجرهم، وكلهم "بلديات" ... سألنا لماذا اعتذر عبدالعزيز لوالدتي، فضحكوا وقالوا بسبب رائحة السمن البلدي والمورتة والحلبة! وفعلاً كنا نشم تلك الروائح النفاذة منذ دخولنا العمارة. كان غالبية السكان من اليونانيين المقيمين في مصر منذ زمن طويل، وبعضهم ولد فيها، لكنهم كانوا يختلفون عن اليونانيين والقبارصة الذين كانوا جيراننا في شارع محمد علي، ومن الواضح أنهم كانوا أعلى في الدخل والثقافة. كانت العائلات اليونانية التي تسكن شارع محمد علي والشوارع والحواري المتفرعة منه عائلات عمالية، معظمهم فقراء، الرجال يعملون في الأفران، والبقالات، والبارات، والمطاعم، والنساء يشتغلن بالخياطة وتدبير شؤون الأسرة. وكان ابناؤهم كثيرين مثلهم مثل المصريين، يلعبون معهم في الشوارع والجميع يتحدثون العربية بطلاقة، واذا أتموا الدراسة في المدرسة اليونانية الخيرية يتدربون في مؤسسات ليصبحوا عمالاً مهرة. وكان من الملاحظ ان جيراننا اليونانيين يخصصون نسبة عالية من دخلهم لأجرة السكن، أي بالعربي على حد قول الجارات يسكنون فوق مستواهم ليتمسكوا بمظهرهم كخواجات! وتحكي الجارة في تعجب عن سفرة الغداء أو العشاء التي يتجمعون حولها، وكل واحد أمامه طبق وشوكة وسكين، يتوسط كل ذلك طبق كبير مملوء بطاطس مسلوقة، وطبق سلاطة خضراء لم يكلف خمسة قروش. ربما كانت أسرتنا أول أسرة مصرية عادية تسكن تلك العمارة الشاهقة في شارع فاروق، كان الدور الأول في العمارة تشغله عيادة طبيب مصري، ومكتب محاماة وتجارة، أما بقية الشقق فتسكنها أسر يونانية، وأسر يهودية متفرنجة هؤلاء رحلوا تباعاً بعد سنة 1948، وفي الدور الخامس يسكن المخرج حلمي رفلة، ولم أشاهده في الواقع ابداً، بل كنا نعرف شكله من صوره في المجلات وفي اعلانات السينما.... مقاطع من نص منشور في العدد الأخير من مجلة "ألف" الصادرة عن الجامعة الأميركية في القاهرة.