اللبنانيات، في تعاطيهن مع رمضان، ثلاث فئات: فئة ملتزمة دينياً يأتي الصيام ليعزز التزامها ويزيد من اهتمامها بالدين وموجباته اليومية، وفئة يشكل لها الشهر انقلاباً في حياتها، اذ تقتصر ممارساتها الدينية عليه، وفئة ثالثة تهتم به اهتماماً محدوداً مسايرة للمحيط ليس الا. وتنتمي سوسن ج. الى الفئة الأخيرة، وهي التي يؤثر رمضان في مجرى حياتها تأثيراً طفيفاً ولكنه "محمول" بحسب تعبيرها. "في هذا الشهر تتغير مواعيد تناول الطعام الذي لا يصبح جاهزاً الا عند حلول وقت الافطار. وعلى رغم انني لا أصوم، غالباً ما اجد نفسي مرغمة على مشاركة أهلي افطارهم". تضيف سوسن التي تحاول في الكثير من الأحيان الامتناع "حتى عن العلكة في حرم الجامعة او في الشارع مراعاة لشعور الصائمين". وتلفت سوسن الى "ان اجمل ما يميز رمضان، تلك البرامج والمسلسلات التلفزيونية المُعدَّة خصيصاً لهذه المناسبة. وفي أكثر الاحيان، قد أرجئ بعض الأعمال المستوجبة وأسرع في العودة الى المنزل لئلا تفوتني الحلقات والأحداث وهي عادة ما تكون عبارة عن مسلسلات اجتماعية وتعالج قضايا واقعية تعني كل شخص فينا". لكن سوسن تعاني خلال هذا الشهر مشكلة توقيت مواعيد الخروج والعودة الى المنزل، فضلاً عن تنظيم أوقات النزهات أو الزيارات العائلية. فتصبح أيامها منقسمة الى "دوامين": قبل الافطار وبعده، "قبل الافطار أقضي الوقت في العمل الجزئي او في الجامعة، وبعده أخصّصه للحياة الخاصة". وتعتبر ميريام جبيلي علوم سياسية ان هذا الشهر يقيّد بعض تحركاتها، اذ تجد نفسها مُلزمة بتعديل بعض عاداتها اليومية، خشية ان تتسبّب بالازعاج لغيرها من زملائها الصائمين. "أمتنع عن التدخين او تناول أي طعام، على رغم انني لا أصوم. وإذا فعلت، أشعر وكأن الأنظار كلها مسلّطة عليّ وأن الألسن تلوكني وأنا احاول تفادي أن يفسَّر امتناعي عن الصوم على انه محاولة لاستفزاز الغير. وقد يصل بي الأمر احياناً الى الصوم دونما قصد مني، اذ توافق لحظة عودتي الى المنزل مساء مع بدء الافطار... أما في الأيام العادية فقد اقتنص فرصة وجودي في المنزل لتناول بعض الطعام، دونما رقيب، خصوصاً ان أهلي يتفهمون عدم رغبتي في مشاركتهم الصوم". انقلاب جذري تعتقد سارة عيسى موظفة في مؤسسة سياحية أن "اجواء رمضان مفعمة بروح الإيمان". وربما لذلك تجد نفسها خلال مدة الشهر الكامل، أكثر ميلاً للاحتكام الى تعاليم الشريعة، وأكثر اقبالاً على ممارسة بعض الطقوس الدينية التي قلّما تؤديها خلال الأيام العادية. "بالنسبة إليّ، فإن هذه المسألة لا تنمّ عن ضعف او خلل في العقائد الدينية. أنا أؤمن بالله وأتّبع الدين الاسلامي. لكن ضغوط الحياة العملية والمشاغل اليومية تكاد تستنفد كل قواي. ولذلك لا أجد متسعاً من الوقت للصلاة. وقد أستغل ما يتبقى لي من أوقات حرة طلباً لبعض الراحة او الترفيه مع الأصدقاء". ولكن يبدو ان لهذا الشهر رونقاً خاصاً، فتصبح المظاهر الدينية من "مستلزمات" الحياة الاجتماعية والعائلية. "فغالبية الناس يصومون ومعظمهم كذلك يقيمون الصلاة. هذه الأجواء تشجع على القيام بالمثل، حيث اجد لذّة في هذه الممارسات، على سبيل مشاركة البيئة الاجتماعية في عاداتها، والاندماج في اجواء التعبّد التي تقرّبني أكثر من الخالق". وتؤكد إحدى البائعات التي تعمل في محل لبيع الزهور، ان هذا الشهر بالنسبة اليها، هو تماماً "مثل بقية اشهر السنة"، اذ يقتصر ما يحدثه من تغيير في عاداتها، على "تفاوت" بسيط في مواعيد تناول الطعام او العودة مساء الى المنزل. وهذا الشهر