"دعتني نفسي لتأليف كتاب واف بما لمصر من قديم وحديث، متضمن لذكر مبانيها الدائرة والموجودة، وما يتبع ذلك من أخبار أربابها، وذكر نيلها ومنافعه وكيفية تصرفاته ومواضعه. لكني رأيت هذا المشروع صعب المسلك، لما يحتاج اليه من مراجعة كتب كثيرة في هذا الشأن، ومناظرة رسوم القديم والجديد من تلك الأزمان، وربما تعسّر الوجود أو تعذّر المقصود، كما انه محتاج لخلو بال وصلاح زمان، وأنى لي بذلك مع كثرة اشغالي، وتحمّل أعباء الوظائف المهمة في أزمان الحوادث التي أخلت بالراحة العمومية والخصوصية، مما يكدر الفكر ويحير العقل، فأخذت أحمل جهابذة العلوم ومن لهم القدرة على ذلك وأحثهم على وضع كتاب يفك لنا عقد تلك الصعوبات، ويفض ختام ما أودع في كتب الخطط من أخبار المتقدمين وآثار القرون السالفين، وأهل العصر الذي نحن فيه، وأبين ما لهذا المشروع الجليل من الفائدة في الدنيا، والثواب في العقبى، حتى كل فؤادي، وكأن لا حياة لمن أنادي! فلما لم يلتفت لهذا الأمر انسان، بل ربما عدّه بعض الجهلة ضرباً من الهذيان، قمت مشمراً عن ساعد الجد والاجتهاد، معتمداً من بيده الهداية الى سبيل الرشاد، منتهزاً لكل فرصة سنحت، مداوماً على استنباط الغرائب، وترتيب المقاصد، جامعاً من كتب العجم والعرب، ما يفضي بمتأمله الى العجب، مراجعاً كتب العرب والافرنج الذين ساحوا تلك الديار، ورسومهم التي بينوا فيها حدود الأقطار، وكذا حجج الأوقاف والأملاك، وما وجد مسطوراً على الأحجار والجدران، ملخصاً من ذلك ما يُحتاج اليه ولا يحسن جهله بحسب الإمكان، إذ ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولم أزل على ذلك مدة من الزمن، حارماً للعين في كثير من الأوقات لذيذ الوسن، حتى جاء بحمد الله مجموعاً يسر الناظر، ويشرح الخاطر. وهو وإن كان بالنسبة الى ما قصدت، ليس على ما أردت، لكن اخترت ان يكون ذلك مقدمة لمن يوافيه، فينتفع بما فيه". على هذا النحو، إذاً، قدم علي مبارك واحداً من أهم الكتب التي وضعها طوال حياته، الى جانب "روايته" الرائدة "علم الدين"، ونعني بذلك كتاب "الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة". وهو الكتاب الذي سار فيه مبارك على خطى "خطط المقريزي" ليكون أهم "كتاب وضع في اللغة العربية في مجاله" وبالتحديد منذ وضع المقريزي خططه، بحسب ما يرى محمد عمارة في تقديمه "للأعمال الكاملة" لعلي مبارك، التي أصدرها قبل أكثر من ربع قرن. ولئن كان محمد عمارة يقول في تقديمه لأعمال مبارك انه من غير المعروف الزمن الحقيقي الذي وضع فيه هذا المفكر/ المهندس كتابه، فإن الدكتور علي محمد بركات يقول، في عرضه للكتاب ضمن مجموعة "أهم مائة كتاب في مائة عام" الذي أصدرته "دار الهلال" ان "إعداد الخطط قد استغرق الفترة ما بين عامي 1872 و1888" حيث يلاحظ بركات ان علي مبارك "يقول عند حديثه في الخطط عن مدينة الاسكندرية" والآن أعني 1872 ميلادية، كما يذكر في نهاية ترجمته لحياته تاريخ تشكيل نظارة رياض الثانية 1888 ويقول: وجُعلت من رجال هذه النظارَة متقلداً أيضاً نظارة المعارف وها أنذا قائم بهذا الأمر...". ويضيف بركات ان مبارك لا يذكر بعد ذلك تاريخاً، ما يرجح ان الخطط كتبت بين هذين التاريخين. أنجز علي مبارك خططه هذه في عشرين جزءاً وهو بدأ الأجزاء التي يقر بأنه سار فيها على النهج الذي كان سار عليه سلفه العظيم المقريزي، بمجلد أول "جعلته خدمة له، لخصت فيه الكلام على محل القاهرة قبل قدوم جوهر القائد، وعلى ما حصل لها من الأحوال والتغيرات بتقلب الأزمان وتداول الدول من عهد الدولة الفاطمية وعلى بقية ملوك القاهرة الى الآن على الإجمال". وفي الأجزاء الستة الأولى من "الخطط" تحدث مبارك عن القاهرة وتاريخها وشوارعها ومساجدها ومدارسها وحدائقها ومستشفياتها. "فضلاً عن مظاهر النمو العمراني الذي وصلت اليه" في عهده، وذلك قبل أن يخصص الجزء