في معرض حديثه في الجزء الأول من "موسوعة الفلسفة" عن الفيلسوف الروسي نيقولا برديائيف، يقول مؤرخ الفلسفة العربي الراحل عبدالرحمن بدوي ان المنجز الأساس لبرديائيف كان استئنافه "الحركة القومية التي بدأت في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان من رجالها تشاداييف وكرئيفسكي وخومباكوف، ثم على وجه الخصوص فلاديمير سولوفييف". وكان هؤلاء يسعون، بحسب بدوي "الى تجديد النزعة الدينية في روسيا عندما رأوا الفارق بين خصب الكنيسة الكاثوليكية وفقر الكنيسة الشرقية من حيث التطور الروحي" حيث أن وضع الكنيسة الشرقية لا ينهض على قدميه إذا قورن بالتطور الفكري الكبير الذي مرت به الكنيسة الغربية، وبخاصة في العصور الوسطى حيث تكونت العقيدة في صورتها العقلية المكتملة، وشيدت كاتدرائيات فكرية لا تقل في سموقها ودقتها عن الكاتدرائيات القوطية الفنية". ومن الواضح ان برديائيف أتى في إثر هؤلاء المفكرين ولكن "مزوداً بكل ثقافة العصر فجنح ناحية الفكر الفلسفي، متأثراً خصوصاً بتيارين في الفكر الألماني المعاصر: فلسفة الحضارة ثم المذهب الوجودي". غير انه عرف كيف يصبغ الاثنين بروحه الدينية الصوفية الروسية التي أوصلته الى الحديث عن ضرورة الوصول الى عصور وسطى جديدة. من هنا لم يكن من قبيل الصدفة ان يحمل واحد من أهم وأشهر كتب نيقولا برديائيف عنوان "عصر وسيط جديد"، وهو تحديداً الكتاب الذي أصدره في برلين عندما نفي اليها، بعد ان هادن الثورة الروسية وهادنته ردحاً من الزمن. ولئن كان برديائيف نعى الكثير من الأمور وضروب السقوط على العصور الحديثة، فإنه لم يصل في ذلك الى السوداوية البائسة التي طبعت فكر شبنغلر، معاصره تقريباً، بل انه رأى "التاريخ يشق مجراه قدماً في غير توقف أو عود الى الوراء"، كل ما في الأمر أنه رأى في العصور الحديثة "ظلمات خيمت على العالم كما حدث قبل نهضة العصور الوسطى" وأدرك ان "هذه الظلمات لن تلبث ان تتبدد" "فتشرق" عصور وسطى جديدة"، حيث يكون ثمة "عود الى الينبوع الأصيل" الى "أعماق الوجود الأولى". ورأى برديائيف، وهو الروسي الخالص على رغم منفاه، انه سيكون لروسيا دور خاص في هذا التحول "لأنها تمتاز عن بقية أوروبا بأنها انتقلت مباشرة من العصور الوسطى القديمة الى العصور الوسطى الجديدة المقبلة. وما البلشفية الروسية إلا المرحلة الأولى من مراحل هذا التطور"، لكنها مرحلة يجب القضاء عليها - بحسب ما يفسر بدوي فكر برديائيف - لأن "الماركسية، وان ردت الى الإنسان كرامته في جعلها الإنسان سيد عمله وتحريمها استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، فإنها مع ذلك قصرت لأنها تعوزها فكرة الشخصية الإنسانية، ورأت في الإنسان كائناً تحدده العوامل الاجتماعية والاقتصادية وحدها، فقضت على الفرد لحساب المجتمع، وبزوال هذه الثنائية بين الفرد والجماعة، زال المعنى الحقيقي للإنسان". ومن هنا يمكننا أن نفهم "الموسوعة الفلسفية" السوفياتية، حيث تعرّف برديائيف بأنه "فيلسوف متصوف بورجوازي روسي ووجودي" وتقول ان "الطبيعة الرجعية لفلسفة برديائيف تظهر على أشدها في مؤلفه الرئيسي "فلسفة عدم المساواة" 1918 الذي نشر عام 1923، وفيه اعتبر برديائيف "عدم المساواة نعمة وصواباً واعتبر الحرب أساس الحركة الابداعية للبشرية". ومن الواضح لمن يقرأ مؤلفات برديائيف بدقة، لا سيما "فلسفة عدم المساواة" و"عصور وسطى جديدة" ان برديائيف وعلى عكس ما تقول الموسوعة السوفياتية، لم ير في عدم المساواة نعمة ولم يدع الى الحرب. بل ان ما يهمه كان في مكان آخر تماماً. ما يهمه عبر عنه في "عصور وسطى جديدة"، حيث يرى ان التقسيم الكلاسيكي للتاريخ الى ثلاث مراحل: قديمة، قروسطية وحديثة، لم يعد صحيحاً. "فالتاريخ المعاصر لنا ينتهي الآن أمام ناظرينا وها هو زمن جديد يبدأ لكننا نجهل كنهه كلياً... ويتعين علينا أن نضفي عليه اسماً". ان "عصر النهضة" قد فصل