يشكل بالنسبة الى فرح أيوب موظفة علاقات عامة، منعطفاً آنياً ولكن مؤثراً في حياتها اليومية، ما يضطرها الى تغليب بعض مظاهر "التعبّد" على بعض السلوكيات التي اعتادت عليها من وقت الى آخر. حتى انها شكلت مع الوقت نمطاً محدد المعالم، لحياة شخصية تجاوزت في بعض نواحيها القيم التي يتبناها اي انسان "تسيِّره" قناعاته الدينية. لعلّه تعايش مشوش من التناقضات، ليس في القول والعمل فحسب، بل في القناعات الذاتية كذلك. ومما لا ريب فيه، ان هذه الاشكالية هي نتاج لازدواجية الانتماء. فبين التأسيس لمسيرة مهنية في مدينة تعدو لاهثة للحاق بركب العولمة والعيش في بيئة اجتماعية متمسكة بالدين والموروثات والتقاليد، لا مفرّ من ان يصبح المجتمع مشبعاً بالتناقضات بين الظاهر والباطن. ففرح تحيا "حياة عصرية"، كنتيجة حتمية لما تفرضه عليها طبيعة عملها في مجال العلاقات العامة. "انه مجال رحب وواسع جداً. وتتطلب طبيعته ان ألتقي الكثير من الناس وبناء علاقات شخصية معهم، فأضطر عادة الى تلبية الدعوات الى السهرات وحفلات العشاء...". وخلال رمضان، تحاول فرح جاهدة الامتناع عن تناول المحرمات وتفادي الظهور في الأماكن التي يطيب فيها السهر، حتى انها تواظب على تأدية الصلاة بانتظام! "فعلى رغم انني أعيش مستقلة مع صديقة لي، الا انني أفضّل ان احافظ على العادات التي اكتسبتها منذ كنت طفلة، وإن خلال رمضان فقط. ما زلت أتمسّك بقناعاتي الدينية... على رغم بعض التصرفات الخاطئة او غير المسؤولة". قد تكون هذه التصرفات "الخاطئة او غير المسؤولة" هي الدافع الرئيس الكامن وراء "الارتداد" نحو التعبّد، والذي يجعل من رمضان محطة مفصلية في حياة فرح. فالحياة وقت للعمل والمتعة، ووقت للتأمل ومراجعة الحسابات الذاتية. وربما انطلاقاً من هذه المعادلة العادلة، وجدت فرح تبريراً للتناقضات في السلوك والمواقف. فبحسب تعبيرها "الانسان ليس معصوماً عن الخطأ، والله غفور رحيم... وليس أفضل من شهر التقوى لطلب الغفران". ضد استنسابية القناعات كثيرون هم الاشخاص الذين يحيون "ازدواجية القيم والمعايير، بين القناعات الذاتية والقيود المجتمعية. لكن نتيجة للمفاهيم الاجتماعية الراسخة التي تميل الى محاسبة "المرأة" اكثر من الرجل، كثيرات هن النساء والفتيات اللواتي يتفادين الجهر علانية بأشكال "العصيان"، مجاراة للبيئة العائلية والمحيط الاجتماعي. ومن الواضح ان جدلية العلاقة هنا بين الخاص والعام، تسهم بدورها في تفاقم هذه الثنائية القيمية. وتراوحت الآراء حول الفتيات اللواتي يلتزمن بعض اشكال المظاهر الدينية فقط خلال شهر الصوم، بين منتقد ومشجع. فاعتبر هشام جابر ممثل مسرحي ان هؤلاء الفتيات "إنما يخدعن أنفسهن بذلك"، وكذا أحمد مجدلاني طالب جامعي الذي رأى ان "هذا الايمان الموقت" لن يجدي نفعاً ما لم يستمر طوال الأشهر المتبقية من العام". بيد ان ربى دياب معلمة مدرسة رأت "ان الأمر قد يكون مفيداً لهن. ان شاء الله يواصلن ذلك دوماً. فلكل انسان قناعاته الشخصية، ولا يجوز ان ننظر اليهن بطريقة سلبية، بل يجب ان نشجعهن حتى تتحول هذه الممارسات من استثناء الى عادات دائمة مستمرة". الى ذلك، أعرب رامي قطيش عن اعتقاده أن هذا التغيير الموقت في نمط الحياة، "يفرضه الجو العام من جهة، وخوف الناس من الماورائيات من جهة ثانية. ولذلك قد تحاول هذه الفتيات خلال هذا الشهر ان يعوّضن عما ارتكبنه من اخطاء سابقة من طريق التضرّع والتعبّد لله". "مسيحيات في رمضان" لا يكاد شهر رمضان "يمر مرور الكرام" على أحد في لبنان. فبعد