إنفض شمل الفرقاء السودانيين المتشاكسين من نيروبي امس ب"مذكرة تفاهم" أصر الوسطاء على صدورها حتى وان كانت تفسر الماء بعد جهد بالماء، على أمل الاجتماع بعد شهرين. ولئن كانت جولة التفاوض الاولى التي دامت ستة اسابيع أحدثت اختراقاً جوهرياً في قضيتي الدين والانفصال اللتين طالما وصفتا بأنهما أعقد قضايا الحرب السودانية، فإن الجولة الثانية التي استمرت ثلاثة اشهر وحدث خلالها شجار وانفضاض، أثبتت لمن لا يزال يشك، أن قسمة المناصب الكبيرة هي المفتاح والعقبة، وكشفت بذلك خطل حجج كثيفة شنف بها المفاوضون الاسماع عن المبادئ والقضية. ولم تكشف عبارة حيرة الوسطاء واضطراب أمرهم مثل العبارة اليتيمة التي تيسرت لهم في "مذكرة التفاهم" عن الرئاسة اذ قالت الوثيقة الفضفاضة إن "الطرفين اتفقا على أن تتم عملية صنع القرار داخل الرئاسة على أساس الزمالة". راوح المتفاوضون مكانهم طويلاً في بند واحد هو اخلاء منصب نائب الرئيس لإحلال جون قرنق فيه، أو زحزحة نائب الرئيس قليلاً لتوفير مكان ما في مؤسسة الرئاسة لزعيم المتمردين، وما يلحق بذلك من اختصاصات وصلاحيات. وحاور المفاوضون وناوروا وداوروا كثيراً حول هذه القضية بإثارة مسائل اخرى بعضها محض مزايدة، وبعضها دعوات ظاهرها الحق، بقصد التمويه على صراع المناصب الفج، سيئ الوقع لدى العموم. وأطلقوا التصريحات النارية عن قسمة الثروة الضئيلة والديون الكثيرة، وعرجوا على وضع العاصمة وأين تكون وهل هي المدينة كلها أم بعض شوارعها. لكنهم ارتدوا بانتظام يحسدون عليه في كل مرة الى موضوع وحيد هو مناصب قرنق وصلاحياته اذا استخدمنا فهم مندوبيه، أو ما يجوز وما لا يجوز التنازل عنه في مركز القرار اذا استخدمنا فهم مندوبي الخرطوم. سهل ان ننهمك كلنا في بيان نقاط الاتفاق وهي كثيرة ونقاط الخلاف وهي قليلة، مجادلين ومناقشين، لكننا نكون بذلك ساهمنا بكثافة في حملة التعمية والتضليل، لأن السلطة فقط هي العقبة الكأداء امام سلام السودان، وقمة السلطة فقط هي ما يصعب التنازل عنه، كما علَّمنا المفاوضون الذين اظهروا ابداعاً في التنازل من كل نوع ومقدار. والامثلة كثيرة على التنازلات الفكرية والسياسية والمبدئية الضخمة التي اجزلها الطرفان بإخلاص لم يترك متسعاً لمزايد في مذبح مشاكوس، وذلك أمر محمود ما دام يقرب البلاد متراً نحو السلام. فالحكومة كررت بما لا يدع مجالاً لمُِشكك بأنها مستعدة للاستشهاد عن بكرة أبيها دفاعاً عن الوحدة، لكنها بدت راضية بإستفتاء على تقرير المصير للجنوب يساوي بين الوحدة والانفصال، ووقّعت على نصف وحدة ونصف انفصال. والحكومة لا تعترف للمتمردين بولاية على اي مناطق خارج الجنوب، وترفض التفاوض معهم داخل مبادرة "ايغاد" على مستقبل تلك المناطق، لكنها تقبل ان يتم التفاوض في مكان آخر على مستقبل "المناطق المهمشة". واذا سألت مع من؟، أجابتك: مع الحركة الشعبية طبعاً. والمتمردون أسخياء في التنازل الذي اصبح محمدة يتنافس فيها المتنافسون، في ظل العصا الاميركية المرفوعة في باب الجُحر الذي دخله المفاوضون. فهم قبلوا عملياً فرض الشريعة على أكثر من 95 في المئة من العاصمة وفاوضوا على الخمسة في المئة، مع ان كل أدبياتهم وتحالفاتهم الدولية والمحلية تقول انهم لن يضعوا البندقية جانباً ولن يخرجوا من الغابة الى فضاء المدينة من دون دولة علمانية. بالطبع، اقل ما يمكن تصوره في دولة علمانية ان تكون عاصمتها كذلك. والمتمردون أسمهم "الحركة الشعبية لتحرير السودان" ويرمون كل من يشكك في عزمهم تحرير كل السودان بتهم من العيار الثقيل، لكنهم يفاوضون اليوم فقط على الجنوب، وربما بعض الجنوب اذا توخينا الدقة. المشهد الذي إنتهت اليه المفاوضات امس مُلجلج، لكنه لن ييئس أحداً من قرب حصول السلام لأن وراءه إرادات غلاّبة انكسر امامها جبابرة كُثر. فسلام السودان بات من نوع الحتميات التاريخية، لكن