الإنسان، في رأي برديائيف عن المنابع الروحية للحياة، تلك المنابع التي كان العصر الوسيط ينهل منها" انكرت النهضة الإنسان الروحي لتحل محله الإنسان الطبيعي وحده. وعلى هذا فإن النزعة الإنسانية قللت من شأن الإنسان بدلاً من أن تقوّيه. وهكذا، إذ وصل هذا الإنسان - الأوروبي ضمن إطار تحليل برديائيف - الى العصور الحديثة، وجد نفسه يعيش في خواء رهيب. و"لما كان ايقاع حركة التاريخ قد ازداد توتراً، على مجرد ديالكتيكية الزمن الذي يتبدل بسرعة، أصبح وضع الإنسان كارثياً". "وتبدى لبرديائيف أن التاريخ الحديث أصبح مجرد مشروع فاشل، عجز عن تمجيد الإنسان ذلك التمجيد الذي كان وعد به. وعود الإنسانية لم توفَ وإذ وجد الإنسان نفسه في خضم هذا منهكاً ضائعاً، صار قادراً على الاستناد الى أي نزعة جماعية كانت. ما أدى الى اختفاء الفردية البشرية، حيث ان الإنسان ما عاد قادراً على احتمال وحدته وعزلته المطلقة". وبرديائيف رأى، في هذا الإطار، أن هذا هو السر الكامن وراء النجاح السريع الذي حققته الثورة الروسية، والشيوعية اللتان كشفتا عن احتياجات الإنسان، ولكن من دون الاستجابة الحقيقية والشافية لها. صحيح ان هذا كله أسفر عن تجربة في الحرية وصلت الى ذروتها، مع افلات عقال الإنسان الطبيعي من داخل الإنسان الروحي... غير أن الإنسان الطبيعي فقد في الوقت نفسه كل المصادر الروحية الضرورية أصلاً لوجوده، وهكذا جفت الروح لديه. وها هوذا يدخل زمناً مجهولاً. فما الحل؟ بالنسبة الى برديائيف لا يوجد حل خارج الوصول الى الروح القصوى، ولكن أيضاً الى الفردية القصوى والى الاشتراكية القصوى حيث تبدو لدى برديائيف هنا واحدة من أولى المحاولات في الفكر الغربي للتوفيق بين الدين والاشتراكية، تماماً كما انه حاول التوفيق بين الوجودية والاشتراكية. وهكذا، بالنسبة الى برديائيف، بعد فشل النهضة والاصلاح وأفكار التنوير، وبعد امحاء الفردية والتخبط الذي تعيش فيه الاشتراكية اليوم، بات لا بد من العودة الى عصور وسطى جديدة، ولكن عبر حكمة ينادي بها هذا المفكر، وتجمع الفكر المسيحي بنوع من الغنوصية، التي تجد في "الثيوقراطية" تعبيراً اجتماعياً عنها. في اختصار: على الإنسان ان يستعيد روحه. وهو سيستعيدها في مناخ الفوضى الكارثية الذي يطبع زمننا: سيستعيدها عبر تكوين توليفة دينية جديدة تشد الإنسان نحو مركز الكون، نحو مركز العالم ومركز الروح، نحو الله. نيقولا برديائيف، الذي قال عنه روجيه غارودي ان نقده للعلم "مثل نقده للاشتراكية، حيث أنه، بنزعته اللاعقلانية البدائية، لا يقتبس نقده للعلوم لا من انقلابات الفيزياء ولا من مباحث الابستمولوجيا المعاصرة، كما ان نقده للعقل وللموضوعية العلمية، لا يتقدم بنا خطوة واحدة الى ما بعد دوستويفسكي..."، ولد برديائيف العام 1874 في كييف بأوكرانيا لأسرة نبيلة روسية، وهو ارتبط خلال شبابه ببعض الحركات الثورية، وقبض عليه مرة وحوكم بتهمة التآمر ضد النظام، ونفي في وقت كانت تظهر فيه كتابات أولى له تحاول التوفيق بين النزعة الفردية والفكر الماركسي. وخلال الأعوام الأولى من القرن العشرين، راح برديائيف ينشر كتبه المتتالية وتتسم جميعاً بنوع من النزعة التوفيقية. وهو بعد ذلك عاد الى النزعة الإيمانية الأرثوذكسية، ولكن من منطلق ثوري اصلاحي جعله يخوض معارك عنيفة مع رجال الكنيسة. وقبل الثورة وضع برديائيف كتباً عدة، من أبرزها "روح دوستويفسكي" و"معنى التاريخ"... لكنها لم تنشر إلا بعد خروجه من روسيا بعد الثورة، حيث عاش ردحاً من الزمن في المانيا ونشر أهم كتبه في برلين. أما صيته في العالم العربي فلم يذع في شكل جدي إلا مع نشر كتابه "عصور وسطى جديدة"... أما كتابه الكبير الثاني والذي قرئ على نطاق واسع أيضاً فكان "مصادر الشيوعية الروسية ومعناها". تنقل برديائيف بعد ذلك بين انكلترا وفرنسا، حيث توفي في العام 1948 مخلفاً ما مجموعه 25 كتاباً ومئات المقالات.