هو الإيطالي بينيتو موسوليني، الديكتاتور الأقل "شهرة" في أوروبا بعدما وضعته الحرب العالمية الثانية في ظل هتلر الذي احتل كل المساحة الإعلامية المتوافرة. يمتاز بكاريزما خاصة برزت في صوته الضخم وعينيه السوداوين الثاقبتين وقامته الساحقة لمن يقف بالقرب منه. وارتبطت مراحل حياته العامة بنساء كثيرات سيّرن مسيرته السياسية ورسمن خطوطها العريضة. وهي، كلارا بيتاتشي، البورجوازية السمراء التي وقفت إلى جانبه عندما بدأ نجمه يأفل، فلم تتركه وحمت حياته بجسدها... حتى النهاية. فلم يذكرها التاريخ سوى جثة هامدة شنقت من قدميها إلى جانبه بعدما رميا بالرصاص. مشاغب من صغره بينيتو موسوليني لم يكن ابن الطبقة الشعبية العاملة كما كان يحلو له أن يردد أمام الجماهير الكثيفة التي كانت تستمع إلى خطاباته، لا بل كان ابن أليساندرو الصحافي البورجوازي "الفقير" المثقف الذي يرتاد المقاهي في منطقة رومانيا الإيطالية المعروفة بغناها بالتراث الثوري على مر الأجيال. فتعرف صغيراً الى الأفكار والطروحات الثورية والاشتراكية والانقلابية التي كانت تتصادم من حوله. أما والدته فكانت روزا، المعلمة في مدرسة القرية حيث نشأ. وكانت تملك بعض المال الذي سمح لها بإرسال إبنها البكر بينيتو إلى أفضل المدارس بعدما سجن والده بفعل أفكاره الثورية. إلا أن بينيتو كان مشاغباً منذ صغره، فطرد من مدرسة تلو الأخرى، تارة لأنه ضرب زميلاً له، وطوراً لأنه سحب سكيناً عليه، ومراراً وتكراراً لأنه رفض الإنصياع الى النظام المدرسي الصارم. وقد تخرّج على رغم سوء تصرفاته أستاذاً علّم لبعض الوقت في مدرسة القرية، قبل أن يغادر في سن التاسعة عشرة إلى سويسرا حيث بقي لسنتين قبل أن يعود إلى وطنه الأم. نساء كثيرات وما من "امرأة" أما النساء فكن حاضرات في شكل مستمر في حياة موسوليني، عشقنه وأحببنه وحمينه من دون أن تكون واحدة منهن "المرأة" التي ملكت قلبه، بدءاً بوالدته التي كانت في فترة ما الأم والأب معاً، وانتقالاً إلى أنجيليكا بلابانوف التي استقبلته يافعاً في سويسرا حيث أمضى سنتين كانتا أساسيتين بالنسبة إلى تطوره السياسي والذهني والأدبي. هناك، أمسكت بيده هذه الأخيرة وأدخلته إلى الأوساط الاشتراكية الإيطالية في سويسرا. فجعلته يكتسب تربية أدبية وسياسية فتحت له أبواب مستقبله العام. وما لبث أن عاد إلى إيطاليا حيث بدأ حقاً مسيرته السياسية متحولاً صحافياً ثورياً. فتعرف إلى "امرأته" الثانية راشيلي غيدي، زوجته القروّية القوية والصبية الصغيرة ذات السنوات ال16 التي أغرم بها في سن السادسة والعشرين، فتزوّجها ومنحته أولاده الثلاثة، صبيين وابنة وحيدة. وبقيت تراقب "هفواته النسائية" عن بعد من دون أن تستطيع ردعه أو حتى الاحتجاج علناً على خيانته لها مرات ومرات. واستمرت الحارسة الأمينة على عهد قطعته على نفسها وبقيت وفيّة له حتى بعد مقتله، يوم لم يعد موجوداً ليحاسبها على أي