الديبلوماسي الأميركي الراحل فيليب حبيب هو موضوع كتاب "ملعون هو صانع السلام" لجون بويكن، تنشر دار النهار في بيروت قريباً ترجمته العربية التي أنجزها غسان غصن. كتاب عن فيليب حبيب ولكن، ايضاً عن الديبلوماسية والحرب والنهج السياسي والصراع العربي - الاسرائىلي من خلال أزمة حصار بيروت وترحيل منظمة التحرير الفلسطينية قيادة ومقاتلين. في ما يلي حلقة ثالثة أخيرة مما اخترنا، تبين مغادرة ياسر عرفات ومسلحين فلسطينيين لبنان بحراً، ومغادرة فرق من الجيش السوري وجيش التحرير الفلسطيني براً الِى البقاع اللبناني والأراضي السورية، وما رافق ذلك من صراع ديبلوماسي أميركي - اسرائىلي. فجر السبت، الواحد والعشرين من آب اغسطس، شقّت السفينة الفرنسية "ديف" طريقها بحذر بين هياكل سفن الشحن الغارقة، المبعثرة في مدخل مرفأ بيروت كجبال من الجليد يعلوها الصدأ. ولاحظ ركابها الثلاثمئة والخمسون من جنود "الفرقة الاجنبية" الفرنسية، حتى قبل نزولهم الى البرّ، ان هناك شيئاً ناقصاً. فمن المفترض بهم الانضمام الى جنود من الجيش اللبناني يفترض بأنهم قد تسلموا من الاسرائيليين زمام السيطرة على المرفأ ليلة الجمعة، لكنهم لم يروا سوى اسرائيليين. سأل كولونيل مندهش ضابطاً اسرائيلياً: "ماذا تفعلون هنا؟ متى ستغادرون؟ فأجابه: "نحن مستعدون للمغادرة عندما ينزل جنودك الى البرّ". بدأ الفرنسيون عملية الانزال وتسلم كل جزء بجزئه من الاسرائيليين، فيما الجانبان "يتبادلان كلمات قاسية"، كما ذكرت انباء صحافية. وعندما وصل ضابط من الجيش اللبناني بسيارته العسكرية، صرخ به الكولونيل الفرنسي وسأله عن جنوده، فأجاب بصوت منخفض: "لم يسمحوا لنا بالدخول". دأب فيليب حبيب على القول طوال الوقت: "انها خطة واهية جداً، وسوف تحدث مفاجآت"، وبالطبع، لم تكن تلك الحادثة سوى المفاجأة الأولى. كان حبيب والسفير الفرنسي بول مارك هنري في المرفأ لاستقبال أولى الفرق في القوة المتعددة الجنسيات، التي طال انتظاره لها، فاهتزّ طرباً لدى رؤيتهم نازلين من السفينة. يا إلهي، انهم حقاً هنا! بعد كل الكلام، بعد كل ليِّ الأذرع، بعد كل الترتيبات والاستعدادات، ها هم فعلاً يقفون هنا أمامي! أخيراً، بدا أن الاجلاء سوف يحدث بالفعل. غير ان مشكلة سرعان ما ألهته عن الابتهاج، هي كون المرفأ اشبه بمسرح مدرّج تحيط به بنايات عالية مثالية للقنّاصة لا يزال الاسرائيليون في بعضها يراقبون ويرصدون. وإذا كانوا في مواقع تمكنهم من المراقبة، فانهم أيضاً في مواقع تمكنهم من التقنيص، لذا، ينبغي ذهابهم قبل وصول قادة المنظمة ومقاتليها ليستقلوا السفن. اندفع الى حجرة يتخذها جنرال اسرائيلي مكتباً له، مطالباً بتفسير فوري لما يجري، فأصرّ الجنرال على عدم استطاعته تحريك قواته، شارحاً على خرائط أمامه لماذا لا يستطيع تحريكها: "جرى بيننا جدال حاد، لم اكسبه" في نهاية الأمر. كذلك، اعترض حبيب على وجود بعض الدبابات الاسرائيلية في مدخل المرفأ، لخشيته من احتمال اطلاقها النار على سفن الاجلاء بعد صعود الفلسطينيين اليها، فرفض الجنرال الاسرائيلي ايضاً تحريكها، لكنه وعد بعدم اطلاق النار على السفن. بدلاً من اعاقة سير العملية، رضخ حبيب للأمر، آملاً الا