الغرق في تحليل الأرقام التي أسفر عنها مؤتمر "باريس -2" يجب ألا يحجب في أي حال الأهمّية المعنوية التي جناها لبنان من المؤتمر. بل إن مغزى الساعات الثلاث التي استغرقها لقاء الإليزيه أهمّ بكثير من الأربعة بلايين دولار ونيف التي تقرّر تقديمها الى لبنان قروضاً ميسرة لتصحيح ماليته العامّة أو للتنمية. إن لبنان يعتز باكتشافه، في مرحلة إعادة رسم الخرائط، أنه لا يزال موضع اعتراف دولي بوجوده وبأهمّية استقراره، كما أنه يقدّر موقع رئيس الحكومة رفيق الحريري وإمكاناته الدولية. أما بالنسبة الى النتائج الحسية لمؤتمر باريس فإنها أصبحت الآن أكثر وضوحاً مما كانت عليه عند انتهاء الاجتماع، وبالتالي أصبح في الإمكان تحليل هذه النتائج وتصوّر مفاعيلها المالية والاقتصادية. ما تمّت الموافقة عليه لجهة القروض يشكل نسبة كبيرة مما طلبه لبنان من فرقاء اجتماع باريس، إذ أنه حصل على قرابة ثلاثة بلايين دولار من أصل خمسة بلايين دولار طلبتها الحكومة كي تستطيع تحقيق برنامجها لضبط عجز الموازنة والدين العام، وعوّض قسم من المبلغ المتبقي بقروض للتنمية تبلغ بليون دولار ونيّفاً، وهذه القروض حيوية للاقتصاد، إلا أنها بطيئة تدفع بالتدرج مع تقدّم المشاريع التي تموّلها، لذلك فهي مفيدة للنمو الاقتصادي لكنها لا تساعد برنامج الحكومة للتصحيح المالي الذي يتطلب منح الخزينة اللبنانية في فترة قصيرة جداً قروضاً، أو كفالات قروض، بفوائد متدنية تخصّص لسداد جزء من محفظة الدين العام القائمة حالياً. أرادت الحكومة اللبنانية أن تأتي قروض "باريس -2" لتلاقي حزمة من الإجراءات التي تنوي القيام بها، وأهمّها تحصيل خمسة بلايين دولار سنة 2003 وحدها، بجهودها الذاتية، بواسطة التخصيص والتسنيد. فهي تنوي تخصيص رخصتي الهاتف الخليوي عبر تلزيمهما لمدّة 20 سنة، وبيع 40 في المئة من شركة "ليبان تلكوم" قبل نهاية السنة المقبلة ونسبة مشابهة من شركتين للطاقة الكهربائية يفترض تأسيسهما قريباً لتحلا محلّ مؤسّسة كهرباء لبنان. يضاف إلى ذلك تسنيد بعض واردات الخزينة وبيع السندات للمستثمرين من القطاع الخاص. وأعربت الحكومة عن نيتها الاستمرار في تصحيح أوضاع المالية العامّة من طريق الاستمرار في التزام التقشف في النفقات وزيادة الواردات بقصد متابعة خفض عجز الموازنة، وكذلك تحقيق خفض دراماتيكي في مستوى الفوائد بواسطة خفض الفائدة على سندات الخزينة بمختلف العملات، ناهيك بخفض الدين العام نفسه. وعبّرت الحكومة عن اعتقادها بأن إجراءاتها الذاتية إذا دعمت بقروض أو كفالات قروض بمبلغ خمسة بلايين دولار من المجتمعين في باريس ستمكنها من تحقيق أهداف بالغة الأهمّية على المستويين المالي والاقتصادي بين سنتي 2003 و2007. فهي تطمح بفضل ذلك إلى تحقيق نموّ في اجمالي الناتج المحلي القائم يتدرج من 3 في المئة إلى 4 في المئة خلال المرحلة المذكورة، بدل نسب النمو المعدومة في الاعوام الأخيرة، وكذلك إلغاء عجز الموازنة كلياً سنة 2005 وتحقيق فائض بعد ذلك، وتأمين فائض في الرصيد الأوّلي للموازنة يزيد على 9 في المئة من اجمالي الناتج المحلي سنة 2007 وخفض خدمة الدين العام من 18 في المئة من الناتج المحلي السنة الجارية إلى 6.5 في المئة في نهاية الفترة المذكورة. ونتيجة كل ذلك تُخفض نسبة الدين العام الصافي إلى الناتج المحلي من 173 في المئة في نهاية السنة الجارية إلى 92 في المئة سنة 2007. هذا السيناريو ينطلق إذاً من فرضية تحقيق مجموعة من الخطوات بينها تحصيل عشرة بلايين دولار سنة 2003، نصفها من التخصيص