بداية، علينا أن نتفق أن الفن التشكيلي داخل مصر يحتاج إلى وقفة، كما أن الإحساس بقيم الجمال فيه يحتاج إلى إعادة صوغ. هل أصبح التجريب وحده تحت دعوى الحداثة سبباً في عزلته؟ أم أن هناك عوامل أخرى عرقلت سيره بما في ذلك أهدافه الحقيقية؟ حول بعض المشكلات التي تتعرض لها الساحة التشكيلية داخل مصر كان هذا الحوار مع رئيس قطاع الفنون التشكيلية أحمد نوار. هناك خلل ملحوظ في سير الحركة التشكيلية خلل ثقافي، فكري، نقدي تعليمي، تُرى ما هي المحاور الأساسية التي يرتكز عليها هذا الخلل؟ - الخلل الذي يصيب جسد الحركة الفنية التشكيلية في مصر ينحصر في محاور أساسية عدة لا يمكن تجاهلها لأهميتها: المحور الأول: الثقافة بمفهومها الشامل، والثقافة المتخصصة. أقصد هنا بطبيعة الحال الثقافة الفنية، فمن هذا المنطلق نجد غياب الفنان عن البحث والتنقيب في مجالات المعرفة المختلفة، وأيضاً في مجال الفن، الأمر الذي يدعونا الى الحديث صراحة حول الامكانات الاقتصادية والسوق الفني، نجد بل نؤكد سوء الحال الاقتصادية لمعظم الفنانين، الأمر الذي ينعكس سلباً على إبداعهم الفني، ولا تستطيع الشريحة الكبرى منهم أن تقتني كتاباً مهماً بمئات الجنيهات للاطلاع على ما يجري في الفن على مستوى العالم، نسبة لا تتعدى 1 أو 2 في المئة القادرة بحكم عملها أن تسافر للازدياد المعرفي والثقافي ومشاهدة كبرى المتاحف العالمية. فهذه الحصيلة للثقافة العامة والثقافة المرئية، والاحتكاك المباشر بمثابة مخزون ثقافي محرك لإبداع حقيقي. إذاً، الفنان يعيش حال ارتباك.. وما يحدث الآن من قضايا عالمية تؤثر في اقتصاديات العالم، شيء مخيف وقاتم، والأسوأ من ذلك البعد النفسي الذي يعيشه الفنان أولاً والمواطن ثانياً في كابوس القرن الحادي والعشرين الذي لا نعرف مداه.. ولا نعرف حتى الآن إلا غياب القيم والعدالة والسلام، وقلب الموازين والأعراف والشرائع المختلفة لدى الأمم. فإرادة الإنسان الصادق والمبدع الحقيقي هي التي تدفعه إلى الإصرار على التحدي وتجاوز الصعاب مهما كان الثمن، وهذا هو المبدع الحقيقي الذي يمتلك مقومات المواجهة مع الذات والواقع. المحور الثاني: غياب النقد وليس الحركة النقدية حتى لا نبالغ في ما لا نملكه حتى الآن، غياب النقد معناه غياب للروح، وغياب للخطاب النظري للعمل الفني والذي لا يملكه إلا ناقد مثقف وعلى علم بنظريات النقد المختلفة وعلى خبرة وعمق بقراءة التاريخ بصرياً وذهنياً، ويمتلك من الإحساس والمشاعر ما يمتلك المبدع الفنان، لذا ما يحدث الآن في مصر على المستوى النقدي شيء مخيف ومخيب للآمال حيث كان عدد النقاد في الستينات والسبعينات أكثر من الآن إذا جاز التصديق على كل من كتب في الفن وسُمي ناقداً، فلا يمكن أن نتجاهل اسماء لامعة في العلم والثقافة والإحساس، أذكر منهم الراحلين صدقي الجباخنجي، ورشدي اسكندر، ومحمود بقشيش، وروضة سليم، إضافة إلى بعض المعاصرين القلائل.. أين مساحات الكتابة في الفن بالصحف المصرية، أين زمن الحديث عن الفن في إذاعاتنا وشاشاتنا الصغيرة والفضائيات؟ شيء مذهل ومخيف أن تتنامى حركة الإبداع الفني بجسد وجناح واحد!!