يروّع، وجود الدبابات الاسرائيلية مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية. لو حدث مثل ذلك الارتياع، فإن الفلسطينيين قطعاً لم يظهروا شيئاً منه على الاطلاق. لقد سعى بيغن وشارون جاهدَيْن الى إذلال منظمة التحرير الفلسطينية، لكن المنظمة تسعى جاهدة الآن بقدر مماثل الى اظهار مغادرتها كاستعراض للاحتفال بالنصر. فها هي وسائل الاعلام العالمية محتشدة لنقل وقائع هذه العملية التي لم يسبق لها مثيل، وها هم المقاتلون الفلسطينيون يتأنقون استعداداً للظهور أمام الكاميرات. خرجوا من مواقعهم المحصّنة بعد حلق الذقن وقص الشعر وارتداء بزّة عسكرية جديدة، ووصل الكثيرون منهم الى المرفأ، تحيط بأعناقهم، وتتدلى على صدورهم العقود والأكاليل من الزهر الأبيض. اليوم، يستقل ثلاثمئة وسبعة وتسعون فلسطينياً المعدية القبرصية اليونانية المدنية "صول جيورجيوس" الى قبرص، التي يتوجهون منها جواً الى الأردن والعراق. وفيما وصلت الشاحنات المحمّلة بهؤلاء الفلسطينيين، كما يقول جورج شولتز، كان الجنود الاسرائيليون "عموماً يعترضون السبيل ويعرقلون الجهود لإخلاء منطقة المرفأ وحفظ النظام. أصرّ فيليب حبيب على الوجود في المكان نفسه من المرفأ، وأدى وجوده الى تهدئة الخواطر، ومنع اي تفجر عنيف يمكن حدوثه في ذلك الجو المتوتر". في الثالثة من بعد الظهر، تركت المعدية القبرصية اليونانية رصيف الميناء وناورت ببطء لتتجاوز سفن الشحن الغارقة، قبل انطلاقها الى عرض البحر. انشغل بال القادة العسكريين الاسرائىليين بما تخلّفه منظمة التحرير الفلسطينية وراءها من السلاح بقدر انشغاله بما تأخذه معها. ورأوا في الاجلاء، كما يقول السفير لويس، ما يشبه "حصان طروادة"" اذ تكرر الاستخبارات الاسرائىلية منذ اسابيع ان المنظمة تخطط بخبث لابقاء آلاف من المقاتلين في لبنان وإجلاء اشباههم مكانهم. ومع بدء عملية الاجلاء، تعمق القلق الاسرائىلي من ان منظمة التحرير تقوم بهذا العمل فعلاً. لو انها تفعل ذلك حقاً، وتجلي بدلاء بزعم انهم مقاتلون، فليس ثمة امكان للتحقق من هذا الامر" حيث اثبتت سلسلة الاجراءات للتأكد من هويات المغادرين انها فعلاً ملتبسة ومشكوك في نتائجها" بقدر ما خشي الاسرائىليون حصوله. لم ينجح حبيب في حمل منظمة التحرير الفلسطينية على تزويده مقدماً بقوائم تتضمن اسماء المطلوب اجلاؤهم وأرقام هوياتهم او اوراقهم الثبوتية، مثلما اراد الاسرائىليون والاردنيون. كذلك، لم ترد القوة المتعددة الجنسيات اي اجراءات بيروقراطية معقدة تتسبب بصفوف طويلة وبطيئة التحرك بمحاذاة السفن، لأنها لم ترغب في تحمل المسؤولية عن سلامة المقاتلين الفلسطينيين في المرفأ دقيقة واحدة اكثر مما يلزم. مما لا ريب فيه ان ضباط "المتعددة" والجيش اللبناني احصوا بدقة مستقلي السفن، لكن تحديدهم للهويات والصفات يمكن وصفه بأنه ليس افضل من مهمة "مقعدة البنطلون". فقد اصبحت كلمة "مقاتل" تعني اي ذكر تجاوز السابعة عشرة اتاح له ظهوره في المرفأ اعلان نفسه مقاتلاً" كما صنفت مجموعة من النساء مقاتلات، فقط بفضل مجيئهن مرتديات بزات عسكرية. وكان كل "اللامقاتلين" تقريباً من الاطفال، في حين ان بعض "الفلسطينيين" المغادرين بيروت لم