توقف نيران الحرب الأهلية عادت المناطق لتنفتح على بعضها بعضاً واستعادت "تآلفها" الاجتماعي، الذي أسس بدوره لتعايش اقتصادي فرضته المصالح المشتركة. وبات الاختلاط الطائفي ضرورة وواقعاً. من هنا تكثر اعداد المسيحيين والمسيحيات الذين يعملون في مناطق تغلب عليها "الصبغة" الاسلامية. ونتيجة لذلك، قد "يفرض" هذا الشهر نفسه عليهم فيؤثر في توجيه ايقاع حياتهم اليومية. سيلفي وكاتيا تنتميان الى الطائفة الارثوذكسية وتعملان في احدى المؤسسات ذات المنفعة الاجتماعية في الشطر الغربي لمدينة بيروت. لذلك غالباً ما تتجنبان خلال رمضان، تناول أي نوع من الاطعمة طوال فترة الدوام، فتشعران وكأنهما تشاركان البقية تجربة الصوم "هكذا دونما قصد"، وإن بدا الوضع اكثر تأزماً بالنسبة الى كاتيا التي "تعاني الأمرّين" بحسب تعبيرها، لامتناعها عن التدخين، خوفاً من ازعاج زملائها الصائمين، لكنها تشير في الوقت نفسه الى انها تحب الاجواء الرمضانية التي تسود خلال اللقاءات العائلية. وتحبذ ان تقضي بعض الامسيات برفقة اصدقائها المتعددي الانتماءات الدينية، في عدد من المقاهي والخيم حيث يحلو تدخين النارجيلة وتناول أنواع الحلويات العربية... وإذ تؤكد الزميلتان استعدادهما الدائم لتلبية الدعوات الى المشاركة في الافطارات، الا انهما تفتقدان اجواء التسلية، لا سيما خلال عطلة نهاية الأسبوع، حيث تكون المطاعم شبه مقفرة من الزبائن. كما تضطران احياناً كثيرة الى ارجاء مواعيد الخروج برفقة الاصحاب الى ما بعد الافطار، تفادياً لازدحام السير الخانق ساعة مغيب الشمس. الى ذلك، تشكو سيلفي من "انعدام اجواء السمر خلال السهرات بسبب تراجع نسبة روّاد النوادي الليلية والحانات خلال رمضان". وتصف الوضع بعبارة موجزة: "ما في جو"! فهذه الأماكن تغدو شبه فارغة، وتصبح المقاهي والخيم أكثر استقطاباً للزبائن. وإذ تتنبّه كاتيا بدورها الى هذا الأمر، تردف قائلة: "الغريب في الأمر، اننا لم نكن لنعير رمضان أو الفصح اهتماماً بالغاً. اما الآن فلا مفرّ من التقيد ببعض ملامح العبادة نتيجة طغيان المظاهر الدينية على الفئات الاجتماعية ولدى كل الطوائف. لعلها "ردة" نحو التديّن والأصوليات؟!". وخلافاً لذلك، ترفض جاكلين عيّاد سكرتيرة ان ترغم نفسها على الامتثال لضرورات مجاراة التيار. فإن شعرت بالجوع تناولت الطعام، وإن عطشت شربت نوعها المفضل من المشروبات الغازية، من دون ان يكون ذلك بحسب تعبيرها "مفتعلاً أو بقصد الاستفزاز". تعمل جاكلين في احدى المؤسسات التجارية قريباً من وسط بيروت التجاري. وينتمي زملاؤها الى طوائف مختلفة، ما يسهل عليها تجاوز بعض الاعتبارات العامة. "على الآخرين ان يتفهموا حقيقة الوضع ويقروا بالتنوع الديني، وضرورة احترام الحرية الشخصية لكل انسان. فحتى نرى ان كثيرين من المسلمين لا يصومون، فلماذا يُتوقع مني أن أفعل ذلك؟". غير ان جاكلين لم تصادف يوماً موقفاً حرجاً، من قبيل مواجهة بعض الانتقادات ذات العلاقة بالتنوع الطائفي. وتؤكد انها مندمجة كلياً في المجتمع الاسلامي، وهي لا تفتأ تشارك في مناسبته الدينية وأعياده. "أقضي معظم أوقاتي في مناطق مختلطة، ناهيك بأن غالبية اصدقائي من المسلمين، بمن فيهم صديقي الذي تربطني به علاقة عاطفية. حتى انني دعيت بعضهم الى تناول الافطار في منزلي، وقمت بتحضير الاطباق الرمضانية النموذجية". في المقابل تمتنع جاكلين في هذا الشهر عن "التخطيط" للسهر في النوادي الليلية، احتراماً منها لمشاعر صديقها الذي يواظب على الصوم والصلاة... خلال رمضان فقط!