سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الباعة وأصحاب المهن يصبحون أكثر استقامة هذا الشهر رمضان العراق ... الناس يستعيدون أيام الخير في سنوات الألم ويعوضون عن قسوة الراهن بابتكار أساليب مختلفة للإحتفاء
في رمضان الذي حل مع نهاية حرب الخليج الثانية في العام 1991، خيم شعور ثقيل على العراقيين عكّر من ايقاع نابض بالإيمان والمسرة ارتبط عندهم بالشهر الفضيل. فالحرب والحصار تركا ملامح الألم والشح والتقتير. والمشهد ذاته ظل يتكرر طوال السنوات الاحدى عشرة التالية، فالموائد تعاني غياب "اطباق البذخ العراقي القديم"، والنفوس خامدة، اثقلها التهديد المستمر بالموت واستعادة الأحبة الذين غيبتهم الحروب، مع كل دعاء على فطور او سحور. ملايين العراقيين الذين صاموا خلال سنوات الحصار والضيم، كانوا يتمنون ان يكون رمضان الحالي، متصلاً بأيام الخير التي لا يبدو في الأفق ان مودتها ستكون قريبة. مع هذه الوقائع، ومع التقتير مقابل البذخ، ومع التوتر النفسي مقابل الراحة العميقة التي كانت سمة الناس في رمضان ما قبل الحصار، وجد العراقيون وسائل خاصة، وابتكروا اشكالاً من الإحتفاء بشهر الإيمان، تناسب وقائع حياتهم الثقيلة. أحد البغداديين ممن عرف ملامح رمضان عبر سنوات طويلة، إذ ولد في بغداد القديمة وتعلم مع اقرانه معنى الصوم في باب الشيخ والصدرية، وهو اليوم مستشار في "هيئة التاريخ"، استعاد خلال لقاء في عمان بعض ذكريات رمضان في بغداد: "لرمضان اهمية خاصة عند العائلة العراقية التي تقوم بتهيئة المنزل قبل مدة تسبق حلول الشهر الفضيل، فتنظف المرأة بيتها وتزينه وتنظف الرز العنبر وتعزل عنه الدكة لعمل الحلاوة وتنظف من العدس كميات تكفي الشهر وتجهز التمر الذي لا غنى عنه في مائدة الافطار. وكنا نذهب الى سوق الشورجة لشراء البهارات والكزبرة والكمون وتضاف هذه المواد الى الطعام لاضفاء نكهة خاصة، ويوضع البخور في كل ركن من اركان البيت للبركة". وفي هذه الأيام وحين تسأل عراقياً: هل اعددتم لشهر الصوم فيجيب مبتسماً: "رمضان رزقه وياه معاه". وفي رمضان يقبل الصائمون في العراق على اعمالهم من دون تغيير عن بقية الأوقات، بل ان البعض منهم يتساهل في عمليات البيع والشراء والمعاملات من اجل الثواب وكلهم حريص على العودة الى بيوتهم مبكراً، وعند المغرب تكاد تخلو الشوارع من الناس فالكل بانتظار مدفع الافطار. التردد الى المقاهي وكان البغداديون خصوصاً والعراقيون عموماً يذهبون ايام زمان وبعد اداء الصلوات والأدعية الى المقاهي ويلعبون لعبتي "المحيبس" و"الصينية" ثم توزع صواني البقلاوة بينهم بعد انتهاء تلك الأشكال من الالعاب الشعبية التي ما زالت موجودة حتى اليوم، إلا ان التلفزيون من خلال المسلسلات والبرامج التي ينقلها من الفضائيات العربية، سحب البساط من تحت ارجل اصحاب المقاهي ليجعل الناس يرابطون في بيوتهم لمشاهدة أحدث الأعمال الدرامية، في حين يقوم البعض الاخر بزيارة الاقارب والاهل والاصدقاء للتهنئة ولحضور جلسات السمر التي تمتد احياناً الى