غادرت الباص الحكومي لا تلوي على شيء سوى الابتعاد عن الناس والأشياء التي أصبحت أكثر عصبية في اللحظات الأخيرة من العشر الأواخر من رمضان. حنثت بيمينها مرة أخرى، اذ أقسمت البارحة بأن لن تركب مجدداً حافلة الحكومة المحتشدة بالناس كعلبة سردين . ولكن راتبها المتواضع، ككل الشابات العاملات في قطاع النسيج، لم يترك لها سوى خيار واحد وهو المشي طويلاً بعد يوم عمل رمضاني شاق. تثاءبت طويلاً قبل أن تلج دارها في محلة المنار الراقية التي هي إحدى رايات الإرث البورقيبي. تذكرت مجدداً كم هي محظوظة بحصولها على شقة في أرقى أحياء العاصمة التونسية بايجار لا يذكر... مرت الصور أمامها بسرعة فبرزت تقاسيم والدتها واشتمت رائحة والدها. تسارعت دقات قلبها عند تخيل فتى أحلامها. لكن صوت منبه السيارة ايقظها من غفلتها وكادت تقفز على جادة الطريق المكتظ. ألقت تحية باهتة على حارس الدار وصعدت السلالم ثم شخصت أمام باب الشقة رقم 12. ترددت "ليلى" في ايلاج المفتاح في القفل وأرهفت السمع، لعل أحدا" في الداخل . لكن الشقة خالية من الأنس... ستكونين وحدك يا ابنة أمي... كم هو قاس افطار رمضان وحيداً ووحيدة... تعشق نساء تونس شهر رمضان، فمع الجفاف الذي أصبح يميز أزواجهن في الايام العادية، يأتي هذا الشهر الكريم ليجلب لهن كلمات شكر ونبرات اعجاب في لحظة صفاء عائلية نادرة على مائدة الطعام. قالت ليلى في سرها ما معنى ان تكوني صائمة ولا تدخلي المطبخ ولا تستمتعي بموهبة التفنن في التصنيف بينما نظرات الاعجاب تلفك من الجميع. هل بقي للإفطار معنى عندما تكونين وحيدة لا يقطع وحدتك سوى آذان المغرب؟ يبلغ عدد السكان في تونس حوال 10 ملايين ،3.5 ملايين متزوج و3 ملايين اعزب: شابات، أرامل، مطلقات أو في رحلة البحث الصعبة عن ظل رجل. في عام 1966 كان معدل العازبات لا يتجاوز 18.5 في المئة، أصبح في حبن بلغ 39 في المئة في العام 2001. الى ذلك، اصبح معدل سن الزواج للرجل حوال ال34 عاماً و 29 عاماً للشابات اللواتي غادرن الفضاءات التقليدية، العائلة وانخرطن في العمل ومدرجات العلم. ثم ارتفع عدد العاملات من 57.6 ألفا" عام 1966 الى 642.600 ألفاً في عام 1999. الى ذلك، طغى معدل الطالبات في المدارس والجامعات فبلغ 52 في المئة . تمتمت ليلى بكلمات شكر وهي تتناول حبة التمر الأولى بينما أحست بالغصة في ظلمة الوحدة لكنها تذكرت جنتها الواسعة ودورها كفتاة عاملة لمجلة المنار الفاخرة. ثم أطلقت العنان لصوت المذياع رفيق ربات البيوت صباحاً والعازبات صباحاً مساءاً ويوم الأحد وفي لحظات الوحدة المرة رحيل عواطف في الواقع، قد يتحول البقاء في المنزل الى كارثة ومأساة. فعام مضى على رحيل "عواطف". رحل رمضان وجاء رمضان، ولا يزال مكتبها في مقر الاذاعة والتلفزيون كما هو لم يمسسه سوء:اشياؤها، صورها، لعبها الصغيرة شهاداتها الجامعية في اللغة الفرنسية معلقة على الجدار، كتب انسي الأعرج على رفوف مكتبتها، أدوات الموسيقى وأشرطة الاستماع والأقلام الملونة كلها لم تغادر مكتبها الصغير في ركن المنزل. عام مضى، ورحلت عواطف الى رحاب الله ولكنها بقيت في آذان التوانسة وأسماعهم وهي التي آنستهم بصوتها لعقد من الزمن. ففي العام 1988 تحديداً، دخلت إذاعة المنستير المحلية ثم شغرت منصب رئاسة الإذاعة القومية في آب أغسطس عام 2001. لم تكن تشدو السكينة والصمت انذاك بل كانت شعلة تتقد حماسة لأكثر من 12 ساعة في اليوم بينما قطعت أشواطاً وأشواطاً في سلم الوظيفة واختطفت مساحات شاسعة من الحب والاحترام في قلوب المستمعين. وما بين سدة الرئسة في الاذاعة والتلفزيون وساعة الرحيل الأبدية في تشرين الأول نوفمبر 2001 ورمضان الماضي، لم تعمر عواطف بن حميدة سوى شهرين وغادرت الدنيا قبل اكتمال عقدها الرابع. كانت الفاجعة كبيرة ولكن الأهم من ذلك ان التوانسة اكتشفوا ذلك الكم الهائل من الحقد والضغينة والشر الكامن في نفوس البعض منهم. في الواقع، أفادت تحقيقات البوليس بأن عامل المسابك تسلل الى مغطسها وانهال عليها بالساطور ثم هشم التلفزيون على رأسها. انتشرت الاشاعات والأقاويل في المدينة بينما لا يزال المتهم في انتظار استكمال التحقيق وحكم القضاء. فقد التلفزيون احدى راياته بينما أحكمت العازبات الأقفال من الداخل على وحدتهن في رمضان وما بعد العيد...