، ولا يمكن أن نتجاهل الأقلام الجديرة بالتقدير والاحترام، والتي أضافت بصيصاً من الآمال في ساحة الإظلام التام، أذكر منهم الفنانين: أحمد فؤاد سليم ومقاله الاسبوعي في جريدة "الوفد"، مصطفى الرزاز مقاله الاسبوعي بالجريدة نفسها، وكتابات الفنان صبري منصور في مجلة "الهلال" وفاطمة علي في "أخبار النجوم" و"القاهرة" وثريا درويش "الأخبار" واجتهادات البعض الذين لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، إضافة إلى بعض الكتابات الصحافية الهابطة التي لا ترقى الى مستوى النشر، والتي تصبو إلى دوافع شخصية غير عادلة ومنحازة إلى الأهواء. هذه حال النقد في مصر، غير مبشر وقاتم المناخ!. المحور الثالث: تعليم الفنون.. في الكليات والمعاهد العليا الخاصة، جميع هذه المؤسسات الاكاديمية تحولت كأشباح لمدارس المرحلة الثانوية، فعدد الطلاب بالآلاف، والتجهيزات الفنية غير متكافئة لهذا العدد، ولا يمكن الوفاء بحاجات الطالب على المستويات التعليمية والثقافية والإبداعية والبحثية، بما ينبئ بكارثة في المستقبل القريب. هناك آراء تُرجع مسؤولية الخلل إلى قطاع الفنون التشكيلية وذلك في ما يتعلق بالسياسات الغامضة المتبعة في العرض والتحكيم بالمعارض التابعة له؟ - لا يمكن أن نلقي أعباء الخلل على مؤسسات بعينها ونتجاهل بعضها. فالمؤسسات جميعاً مسؤولة، ونظام بناء المجتمع مسؤول، وأمانة الأداء العام واجبة تجاه الفرد. فدور المؤسسات الإعلامية على كل المستويات المرئية والمسموعة والمقروءة يتجاهل الفنون التشكيلية لغياب البعد الثقافي والفني والإبداعي، والمقتضيات الواجبة تجاه المجتمع لتثقيفه. أما من يعلق المشكلات على شماعة سياسات الإدارة ونظم العرض، فهو لا يعيش روح هذه السياسات وفي غياب متعمد عنها. كيف يضمن العمل الفني عدالة تحكيمه بخاصة مع عدم وجود أسس مشتركة أو محددة يمكن من خلالها بناء عملية التقويم الخاصة بمختلف الاتجاهات الفنية؟ - هذا أختلف معك فيه، حيث ان الأسس المشتركة والمحددة للحكم من خلالها على أي عمل فني موجودة ولا يمكن أن نختلف عليها، فأساس القيمة الفنية على سبيل المثال لا يمكن أن يتغير بتغير الاسلوب أو الاتجاه أو الأفراد التي تحكم أو في زمن ما، فهي أسس ذات ثوابت دامغة، لكن المتغير هو اسلوب الأداء والاختيار، ووضع معايير أخرى تتماشى مع ثقافة العصر والمجتمع، وعلى سبيل المثال "التفرد والتميز" من الثوابت، "الإبداع الفكري والتقني" من الثوابت، فلا يمكن أن نفصل بين أسس اصبحت دستوراً بغير المنهج والاسلوب أمام أصحاب الرأي والحكم الفني، الخلل الحقيقي يكمن في ذات الفنان الذي يتجاوز حدود الأمانة الفنية والبعد عن تحقيق العدالة الفنية، ومن جهة أخرى ما يقع على الفنان الذي يعتبر نفسه هو الأوحد وأعماله هي الأفضل وهي التي تستحق الفوز. ماذا عن سوق العمل الفني داخل مصر؟ - السوق الفني في مصر يمثل نسبة لا تتعدى نقطة ماء في الصحراء، فمن المجحف أن نتناول هذا الشق بشموله، ولكن يقع على عاتقه سوء الاتجاه الذي يهيمن من خلال ذوق المتلقي في ضوء أعمال أنصاف الفنانين والتجاريين منهم أيضاً. لجوء أغلب الفنانين وخصوصاً الشباب إلى اساليب التجريب المختلفة بدعوى الحداثة، والتقليد أحياناً مع إغفال الجانب الفني في كل الأحوال.. والأدهى من ذلك قبول هذه الاتجاهات وتشجيعها في شكل يضمن لها مسافة طويلة من الاستمرارية، أزمة أخرى تعادل في خطورتها قضايا فكرية وثقافية مهمة.. كيف يمكن التعامل معها أو السيطرة عليها؟ - هذا الجانب مهم جداً، حيث تتجه شريحة كبيرة من الشباب إلى التجريب من دون دراية ومن دون مخزون ثقافي وخبرة فنية دافعة إلى هذه المغامرة، الأمر الذي يؤكد وجود النقد الفني وأهميته لأنه الميزان والمحلل والمنظر والكاشف والمدقق والمنقب. كل هذا في النقد، فما بالنا أن نفتقر إلى هذا كله؟ من سيوقف فناناً مزوراً، فناناً مقتبساً أو مقلداً أو أنصاف الفنانين.. من؟ النقد الفني الموضوعي هو القوة الفكرية القادرة على تصنيف ما يجري للحركة الفنية، وهو الوسيلة الوحيدة لتقويم أو إيقاف سيل المهرولين في الفن والمدعين أيضاً.