يكونوا في الواقع سوى مرتزقة باكستانيين وسريلانكيين وعرب - ولاستكمال حلقة المرونة التعريفية على نحو مرضٍ، لا بد من القول ان معظم جنود "الفرقة الاجنبية" الفرنسية في القوة المتعددة الجنسيات لم يكونوا في الواقع فرنسيين وانما من الألمان والبلقان والأوروبيين الشرقيين. تصادف اليوم الثالث للاجلاء مع الموعد المحدد لعقد مجلس النواب اللبناني وانتخاب رئىس جديد للجمهورية - وهو انتخاب قام فيه حبيب، كأجنبي، بدور استثنائي" الى حد ان الانباء نقلت عن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط قوله له: "اصبحت جزءاً من المنظومة". فقد وجه حبيب قدراً كبيراً من طاقته خلال الصيف نحو تهيئة الحكومة اللبنانية للبدء في فرض اعتراف الآخرين مجدداً بحقها في الاستقلالية والسيادة، معتبراً ان الاجلاء والانتخاب هما الجرسان التوأمان اللذان يقرعان ايذاناً بافتتاح تلك المرحلة الجديدة. من المؤكد ان انتخاب رئىس جديد لم يكن موضع اهتمام حبيب وقلقه وحده، وانما موضع الاهتمام والقلق لدى الجميع" ولم يكن ايضاً ابن ساعته، وانما قديم العهد نسبياً - حيث برز بقوة في بعض محادثاته خلال عام 1981، مثالاً لا حصراً، تناول حبيب طعام العشاء في نيويورك قبل ايام قليلة من بدء الغزو الاسرائىلي، مع صديقه غسان تويني، سفير لبنان آنذاك لدى الأممالمتحدة، تحقيقاً لهدف خاص هو استقاء معلومات منه عمن سيصبح الرئىس التالي. يقول تويني، الذي يصف نفسه بأنه وقف دائماً "ضد بشير بشدة، انه استشف في ذلك اللقاء ان حبيب "لم يكن مناهضاً لبشير الجميل بقدر ما ظننت انه سيكون". ومع تحول الاجلاء من فكرة عامة الى حقيقة واقعة، كما يذكر السفير ديلن، اصبح اهتمام حبيب بانتخاب الرئىس الجديد اكبر حتى من اهتمامه بسير عمليات الاجلاء ساعة فساعة. حاول وليد جنبلاط اقناع حبيب بأن انتخاب بشير سيؤدي الى تدمير البلاد، وطلب منه ممارسة نفوذه لضمان ان يكون الرئىس المقبل اي شخص إلا بشير. وقد بذل حبيب جهده ليبدو غير متحيز، قائلاً للكثيرين انه لا يعمل في حقل انتخابات رؤساء الجمهورية في لبنان" على رغم اضافته الى ذلك ان من الواضح ان بشير سيفوز بالرئاسة. لكن اعتقاده بأن لوجهات النظر السعودية وزناً لدى المسلمين اللبنانيين دفعه الى ترتيب رحلة سرية لبشير الى المملكة العربية السعودية، كي يحاول تجنيد دعمهم - او على الاقل لتسكين معارضتهم. وقد نبه السعوديون بشير الجميل الى ضرورة البقاء بعيداً من الاسرائىليين، غير انهم وافقوا على إسكات اصوات معارضتهم له. لم يكن في تكهن حبيب بفوز بشير اي مجازفة، وخصوصاً لأن ما من شبه يذكر بين انتخابات في لبنان ومفهومية الديموقراطية في الغرب. فبصرف النظر عن آراء اي طرف او اطراف في شخصية بشير، لم يكن هناك فعلياً اي مرشح آخر للرئاسة. بموجب تلك الصيغة الفريدة من نوعها للحكم في لبنان، ينبغي ان يكون رئىس الجمهورية مارونياً" ولم يكن هناك اي ماروني آخر، انتحاري الى حد تجاسره على تحدي بشير. ولو لم ينتخب، لكان - بحسب اعتقاد غسان تويني - "قد استولى على السلطة بالقوة وربما تسبب بتقسيم البلد". ومن المؤكد ان تقسيم لبنان اثار على الدوام مخاوف حبيب وكثيرين آخرين، لأنه لم توجد