لم تعد المذابح اليومية للجيش الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينيةالمحتلة بالنسبة الى الشباب المصريين مجرد صورة تلفزيونية تتناقلها وكالات الأنباء العالمية والفضائيات العربية في تقاريرها المصورة ونشرات الاخبار، بل صارت خلال الشهور القليلة المنصرمة، المحور الأساسي للمصريين في تعاملاتهم وحياتهم اليومية، وأصبح أمراً مألوفاً أن ترى الأطفال الذين تعودوا بيع المناديل الورقية والورود في اشارات المرور يستبدلون بضاعتهم الفقيرة والكاسدة بالأعلام الفلسطينية وصور الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات التي يبيعونها في الشوارع والأحياء الرئيسة بأسعار في متناول الجميع. وتميزت منطقة حي الزمالك التي يسكنها عدد كبير من الأجانب والديبلوماسيين الأوروبيين، بانتشار بيع الكوفية الفلسطينية والأعلام، اما منطقة حي المهندسين التي تضم غالبية من السياح العرب والخليجيين وأيضاً كثيراً من الاجانب، فقد افتتح فيها اكثر من مطعم ومقهى ومحل بأسماء تحمل اشارات تضامن. ففي شارع سورية افتتح اخيراً مطعم سوري جديد حمل اسم "أبو عمار"، وبات شائعاً أن يوقفك فريق من احدى الجامعات المصرية او الشركات في الطريق ليعطيك قائمة تدعوك الى مقاطعة البضائع الاميركية والاسرائيلية المدونة فيها. وعلى رغم تعدد الجهات التي اخذت على عاتقها توزيع مثل هذه القوائم واختلافها، سواء كانت حزبية ام طالبية، يسارية أم اسلامية تتطابق هذه القوائم تماماً في اسماء البضائع المراد مقاطعتها، والاختلاف الوحيد هو في شعاراتها فقط، فمنها ما يحمل شعار "حاربوا الصهيونازية بمقاطعة البضائع اليهودية والاميركية"، ومنها ما يحمل شعار "من أجل اطفال فلسطين والعراق والوطن العربي... لا تشترِ هذه البضائع لأنها يهودية وأميركية"، وغيرها. وعلى رغم أن المقاطعة العربية للمنتجات الاميركية والانكليزية لم تأخذ شكلاً رسمياً، الا ان انتشارها على المستوى الشعبي في المجتمع المصري، صار ظاهرة لافتة، وأصبح عادياً ان تجد محال توزيع كبرى في القاهرة والمحافظات الاخرى تقاطع البضائع الاميركية صراحة وفي شكل معلن، قبل ان يرغمها المستهلكون على هذه المقاطعة، بل واتخذت هذه المقاطعة طرقاً عدة، فكتب البعض على ابواب محالهم ان "كل بضائعنا انتاج مصري 100 في المئة"، أو "لا صلاة بلا وضوء.. ولا انتفاضة من دون مقاطعة"، أو "كل قرش في بضاعة اميركية يعني رصاصة في صدر فلسطيني"، وهو الشعار الذي استخدمته محال توزيع كبرى لم تستطع الاستغناء عن المنتج الاميركي، وتعاملت معه وكأن لسان حالها يقول "المصري والاميركي امام أعين الزبائن... ومن أراد الشراء... فليختر"! لكنها حرصت على تحريض المستهلكين على عدم شراء المنتج الأميركي. ومنيت محال "الفاست فود" الاميركية في القاهرة، مثل ماكدونالدز وكنتاكي وتكا وماك برغر وتشيلز وكاتيز واربيز وبيتزاهت وغيرها، بخسائر فادحة، خصوصاً بعد انتشار الكثير من الرسائل الالكترونية بين اوساط الشباب تصور ساندويتشات ماكدونالدز الاميركية وهي مملوءة ومشحونة بجثث الاطفال الفلسطينيين، بدلاً من الهامبورغر الاميركي الشهير. ومع تصاعد الحملات الشعبية ضد البضائع الاميركية، بدأت الشركات الاميركية الموجودة ببضائعها في مصر القيام بحملات دعاية على مستوى ضخم في وسائل الاعلام المختلفة شملت حملات اعلانية في التلفزيون والسينما والصحف والشوارع، واستقطبت شركات المياه الغازية المتنافسة، مثل "كوكاكولا" و"بيبسي" وغيرها الكثير من نجوم الفن والطرب المصريين والعرب للإعلان عن منتجاتها في حملات مكثفة وكبيرة، الا ان المصريين استمروا في حملاتهم ونجحوا في ايجاد بدائل سريعة. وتقول سهام نجاح 22 عاماً - طالبة في كلية الحقوق جامعة القاهرة: "لم أكن أدرك في البداية اهمية سلاح المقاطعة، خصوصاً أن هناك الكثير من المنتجات الاميركية التي تعودنا