الارادات المتضررة داخل عملية السلام ستماطل كثيراً وتسوِّف كما حصل في مشاكوس الثانية، وكما ستشهد مشاكوس الثالثة مطلع العام الجديد. وسيكون مصدر سعادة للراغبين في السلام ان يلاحظوا ان هذه الإرادات المتضررة باتت أضعف وأوهن موقفاً لدرجة اعتمادها المماطلة بعد فشلها في محاولات الافشال. والمماطلون ليسوا اصحاب قوة ووعد لازم التحقيق، وانما هم مؤملون يرجون ان تخلط لهم تصاريف الدهر الاوراق. وذلك امل بعيد. اساس الجدل الدائر الآن هو ما يطلبه قرنق وما تعرضه الحكومة، فحركته تعتبر انها "تنازلت" عن طلبها الرئاسة الدورية ولذلك لا ترضى بأقل من نائب اول للرئيس كامل الصلاحيات والنيابة بما في ذلك الخلافة في الغياب الموقت والدائم، لكن الخرطوم ترى ذلك الطلب غير ممكن التحقيق، وتعرض في مقابل ذلك قسمة نيابة الرئيس بين قرنق والنائب الاول الحالي علي عثمان محمد طه، ومستعدة لاعطاء الاول نيابة متساوية مع الثاني لشؤون الجنوب في حين يكون طه رئيس الوزراء الفعلي. وتؤكد الخرطوم ان ليس بوسعها تسليم قرنق سلطة رئيس بالنيابة في غياب الرئيس عمر البشير، تشمل ايضاً اشرافاً على الحكومة في وقت هو فيه الحاكم الفعلي على الجنوب. وتثير سيناريوات مخيفة في هذه الحالة مثل "انقلاب القصر" واعلان الانفصال والتصرف في الجيش، وهي كلها امور بالغة الخطر ولذلك تريد تقييد درجة النيابة التي تمنحها لقرنق. الحقيقة ان القسمة لا تطاول منصب النائب فقط، وانما تشمل منصب الرئيس ذاته، فطلب قرنق الحقيقي هو "نصف رئيس" بعدما خسر فرصة "رئيس مناوب". والمشكلة كان يمكن حلها بطريق اقصر اذا كان محورها الوحيد هو منصب نائب الرئيس، اذ عرض علي عثمان من قبل التخلي عن منصبه "اذا كان ذلك سيحقق السلام"، كما يمكن للبشير ان يعيد تشكيل تحالفاته، لكن الوسطاء والمتمردين أخطأوا اصابة هدفهم عندما استهدفوا صلاحيات الرئيس ايضا فأكدوا له جدوى تحالفه مع نائبه من حيث لم يحتسبوا. صعب تصور حل مشكلة قسمة المنصب الواحد خصوصاً اذا كان ذلك المنصب رئاسة دولة، بين مندوبين حتى وإن كانوا مفوضين، وربما كان اسهل طرحها امام صاحبيها الحاكم والطامح. وربما كانت مبادرة الرئيس الاوغندي في جمع الرئيس عمر البشير وقرنق افضل المسارات لو كان كتب لها الاستمرار او التكرار. قد يرى الطرفان اجحافاً في حقهما وحق جهدهما القول انهما يتنازعان على المنصب فقط، لكنهما قد يتفهمان المشهد كما يراه غيرهما، اذا قيل ان المخارج كثيرة وتجارب الامم ثرة، فلماذا لم يطرق بابها احد؟ لم يرد في التصريحات الكثيرة اثناء التفاوض حديث عن الديموقراطية لمن يريد ضمان المكاسب من وراء تمسكه بالمنصب الرفيع، ولم يقل أحد من الطرفين أو الوسطاء أن الصلاحيات الخطيرة محل الجدل يمكن ان تنقل بسهولة الى برلمان منتخب في ديموقراطية ضامنة، فنكون ربحنا العدل والحل، واضفنا بعداً ديموقراطياً. واذا احيلت صلاحيات كثيرة لا يريد مندوبو الشمال اعطاءها لممثل الجنوب ولا يقبل ممثل الجنوب مشاركة في الحكم بدونها، على برلمان منتخب من جميع اهل البلاد فسيكون في ذلك مخرج ومكسب. ولم يشر أحد من الفرقاء تصريحاً ولا تلميحاً الى تجربة الحكم بالمجلس الرئاسي طوال عهود الديموقراطية الثلاثة الماضية في السودان، وهي صيغة مهضومة لدى الشعب ومعلومة في تجارب الامم، وفيها حل للرئيس والرئيس المناوب ونصف الرئيس والنائب ونصف النائب، وعلاج لحجج الحكومة ان خشيتها تخصيص منصب ذي فيتو للجنوب قد يثير نعرات اقاليم اخرى قد تلجأ الى حمل السلاح. لم يقل لنا أحد ان في الإمكان حكم فترة الانتقال بمجلس رئاسي وربما يكون ممثلاً لاقاليم البلاد الخمسة وللسودان في ذلك سابقة ورصيد. لم يقل لنا أحد، ولن يقول لأنه ليس من مصلحة الفرقاء المتنازعين، وان كان من مصلحة السلام والحل الشامل الدائم ومن مصلحة الشعب القتيل. جمح بنا الخيال. * من أسرة "الحياة".