اصلاً عوامل كثيرة للابقاء على تماسكه ووحدة شعبه. تواصلت الاحتفالات في بيروتالشرقية بفوز بشير، مثلما تواصلت عملية الاجلاء في بيروت الغربية" حيث رأى حبيب ان المفهوم الاساسي لخطته يطبق على نحو جيد، لكن بضعة من تفاصيلها لا تطبق جيداً. فقد تبين مع سير العملية ان اعداد الذين يجري اجلاؤهم اكبر بكثير مما توقعه احد" ومنظمة التحرير الفلسطينية تريد تسريع مواعيد المغادرة" والجيش اللبناني لا يرتفع الى مستوى مسؤولياته" والسوريين واحدى الوحدات الفلسطينية الرئىسية على الاقل يرفضون تسليم مواقعهم الى الجيش اللبناني" وقوات الجيش اللبناني تخشى القيام بأي عمل يذكر ما لم يكن الى جانبها عناصر من القوة المتعددة الجنسيات. عنى ذلك كله لحبيب انه ليس لديه عدد شبه كاف من افراد "المتعددة" لتنفيذ المهمة. اراد منذ البدء نشر الألفين كلهم في مواقعهم قبل صعود أول مجموعة من المجلوين الى السفن، لكن شارون اصر منذ البدء على ألاّ ينزل اي منهم الى البر إلا بعد مغادرة آخر مجلى. وقضى الحل الوسط بانزال ثلاثمئة وخمسين من القوة الفرنسية في اليوم الاول، وبقيتهم في اليومين السادس والثامن من العملية المتوقع استغراقها اسبوعين. الآن، في اليوم الثالث فقط، ادرك حبيب ان الحل "الوسط" الذي وافق عليه قريب اكثر من اللازم بكثير الى جانب شارون" مما يعرض العملية برمتها للخطر. جرت كل رحلات الاجلاء حتى الآن بحراً، فوفى العدد الموجود من جنود القوة الفرنسية في المرفأ بالغرض. لكن المفترض بأولى القوافل البرية ان تبدأ بالتحرك في الخامس والعشرين من آب اغسطس، في حين ان بقية القوة الفرنسية لن تبدأ بالنزول من سفينتها والانتشار في مواقعها - بحسب ما هو مقرر - إلا في اليوم التالي. اذاً، ينبغي ايجاد قوة عازلة لحماية القافلة البرية في طريقها عبر بيروت" بما في ذلك الخط الاخضر اللامأمون اطلاقاً. على هذا الاساس، قرر حبيب في الثالث والعشرين انه يحتاج الى مزيد من افراد "المتعددة" على الارض، فوراً. على رغم ان وزارة الدفاع الاميركية فرضت منذ فترة طويلة "الفيتو" على فكرة ارسال قوات من مشاة البحرية الى منطقة الخط الاخضر او الى داخل بيروت الغربية، قرر كبير ضباط الارتباط في لبنان ساولستر صباح اليوم عينه تفقد تلك المناطق بنفسه" لمعرفة مدى مخاطرها الفعلية. امضى ساعات الصباح كلها متنقلاً بسيارته في مختلف انحاء بيروت الغربية، من دون اي مشكلة اطلاقاً. ومع انه لم يستطع حتى ذلك الحين ان يوصي بارسال المارينز الى تلك المناطق، غير انه كتب في تقريره ان ارسالهم اليها لن يكون شبه مخطر بالقدر الذي تخشاه واشنطن. ارتاح حبيب الى ذلك التقرير "الميداني" آملاً ان يُقنع البنتاغون بإعطائه قوته الاميركية العازلة" على رغم كل الرفض السابق. ادخل ساولستر معه الى حجرة "التاكسات" على الفور، واتصل بشولتز" طالباً منه الضغط على وزارة الدفاع كي تسمح على الاقل بانضمام بعض العناصر من مشاة البحرية الى الجنود الفرنسيين والايطاليين واللبنانيين على طول الخط الاخضر. ويتذكر ساولستر كيف بدأ حبيب "يولول، محمر الوجه من النقمة، ويزعق: جورج، لعنة الله، يجب ان نفعل ذلك!". منع واينبيرغر وشارون كلاهما وضع قوات من المارينز