وقت السحور، من دون نسيان حلقات الأطفال الدائرين على البيوت، مطلقين في "الماجينة" نداءات رقيقة لطلب العون من طعام او شراب يقدر عليه الموسرون، كذلك قارع الطبل المسحراتي. خزين الذكريات في "جامع الخلفاء" وسط بغداد القديمة، يستعيد الشيخ جلال الحنفي البغدادي الليالي الرمضانية في "مدينة السلام"، فيقول: "لدي خزين من الذكريات العابقة عن تلك الايام لا سيما وأنا الآن في التسعين من عمري. يتجلى شهر رمضان في لياليه، فالليالي الرمضانية تعطي المعنى الاجتماعي لشهر رمضان. سابقاً كانت بغداد غير مضاءة كما هي الحال الآن. وعند قرب حلول شهر رمضان كانت تضاء المنارات، اذ كانوا يضعون حول المنارة السرج وهو على شكل كأس فيه ماء وبعض الزيت وفتيلة تبقى مشتعلة لحين انتهائها، فكانت هذه المنارات تضيء الطريق ويخرج الاطفال والناس الى الدرابين الأزقة يلعبون ويتسامرون، كما كانت السيارات قليلة سابقاً والرجال كانوا بعد الفطور يذهبون الى المقاهي يتسلون بألعاب معينة مثل طاولة الزهر والدومينو والمنقلة والدامة وغيرها، اذ كانت المقاهي تفتح من المغرب حتى الفجر وبعد صلاة العشاء. وكانت محلات ودرابين بغداد سابقاً لها ابواب تغلق بعد صلاة العشاء". مأكولات خاصة وعن استقبال العوائل البغدادية لرمضان المبارك يقول الحنفي "كلنا يعلم ان الدنيا والحياة في تغير، فكان الجميع يصوم، وسكان الازقة والمحلات كانوا يعرفون بقدوم شهر رمضان من خلال باعة البقلاوة والزلابية اذ كانوا يتهيأون لرمضان قبل اسبوع من قدومه، وكان الباعة يجلسون في اول الحارة في شهر رمضان فقط، حينها يعرف الناس ان الشهر جاء وهلّ ببركته ولياليه الجميلة. فكان الجميع نساء ورجالاً وأطفالاً في وقت العصر وقبل المغرب يعملون في المطبخ. وكانوا يتفننون في أكلات الافطار، والجميع كان يجلس حول المائدة يستأنسون ويتلذذون حيث كبة الحلب وشوربة العدس او الماش والمحلبي والحلاوة وكباب عروق وكلباستي وهي ضلوع مشوية ومخلمة بالبيض واللحم والعصيدة وبقلاوة عرب وهي التمر المقلى بالدهن والبراصة وهي مكونة من البصل الاخضر واللحم والطماطم، وشراب قمر الدين، فهذه الاكلات كانت تؤكل فقط في شهر رمضان... واما "التمن" أي الرز فكان يؤكل فقط في السحور والسلاطات كانوا يعملون منها انواعاً وبحسب نتاج الموسم". وكان البغداديون في اوقات الأمان وازمنة العافية "يتسامرون ويحتسون الشاي او الحامض والاطفال يلعبون في بعض الالعاب "كسمبيلة السمبيلة"، والرجال يذهبون الى الجوامع لاداء صلاة التراويح. وفي المقاهي كان يتسامر كبار السن فقط، اما الشباب فكانوا يلعبون لعبة المحيبس والصينية وغيرهما، وهذه الالعاب قديماً في بغداد كان يلعبها الشباب في الدرابين وليس في المقاهي مثلما هم حالياً. وفي بعض المقاهي يستمعون الى المقامات العراقية، فسابقاً وقبل تأسيس الاذاعة لم يكن هناك تسجيلات واغان، وعند تأسيس الاذاعة عام 1936 بدأت تبث احاديث دينية وتمثيليات، إضافة الى الالعاب في المقاهي. ووقت الفطور كان يضرب الطوب أي المدفع وفي السحور