خطوة تقوم بها. وانطلق موسوليني سياسياً بإشراف امرأة ثالثة مهّدت له أيضاً الطريق وصقلت ثقافته السياسية وهي مرغاريتا سرفاتّي، البورجوازية من البندقية التي أكملت عمل أنجيليكا وجعلت من بينيتو رئيس تحرير صحيفتين إيطاليتين رئيسيّتين. فأسهمت "تربيتها" السياسية في تحوّله أصغر رئيس حكومة في تاريخ إيطاليا، ومن ثم "إل دوتشي" الذي هتف له الملايين في إيطاليا، وبقي دائماً وحيداً وسط الجموع لأنه لم يثق أساساً بأحد باستثناء شقيقه أرنالدو. فحكم بيد من حديد ليسيطر على الجميع: ألغى النظام البرلماني، عدّل القوانين، أمر أساتذة الجامعات والمدارس بالولاء للنظام الفاشي، واختار شخصياً كل رؤساء تحرير الوسائل الإعلامية... عنيف وحسّاس في آن تبقى كلاريتا أو كلارا بيتاتشي المرأة الرابعة والأخيرة في حياة بينيتو، التقاها العام 1935 بعدما كان في قمة شهرته وقبيل بدء نجمه بالأفول بفعل ارتكابه أخطاء سياسية وحربية تكتيكية عدة... فبقيت إلى جانبه على رغم كل شيء وحتى النهاية، ساحقة النساء الباقيات بوجودها الذي دخل التاريخ بالقوة. وقد لعب شهر نيسان دوراً كبيراً في حياة كلاريتا التي تعرفت إلى "إل دوتشي" في هذا الشهر وكانت صبية صغيرة يبلغ فارق العمر بينهما 29 عاماً... وقتلت معه أيضاً في الشهر نفسه. هي كانت من "البورجوازية الإيطالية الصغيرة"، اي الطارئة على هذه الطبقة، وهو كان الديكتاتور الإيطالي العظيم الذي يرتجف الملايين لدى سماع صوته، والذي قرر إعادة عظمة الإمبراطورية الرومانية القديمة عبر غزو الدول المحيطة بها... فكان هذا خطأه السياسي والحربي الذي حدد بدء سقوطه. ولم يكن من السهل أبداً اكتساب ثقة "إل دوتشي"، الرجل القاسي والعنيف والحساس في آن... فكيف بلقب عشيقته وزوجته لا تزال حيّة ترزق وأولاده في عمرها تقريباً؟ وقد استلزم الأمر الكثير من الجهد والوقت لكلارا لتثبت لعشيقها أنها حقاً تقف إلى جانبه ولن تخذله، خصوصاً أن فارق العمر بينهما لم يكن أبداً لمصلحتهما. ومعه عاشت كلاريتا أجمل أيامها وأصعبها أيضاً في "مكتبه" في Palazzo Venezia في روما... بينما كانت زوجته وأولاده في فيلا تورلونيا على بعد مئات الأمتار. كانت تراقبه صباحاً عندما يصحو باكراً لممارسة هوايته في الفروسية. يمتطي صهوة جواده ويسابق الريح في الحديقة الكبيرة وكأنه يشعر للمرة الأولى بالحرية الحقيقية، أو يستمتع برياضة كرة المضرب التي كان خصص لها زاوية كبيرة إلى جانب المنزل. إلا أنها كانت تخشى ثورات غضبه الجامحة التي كانت تجتاح كل شيء في طريقه، خصوصاً أن شكه بالجميع، بمن فيهم هي، لا يقف عند أي حدود. فهو أهداها سيارة فيات "برلينيتا" Coupe سوداء على رغم علمه التام بأنها لا تحسن القيادة... ما اضطره لتعيين سائق لها ايضاً لتتمكن من القيام بتنقلاتها، التي كان يراقبها حتماً عن كثب. عائلتها استغلت عشقها وفي مقابل "المكانة" المميزة التي احتلتها