على طول الخط الاخضر، فزعق حبيب خلال احد اتصالاته بواشنطن قائلاً ان من غير الجائز ألا يفعل مشاة البحرية شيئاً "سوى الجلوس على مؤخراتهم طوال الوقت!". ووجه الى واينبيرغر برقية لاذعة بالنقد، حاول فيها اقناعه بالأسباب التي توجب انتشار عناصر المارينز في كل مكان مع جنود الشريكين الآخرين في القوة المتعددة الجنسيات" لكن واينبيرغر لم يتراجع عن موقفه قيد انملة. وما أثار سخط حبيب، ووجده مريراً يصعب احتماله، هو ان وزير الدفاع في وطنه يتفق مع شارون في الرأي ضده. كرر واينبيرغر رفضه نشر قوة المارينز على طول الخط الاخضر، لكنه وافق على وصولها في موعد ابكر" فأعلن شارون باصرار: لا، لا يمكن ان تصل قبل الموعد. قال حبيب لشولتز في الرابع والعشرين من اب انه لا يقبل هذا الفيتو من شارون: "لا يمكننا اخراج منظمة التحرير الفلسطينية، ان لم نسيطر على نقاط التفتيش. يجب ان نحرك قواتنا غداً! انني في حاجة الى تلك القوات اللعينة غداً، فأي تباطؤ يزيد مخاطر تعرض شيء ما للخلل. لا افهم النهج السياسي لواينبيرغر في ما يتعلق بالخط الاخضر، اذ ليس ثمة قاعدة متبعة تقول ان من غير الممكن تغيير الخطة. لدي الفرنسيون والايطاليون على اتم الاستعداد للقيام بذلك. اننا نرضخ في كل قضية. عند محط ما، يجب ان نتخذ موقفاً صامداً. ان انسحبنا من هذه العملية، سيقوم بها الفرنسيون وحدهم" ويستطيع جيش الاندفاع الاسرائىلي عندئذ ان يخوض حرباً مع الفرنسيين" وآمل ان يفعلوا ذلك. يجب ان تنفذ على طريقتي او انها لن تنفذ بتاتاً - او ان الفرنسيين ينفذونها وحدهم. هذا هو المحط المنحط المطلق في هذه الاسابيع العشرة من الجحيم، وستصبح الولاياتالمتحدة موضع سخرية. انه خزي دولي!". اغتاظ الفرنسيون بشدة لدى سماعهم رفض واينبيرغر وشارون اعطاء القوة المتعددة الجنسيات ذلك الحيز المطلوب لأداء مهمتها، وترسخ اعتقاد اللبنانيين بأنها مكيدة تتيح في المجال للاسرائىليين او الكتائبيين كي يهاجموا المدنيين المتبقين" كما ترددت منظمة التحرير الفلسطينية في مواصلة الانسحاب من دون غطاء القوة المتعددة الجنسيات. قال حبيب لشولتز انه يواجه "غضباً عارماً" ويحمل مسؤوليته. بعد الغليان بعض الوقت بسبب الفيتو الشاروني على الوصول المبكر للقوات الاميركية، قرر حبيب ان في استطاعته الاستغناء عن وجود المارينز على الخط الاخضر" لكنه لا يستطيع الانتظار يوماً اخر لوصولهم الى المرفأ. عاود الاتصال بواشنطن: "اقنعوا الرئىس بأن يتصل ببيغن ويقول له اننا سننفذها على طريقتنا، او اننا سنقطع عنك الحنفية. قولوا للرئىس وللوزير انه برنامج جديد. يجب ان نأتي غداً، وان يأتي الايطاليون ليلة غد". وأصر على وجوب تلقيه جواباً قاطعاً بحلول السابعة مساء: "لا استطيع التحرك من دونهم. ان لم استطع احضارهم، فسيحصل ارتباك تام هنا، ويتوقف كل شيء". تلقى حبيب الجواب الذي اراده" وهو ان جنود المارينز سينزلون الى البر يوم الاربعاء، الخامس والعشرين من آب، قبل يوم من الموعد المقرر سابقاً" شاء شارون ام ابى. عنى الاسراع في احضار مشاة البحرية تبكير مجيء الايطاليين وبقية الفرنسيين. ومع ان القوة الاميركية ستبقى محصورة في منطقة المرفأ، فقد شرع حبيب في