ايضاً. وفي الجوامع كان هناك وعاظون صباحاً وعصراً وبعض وعظهم فيه اشياء هزلية يستأنس الناس حين سماعها وبعض الاشياء الدينية التي يخشع الناس لها. وفي وقت السحور كان البعض يأكل في منتصف الليل والآخر ينتظر وقت السحور فكانوا يأكلون الرز لانه خفيف على الجسم مع اللبن". في رمضان... يستقيم السلوك وفي رمضان يستقيم بعض اصحاب المهن في بغداد ويقلعون عن غش اعتادوه في عملهم طوال اشهر السنة. وعن "سلوك قويم" ينتاب بعض الحرفيين خلال رمضان، نشرت صحيفة اسبوعية في بغداد، تحقيقاً طريفاً بعنوان "ونحن في شهر رمضان المبارك ماذا عن أخلاقيات المهنة؟". أحد الأشخاص لا يرسل تلفزيونه المعطل الى التصليح الا في شهر رمضان وسبب ذلك يقول هو ان "الالتزام وعدم الكذب وعدم الغش تكون اكثر في هذه الأيام المباركة". والصدق في رمضان قد يغير سلوك غير الحرفيين ايضاً، فالطبيب عبدالعظيم عبدالكريم، يتمنى ذلك على زملائه حين قال: "ان شهر رمضان المبارك، شهر الالتزام والأخلاق والفضائل ومهنة الطب مقدسة وذات طابع انساني ولكن للأسف لم نشاهد طبيباً علق لافتة تقول: الفحص في رمضان مجاناً. فالكسب المادي افرز حالات في مهنتنا كانت بعيدة من هذه المهنة السامية، والالتزام هو الالتزام في رمضان ام غيره. صحيح ان بعض الأطباء تحول بمرور الزمن إلى تاجر لكنني ادعو البعض من زملائي في هذه المهنة الإنسانية إلى استغلال شهر رمضان والعودة إلى أخلاق المهنة الإنسانية". وعن أخلاقيات المهنة في رمضان يقول أحد المدرسين الذي أصر على الاكتفاء بذكر الحرفين الاولين من اسمه ص. ب "أنا في رمضان لا استوفي أجوراً عن محاضرات الدرس الخصوصي والسبب هو الالتزام الديني بما انني صائم فيجب ان أعطي لكل ذي حق حقه". احد مصلحي ثلاجات حفظ الطعام يرفض العمل في رمضان خوفاً من وقوعه في المحظور الكذب، فيقول: "أنا لا أقوم بأي عمل في رمضان والسبب هو انه في حال ظهور عطل ما لا أستطيع الكذب وهذه مشكلة بالنسبة إليّ. في شهر رمضان لا بد من الصدق، فقد جاءتني قبل قليل ربة منزل وعندها ثلاجة معطلة واصلاحها لا يكلف اكثر من 12 ألف دينار، لكنني في الأيام الاعتيادية اطلب لتصليحها30 ألفاً اما اليوم فأخذت ال12 ألفاً وأنا أتحسر على البقية". زملاء هذا الحرفي يقولون ان صاحبهم ليس مثالاً على سلوك شريف يأملوه في رمضان: "لو خليت قلبت، فالحمد لله هناك من يلتزم سنّة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بحديثه الشريف "من غشنا ليس منا". سائق حافلة لنقل الركاب يتوقف في الباب الشرقي يشير الى ان "بعض السائقين يقوم بأخذ جزء من الوارد ويقوم باخفائه عن مالك السيارة ولكن هذا لا يحدث في رمضان". ورمضان باعث تقوى وورع حتى عند الحكومة، فثمة عمال من "أمانة بغداد" يعملون في أحد الشوارع بجد وهذا مفتقد في بقية الأيام. والشهر هو وقت الصدق عند خياطة تقول: "يزيدني رمضان التزاماً دقيقاً بموعد تسليم الثياب، ولا يجوز لنا التأخير في الموعد لأن ذلك كذب، والكذب معناه الإفطار وان نكون صائمين من دون أجر وثواب".