عليها في استهلاكنا اليومي، ولكنني فوجئت بوالدي ذات يوم يقرأ علينا قائمة بأسماء البضائع الاميركية التي يجب علينا مقاطعتها، وحين لم نجد بدائل أخرى لهذه البضائع والمنتجات، كتب والدي قائمة اخرى بأسماء البضائع البديلة التي يمكننا شراؤها، وعلى رغم انني تقبلت الامر في البداية وكأنه فكرة طارئة سرعان ما تنتهي، الا انني فوجئت بعد مرور شهر واحد بأخبار في الصحف تقول إن الاقتصاد الاميركي تكبد خسائر كبيرة جراء هذه المقاطعة الشعبية، وبدأت احرص على توعية زملائي وزميلاتي في الجامعة بضرورة المقاطعة". ويقول آدم زهدي 23 عاماً - طالب في كلية الآداب قسم التاريخ في جامعة عين شمس: "على رغم ان المقاطعة حتى الآن ليست على المستوى الرسمي او السياسي الحكومي، الا انني ارى انها ستحقق ما نحلم به ونتمناه. فالاميركيون يريدون النجاح لمصالحهم في البلدان العربية، وحين يجدون أن سياستهم المنحازة لإسرائيل تكبدهم هذه الخسائر الاقتصادية الفادحة ربما يعيدون النظر في هذه السياسة، فالمقاطعة الشعبية في النهاية هي وسيلة للضغط على الحكومة الاميركية لإعادة الحق الفلسطيني الى أهله". وكتدعيم لدعوات المقاطعة، انتشرت في اوساط الجامعات المصرية المختلفة عشرات الرسائل الالكترونية التي تحض على مقاطعة البضائع والمنتجات الاميركية والاسرائيلية، كان اكثرها انتشاراً رسالة تعلن عن مسحوق الغسيل والمنظف "آريال"، على اعتبار انه "المنتج الاميركي الذي يملك مشروع تهويد القدس، وينفق امواله على بناء المستوطنات فوق الاراضي الفلسطينية"، كما صرحت بذلك قوائم المقاطعة التي توزع في كل مكان، وظهرت الرسالة الالكترونية في صورة اعلان ساخر عن "آريال" وحملت نجمة داود مع الربط بين اسم المنظف واسم آرييل شارون". وحول ظاهرة بيع الأعلام والكوفيات الفلسطينية في شوارع القاهرة واحيائها، يقول مصطفى أبو عودة 28 عاماً الذي يبيع الكوفية امام شارات المرور: "بعض الناس يظنون اننا نتاجر بما يحدث الآن في الاراضي الفلسطينية، ولكن هذا ليس صحيحاً على الاطلاق، ذلك أنني وكل الذين يبيعون الكوفية والأعلام الفلسطينية وصور الرئيس ياسر عرفات نقف مع الشعب الفلسطيني بهذا الفعل، خصوصاً انني اخترت حي الزمالك لأن هناك غالبية من الأجانب يعيشون ويعملون فيه، وعندما ابيع كوفية او علماً فلسطينياً لأحد هؤلاء الأجانب، اشعر بأنه يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية مثلي، وانه يقف مع الشعب الفلسطيني في محنته". الكوفية الفلسطينية... حجاباً ومن الظواهر الجديدة في تضامن الشباب المصري مع الفلسطينيين، ان تجد فتيات محجبات يستخدمن الكوفية الفلسطينية في حجابهن بدلاً من مناديل الرأس العادية. وتوسعت بعض المحال المخصصة لملابس النساء في تسويقها الكوفية الفلسطينية فجعلتها تنانير او تي "شيرتات"، وأقبلت فتيات الجامعات على هذه الظاهرة الجديدة بسرعة. تقول هبة احمد سالم الطالبة في كلية الفنون الجميلة في جامعة حلوان: "في البداية استخدمت الكوفية الفلسطينية باعتبارها شالاً اضعه على كتفي، خصوصاً مع تصاعد الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي، ولكنني بعد ذلك وجدت زميلاتي في الجامعة يستخدمنها كحجاب لهن، وأعجبتني الفكرة وصرت افعل مثلهن، وهي ليست تقليعة جديدة، ولكنها صارت فعلاً طريقة ما لنعلن من خلالها تضامننا نحن الشباب المصريين مع اخواننا الفلسطينيين في صمودهم العظيم ضد بربرية الجنود الاسرائيليين، خصوصاً بعدما تخلى عنهم العالم كله في حربهم المشروعة ضد الاحتلال". أما شيماء عبدالرحيم فتقول: "حاولت مثل غيري الالتزام بالدعوات الى المقاطعة وعدم شراء اي منتج اميركي في السوق المصري، لكنني صدمت حين تأكدت ان رغيف الخبز العادي هو من قمح اميركي، وعلى رغم ذلك ما زلت اقاوم ما استطيع التخلي عنه من البضائع الاميركية وايجاد بديل مصري او عربي له".