ونصفها الآخر من "باريس -2". أما وقد منح مؤتمر باريسلبنان ثلاثة بلايين فقط لتصحيح المالية العامّة فهذه نتيجة غير سلبية، إلا أن نجاح الدولة في تحقيق الأهداف التي أعلنتها بات يفرض عليها مزيداً من التحدّيات ويتطلب منها صرامة في الإجراءات. لقد عادت الكرة الآن إلى ملعب الدولة، وأهمّ التحدّيات التي تواجهها بعد "باريس -2": 1- نجاح عمليات التخصيص والتسنيد التي تنوي الدولة القيام بها، وأعلنت عنها لا سيما في الورقة المقدّمة إلى لقاء باريس. فصدقية الدولة اللبنانية أصبحت الآن أكثر من أي وقت مضى تحت مراقبة دولية، وعن كثب، وهي تتطلب إجراء التخصيص بشفافية وتجرّد بعيداً من المصالح الخاصّة. ويفترض ان يعود التخصيص على الدولة بمبالغ قريبة من تلك التي تعهّدت بها في مؤتمر "باريس -2"، أي نحو 9 بلايين دولار، بينها 5 بلايين دولار سنة 2003. فإذا تدنت عائدات التخصيص كثيراً عن هذه التقديرات قد يفسر بعض الحكومات التي تعهّدت بالمساعدة أن الحكومة اللبنانية زينت الأرقام بهدف مجرّد الحصول على مساهمات وقروض منها. 2- المبادرة إلى تحقيق خفض جدّي وسريع وشامل لمعدّلات الفوائد. ويجب أن يكون شاملاً العملة اللبنانية والدولار الأميركي معاً، وألا يقتصر على سندات الدين الحكومية وحدها بل يتعدّاها إلى الفوائد المصرفية بمختلف العملات، الدائنة والمدينة. فإن هبوط الفوائد في البلاد يشكل حجر الزاوية في البرنامج الذي التزمته الحكومة، لأنه يشكل الطريق الذي تتحجم فيه خدمة الدين العام في الموازنة ما يساعد على لجم العجز وتحويله إلى فائض. كما أن هبوط الفوائد الشديدة الارتفاع هو الثمن الموعود للاقتصاد اللبناني الذي يعاني من انعدام نسب النموّ في الناتج المحلي. فلا يمكن القول ان الدولة نجحت إذا ضبطت مشكلة المالية العامّة وعجزت عن تحريك الاقتصاد. 3- من المعروف أن دينامية النموّ الاقتصادي لا يمكن أن تستند فقط إلى عنصر خفض الفوائد، على رغم أهمّيته القصوى، كعامل لتشجيع الاستثمار. بل إن تحقيق النموّ يتطلب شروطاً أخرى بينها توسيع الإنفاق الاستثماري العام. ومع أن موازنة الدولة لا تسمح بتخصيص اعتمادات تذكر للتنمية فأمام لبنان فرصة للإفادة من القروض التي تقرّرت في اجتماع باريس والمخصّصة للاستثمار، وبلغت 1.2 بليون دولار. وإذا أضيف هذا المبلغ إلى قروض أخرى خصّصتها صناديق ومؤسّسات دولية للبنان ولم تستعمل بعد يمكن الاستنتاج أن هناك تمويلاً متوافراً لإطلاق ورشة عمرانية ترافق التصحيح المالي. المهم أن تتوافر لدى الدولة الإرادة والعزم حتى تُقلل هذه الورشة العمرانية على الاقتصاد مضار المؤثرات الانكماشية للتصحيح المالي. 4- يجب أن تتمكن الدولة اللبنانية من الخروج بمرونة من مأزق العلاقة مع صندوق النقد الدولي وإحراجاته. فمن اللافت جداً مدى تركيز أطراف لقاء باريس، كلهم، على دور صندوق النقد الدولي في مجال الرقابة على أداء لبنان في المرحلة المقبلة. التركيز على دور الصندوق لم يقتصر على الشريك الحذر والمتحفظ في مؤتمر باريس، الولاياتالمتحدة الأميركية، بل شمل ايضاً الحليف البالغ الحماسة لدعم لبنان أي فرنسا، ناهيك بالدول الأخرى، وبعضها تريث في تقديم أي مساهمة للبنان قبل الاتفاق على برنامج للتصحيح مع صندوق النقد الدولي. وحل هذه المعضلة حيوي للبنان، لأنه، من جهة غير قادر على تجاهل الصندوق أمام ضغط الدول التي تعهّدت بمساعدته، ومن جهة أخرى فهو لا يستطيع قبول برامج الصندوق بسبب أثمانها السياسية والاجتماعية الباهظة. * النائب السابق لحاكم مصرف لبنان