كلارا في المجتمع الإيطالي، كونها عشيقة "إل دوتشي" الرسمية لعشر سنين، فقد أفادت عائلتها من هذا الوضع إلى اقصى الدرجات من حيث الميزات التي نتجت منه: هدايا، اراض، سيارات، شقق ومنازل، وظائف ووسائط ومكائد دبرها والدها... فلم يقف الجشع عند أي حد. ويذكر أن شقيقتها ماريا كانت تصبو إلى أن تكون ممثلة، فلم تتردد في توظيف علاقة كلارا مع موسوليني لتصل إلى مآربها مع المخرجين والمهتمين بالشؤون السينمائية في إيطاليا. وفي مقابل كل الذين افادوا من هذه العلاقة أيضاً هناك كثيرون فقدوا الحياة... أو كادوا بسببها، وعلى رأسهم الكاتب الإيطالي إيندرو مونتانيلي الذي سجن وحكم عليه بالإعدام بفعل مقال كتبه عن موسوليني وكلارا، فنجا بأعجوبة بعد 10 أشهر بعدما تمكن من الهرب من السجن. نهايتهما معاً ولما بدأ سقوط "إل دوتشي" المريع بعد فشل عملياته العسكرية التوسعية وقبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يجد سوى كلارا لتبقى معه، بعدما خانه كل رفاقه وصوّتوا ضده لإقالته من مسؤولياته وسجنه. فسجن موسوليني ثم هرب بمساعدة ألمانية في عملية جريئة جديرة بأفلام هوليوود... وعاد إلى شمال إيطاليا حيث أعلن من هناك قيام حكومة فاشية جديدة بحماية الجيش الألماني. وانتقم قتلاً من كل الذين خانوه، بمن فيهم صهره، زوج ابنته الذي كان وزير الخارجية في حكومته السابقة. وبقي محاصراً "كمن ينتظر نهايته، يعيش في الأحلام ولا يفكر سوى بالتاريخ"، كما قال أحد وزرائه الجدد. وكانت الحرب مستعرة من حوله، وجيوش الحلفاء تحطّم الدفاعات الألمانية في إيطاليا وتتقدم في اتجاهه فصدر القرار الإيطالي الرسمي بقتله. ورفض الاستماع إلى نصيحة ابنه البكر بعدما قتل الأصغر في الحرب بالهرب إلى خارج البلاد، متوقعاً أن ينقلب الوضع مجدداً لمصلحته. ولما اشتد الخناق حول عنقه، قرر الاتجاه إلى الجبال ليعبر الحدود ويهرب جواً إلى سويسرا مع كلارا التي رفضت التخلي عنه. فلم يجد سوى حفنة من الرجال ليرافقوه. وتنكر "إل دوتشي" بزي جندي ألماني وقاد سيارة الفيات التي أهداها لعشيقته، محاولاً عبور الحدود نحو النمسا، إلا أنه تم التعرف إليه وتوقيفه مع مرافقيه. وسنحت الفرصة لكلارا لتهرب، إلا أنها وقفت وحمت عشيقها بجسدها... فقتل الإثنان بالرصاص في 28 نيسان 1945. ثم تمّ جرّهما جثتين هامدتين في شوارع ميلانو قبل شنقهما رأساً على عقب، وتعليقهما من أقدامهما في ساحة لوريتو العامة في المدينة. هناك، شتما، بصق عليهما، ضربا بالقبضات، ركلا بقوة، رميا بفضلات الطعام... تعرضا لأفظع الإهانات قبل أن يدفنا في مكان سري. ولم تتمكن زوجة موسوليني من دفن جثة زوجها في مكان لائق إلا بعد سنوات عدة. ولم يأت التاريخ على ذكر جثة كلارا التي يفضل الإيطاليون أن يذكروها فقط بأنها الحبيبة التي رفضت التخلي عن عشيقها ودفعت حياتها ثمناً لحب مستحيل لديكتاتور ظنّ لوهلة أنه يملك العالم بأسره.