الاعداد لانتشار الفرنسيين والايطاليين وقوات من الجيش اللبناني، واتخاذ مواقعها في انحاء مختلفة من المدينة. شعر فيليب حبيب بأنه منظّم هذا الأولمبياد الحاشد للمهرجانات والمواكب الضخمة المقرقعة، من معدْيات ومدمّرات وشاحنات ودبابات" من جنود نظاميين ومقاتلين مغاورين" من عاملين جاهدين وآخرين غير بارعين. غمرته مشاعر الانتعاش المتزايد يوماً بعد يوم لأن خطته تطبق بنجاح، مع تصميم شرس على الا يسمح بانهيارها. توجّه كل يوم تقريباً الى المرفأ ليُثقل كاهل المارينز، ويبتهج بحسن التنفيذ لخطته. وقعت فعلاً مئات المشاكل الكبيرة والصغيرة، التي من الممكن لأي منها تعريض العملية الجارية للخطر. مثالاً على ذلك، ان سائقاً اسرائيلياً نقل صحافيين الى بيروت الغربية وضلّ طريقه بعد انزالهما" فوجد نفسه فجأة أسير مجموعة شيعية ظنّت انه جاسوس، بعد اكتشافها مسدساً معه. قال الاسرائىليون لحبيب ان الاجلاء سيتوقف إن لم يفرج عن السائق، فاتصل بزعيم ميليشيا "امل" الشيعية نبيه بري، ذي النفوذ القوي في الحي الذي احتُجز فيه الاسرائيلي. بعد اثنتي عشرة ساعة، أمّن بري تسليم السائق الى حبيب ودرايبر" ولم تتأثر أي من رحلات الاجلاء. اتّصل حبيب ببري مرة ثانية في أواخر عمليات الاجلاء، لأن ميليشيا "امل" نفسها هذه المرّة احتجزت اسرائىليين من الصحافيين أو المتجولين المتفرّجين على المناظر. إبان المكالمة الهاتفية، تأكد حبيب بأن اهتمام بري الرئيسي في ذلك الوقت منصب على معرفة مصير ثمانية عشر من رجاله فقدوا خلال معركة وقعت قبل ذلك بشهرين" فاستطلع مصادر معلوماته واتصل مجدداً بالزعيم الشيعي لتبليغه خبراً جديراً بالاعتماد والقبول، هو ان هؤلاء الرجال قتلوا جميعهم في تلك المعركة. شعر بري بالامتنان لتمكنه من نقل ذلك الخبر الى أسر أولئك الرجال، ورد الجميل بالافراج عن الاسرائىليين المحتجزين. مع تحوّل ذهاب السفن ومجيئها الى عمل روتيني في حياة بيروت، استطاع حبيب تحويل مزيد من انتباهه واهتمامه الى بعد آخر من ابعاد الاجلاء يتزامن مع رحلات السفن. فمع انه ركّز معظم طاقته طوال الوقت على اخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، فإن مغاوري المنظمة لم يكونوا المقاتلين الوحيدين الواجب اجلاؤهم" اذ هناك ايضاً ثلاثة آلاف وستمئة رجل من نخبة القوات السورية والفان وستمئة من مغاوري جيش التحرير الفلسطيني الذي تسيطر عليه سورية. سيغادر كل المقاتلين الفلسطينيين لبنان كلياً، فيما تجرى فقط "إعادة انتشار" للقوات السورية شرقاً في سهل البقاع. وفي اعتقاد حبيب ان ذلك الأمر هو فقط إجراء لإنقاذ ماء الوجه، إذ توقّع فعلياً ان يتيح ابتعاد الأضواء الساطعة عن لبنان لتلك القوات فرصة العودة الهادئة الى بلادها "لإعادة التجهز". لكل الأسباب المذكورة آنفاً، لم يكن من الممكن او المعقول خروج السوريين من بيروت بالسفن مثل الفلسطينيين، وإنما ينبغي اخراجهم بقوافل الشاحنات على طريق بيروت - دمشق. من نافل القول إن الإجراء الأكثر تعقيداً، والمتطلّب اكبر قدر من البراعة والحذر في عملية الإجلاء برمتها، هو تأمين مغادرة عرفات. ومهما قد يحدث من امور اخرى، فإن على حبيب اخراجه سالماً، غير مصاب بأي أذى. بعث