السابع لمدينة الاسكندرية. أما الأجزاء الباقية وتحديداً من الثامن حتى السابع عشر فقد تحدث فيها عن بقية المدن والدساكر والقرى المصرية متوقفاً عند تاريخ كل منها وعند أعلامها، شارحاً أحوال الريف المصري بخاصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. أما الجزء الثامن عشر فقد كرسه للحديث عن نهر النيل ومقاييسه منذ أقدم العصور. ويستكمل ذلك في الجزء التاسع عشر بالحديث عن البرك والترع في شتى انحاء مصر، فيما كرس الجزء العشرين للحديث عن النقود والموازين المصرية في كل العصور. ومبارك نفسه يحدثنا عن اختياراته هذه قائلاً انه جعل للبلدان والقرى "مجلدات مخصوصة على ترتيب حروف المعجم تسهيلاً على الطالب، ثم شرحت مقياس النيل السعيد في مجلد واحد، وبسطت الكلام عليه، وأضفت المتجددات اليه، وأتيت فيه بالحوادث والكائنات من أول الزمان متتابعة يتلو بعضها بعضاً الى وقتنا هذا، وقصدت أتم الروايات فنقلتها عمن يعلم صدقهم في ما نقلوه وما دوَّنوه، وانه بذلك لجدير...". ويبرر مبارك، في الوقت نفسه، تركيز اهتمامه، في ستة أجزاء على الأقل، على القاهرة بقوله: "ولما كانت القاهرة هي الغرض الأصلي المقصود بالذات في هذا الموضوع لأنها أم البلاد المصرية، وتخت الحكومة الخديوية، ومنبع العلم والصنعة والتجارة، جعلت مبانيها الشهيرة، كما المساجد والمدارس ونحوها مرتبة على حروف الهجاء في مجلدات على حدتها، حتى أن من أراد الاطلاع على مسجد أو مدرسة، مثلاً، يسهل له الوقوف على ما أراد بعد معرفة اسمه". ويستطرد مبارك هنا قائلاً: "ولم أقتصر في ذلك على شرح الحالة الراهنة، بل أخذت ما وجدته في الخطط وغيرها من صفة الحال السابقة، رغبة في جمع ما تشتت من أحوالها، لوقوف الطالب على جميع صفاتها قديماً وحديثاً، ووضعت أيضاً لشوارعها مجلدين على ترتيب الحروف، وتكلمت على ملحقات كل شارع من دروب وحارات وعطف وأزقة مع ما فيها من المساجد والمدارس والأضرحة والأسبلة والحمامات والوكائل ونحو ذلك سابقاً ولاحقاً حتى صار هذان المجلدان عبارة عن خطط القاهرة في زماننا هذا...". أو في عبارات محمد عمارة "...وفي هذا الكتاب تتجلى، كذلك، متناثرة عناصر منهج علي مبارك في كتابة التاريخ وأهمية هذا الفن في التأريخ لحياة المجتمع ورصد المكونات الأساسية والقاعدة المادية التي لا بد من النظر فيها لأي باحث جاد يتصدى لدراسة الحياة الاجتماعية للبشر ويريد الوصول لتفسير الصراعات التي حفلت بها كتب التاريخ السياسي والديني والعام...". وعلي مبارك الذي يعتبره الأب لويس شيخو اليسوعي، في كتابه "تاريخ الآداب العربية" أحد أركان النهضة المصرية ولد من عائلة فقيرة في قرية برنبال من مديرية الدقهلية سنة 1823م. 1239ه فتقلبت به، بحسب شيخو، الأحوال الى ان توفق الى دخول مدرسة القصر العيني وأرسل الى باريس "فدرس فيها فن الحرب ثم ألحق بالجيش المصري وحضر حرب القريم سنة 1854". وبعد ذلك انتدبته الحكومة المصرية "لوكالات ونظارات ودواوين مختلفة أبدى في جميعها عن مقدرة عظيمة". ويواصل شيخو "ان علي مبارك خدم الآداب العربية بتنظيم مكاتب القاهرة والبنادر وإنشاء مدارس جديدة أخصها مدرسة دار العلوم وفتح المكتبة الخديوية وتولى نظارة المعارف فأجرى فيها اصلاحات مهمة". وفي آخر حياته اعتزل علي مبارك الأعمال الى سنة وفاته 1893م - 1311ه. ويقول شيخو ان علي مبارك له تآليف ذات شأن أجلّها "الخطط التوفيقية" التي حذا فيها حذو الخطط المقريزية. ومن أعماله الكبيرة الأخرى "نخبة الفكر في تدبير نيل مصر" وكتاب "الميزان في الأقيسة والأوزان". وكتاب "علم الدين"، الذي سبق ان قدمناه في هذه الزاوية قبل شهور والذي يصفه شيخو بأنه "في عدة أجزاء على طرز رواية أدبية عمرانية أودعها كثيراً من المعارف والفنون كالتاريخ والجغرافيا والهندسة والطبيعيات وغير ذلك مما قرب الى قرائه فهمه بمعرض شهيّ".