عرفات برسالة شفوية الى حبيب في الثالث والعشرين من آب، مفادها انه توّاق الى المغادرة. عرض الفرنسيون واليونانيون اعداد كل الترتيبات اللازمة، واختلطت من دون انتظام مقترحات مختلفة من المخططات والمواعيد ووجهات السفر والسفن المطلوبة، كما اقترح بعضهم تأمين انسلاله سراً من لبنان، فيما ترددت اشاعات بأنه فعلاً قد تسلل الى الخارج. قلق حبيب من ان يفقد مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية انضباطهم بعد مغادرة عرفات، فأراده ان يكون من بين آخر المغادرين. سأله وزير الدفاع الإسرائيلي: "كيف يجري الطرد؟ فأجابه حبيب ان "الإجلاء جارٍ وفقاً للخطة"، ثم شدد في القول على ان الولاياتالمتحدة مسؤولة عن سلامة عرفات. وشملت الترتيبات التي اعدّها حبيب لهذا الغرض، الى جانب المواكبة من سفن البحرية الأميركية، وضع خمسة ضباط يونانيين في سفينة عرفات لتثبيط حافز الإسرائيليين على إغراقها، وتسيير فرقاطة يونانية معها. وأراد حبيب من طائرات الأسطول السادس الأميركي التي تقوم بدوريات منتظمة فوق البحر المتوسط "حراسة، ولكن من دون التحليق فوق" سفينة عرفات. اعترض شارون قائلاً ان سيناريو حبيب، خصوصاً الجزء المتعلق بالغطاء الجوي، يؤمّن الى حد كبير ما يشبه مغادرة انتصارية ابتهاجية. لكن حبيب اصر على موقفه: "لن أغير شيئاً واحداً". لا شك في ان مغادرة عرفات يوم الثلاثين من آب هي ذروة عملية الإجلاء، وكانت تعليمات حبيب الى ضباط المارينز موجزة وبسيطة: "إياكم ان تفسدوها". نقل رئيس الوزراء اللبناني شفيق الوزان زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الى المرفأ في سيارته التي لا يخترقها الرصاص، ربما للتأكد من ان عرفات فعلاً سيغادر لبنان. شقّت السيارة السوداء طريقها الى مرفأ بيروت وسط غوغاء خشنة من المناصرين والمراسلين والحراس الشخصيين والسياسيين والديبلوماسيين والمتفرجين. ضاع في مكان ما وسط هذا الحشد الغوغائي ذاك الرجل القصير القامة، ذو العمرة الشهيرة التي تزين رأسه واللحية الأشبه بالجُذامة. نزل من سيارة الوزان لاستعراض حرس الشرف التابع للمنظمة، المتأهب لاستقباله، لكن المحتشدين حوله جعلوا تلك الخطوة امراً مستحيلاً، وكادت اطقم المصورين الفرنسيين ان توقعه ارضاً. رسّخ حبيب في ذهن شارون الانطباع بأنه لن يتحمّل ايّ اعمال مثيرة أو ألعاب بهلوانية من القوات الإسرائيلية خلال مغادرة عرفات، وبدا واضحاً ان ذلك الإصرار اعطى النتيجة المطلوبة، حيث لفت الأنظار غياب الإسرائيليين طوال تلك الفترة. صحيح ان احد الرماة المهرة في الجيش الإسرائيلي ركّز شعرة التعامد في البؤرة العينية لمنظار بندقيته على رأس عرفات خلال الدقائق العشر التي امضاها خارج السيارة المصفحة، لكن حبيب تلقى ضمانات إسرائيلية بعدم قتل الزعيم الفلسطيني، ومن الجلي ان ذاك الجندي الإسرائيلي اطاع الأوامر في مطلع عام 2002، نقلت صحيفة "النيويورك تايمز" عن شارون قوله إنه نادم على عدم قتل عرفات في ذلك الوقت. استقل عرفات سفينته من دون التعرض لأي أذى، وأبحر بعيداً بجو خلو من اي احداث مهمة، فتمكّن حبيب من تحرير انفاسه المنحبسة. انتهى الإجلاء. انتهى حصار بيروت. انتهت مهمة العمر.