يتملَّك المفكر العربي قلق عميق ينطوي على احساس بالمرارة والمأسوية فيما هو يشاهد الاطفال الفلسطينيين يواجهون بأيديهم وأجسادهم العارية آلة الحرب الصهيونية المتغطرسة، او فيما هو يراقب من على شاشات التلفزيون الاستعدادات العسكرية الاميركية - البريطانية للاجهاز على العراق والسيطرة على اقتصاده وثرواته وقراره. ومع انه ليس معنياً بمستقبل الممسكين بالسلطة الفلسطينية وأمرائها او بمصير صدام حسين وأنداده من رموز الاستبداد العربي، لا يستطيع الا ان يرى في ما يجري على الساحة العربية ما يشبه الهزيمة الحضارية امام المشروع الصهيوني الذي حذر نجيب العازوري منذ اول القرن الماضي من التهديد المصيري الذي سيشكله بالنسبة الى العرب. كتب نجيب العازوري في "يقظة الأمة العربية" الصادر في باريس سنة 1905: "إن ظاهرتين مهمتين متعارضتين لم تجذبا انتباه احد حتى الآن، تتضحان في هذه الآونة في تركيا الآسيوية: اعني يقظة الامة العربية وجهد اليهود الخفي لاعادة تكوين مملكة اسرائىل القديمة على نطاق واسع. ومصير هاتين الحركتين هو ان تتصارعا باستمرار حتى تنتصر احداهما على الاخرى، وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع يتعلق مصير العالم بأجمعه". قرن كامل منذ تنبيه العازوري الى الآن جرى اهداره على كل المستويات، وواجه فيه العرب اسرائىل ببنية حضارية مأزومة من الاجتماع الى الاقتصاد الى السياسة الى الفكر. فطوال هذا القرن لم يتمكن العرب من بناء دولة العدل والكفاية الاقتصادية والاجتماعية والانسانية. وفي حين ظل الانتاج الاقتصادي قاصراً على مواكبة الثورة الانتاجية الحديثة، استمرت تبعية العرب للغرب على جميع الصعد بدءاً بالغذاء وانتهاء بالعلوم والتكنولوجيا والسلاح. وها هم بعد قرن على إعلان العازوري بدء المواجهة الحضارية المصيرية مع الصهيونية ينوؤون تحت اعباء ديون خارجية تقارب نصف دخلهم القومي الاجمالي الذي يبقى في مجموعه العام دون دخل دولة اوروبية متوسطة الحجم كاسبانيا. وفيما المجتمع العربي يرزح تحت الفقر والأمية تتبدد الثروات العربية في المصارف الغربية وعلى شراء اسلحة عقيمة وتكنولوجيا استهلاكية تستنزف الطاقات العربية من دون جدوى. ولم يتمكن العرب كذلك من المشاركة في انتاج العلم والحداثة انتاجاً متكافئاً مع الدولة الصهيونية التي تتفوق عليهم في الابحاث العلمية ب70 مرة وفي تسجيل الاختراعات بأكثر من ألف مرة، وتبلغ صادراتها من التقنيات العالية سبعة بلايين دولار سنوياً، بينما هناك اكثر من 70 مليون اميّ عربي ونصف مليون كفاية علمية عربية مهاجرة نتيجة الاحباط وانسداد الآفاق. ولم يتوصل العرب طوال قرن من المواجهة مع الصهيونية الى بناء "أمة" او "وطن" او حتى "مجتمع". فقد ظلت "الوحدة العربية" مشروعاً نخبوياً مستحيلاً راود اذهان بعض المثقفين والقادة، وظلت العصبية الوطنية التي قال بها مستنيرو النهضة العربية فكرة طوباوية، بينما الواقع على الارض تفتت قبلي وعشائري يمعن في ابعاد العرب اكثر فأكثر عن تحقيق الدولة القوية الواحدة. وطاول التفتت المجتمع فأمعن في تمزيقه طبقياً، إضافة الى العصبويات الكثيرة العاملة من داخله، حيث اشارت الدراسات الاقتصادية والاجتماعية الى تفاقم متواصل في الهوة الطبقية بين شرائح المجتمع العربي والى تناقض مستمر بين التقليد والحداثة وبين القيم السلفية والقيم التغريبية، ما حوّل المجتمع العربي الى مجتمع مفخخ بكل التناقضات المعوقة لتحوله الى مجتمع مدني. ولم يتمكن العرب من بناء الدولة المؤسسية الحديثة، دولة المواطنة وحقوق الانسان. لم يُعترف بالانسان العربي الفرد، الحر، البالغ سن الرشد فظل على الدوام محكوماً بمفهوم "الرعية". وفي هكذا علاقة بين "المواطن" المغيَّب و"الدولة"، ظلت القطيعة والعدائية والرفض المتبادل هي النمط الغالب على علاقة الدولة بالشعب، وكان ان بقيت الديموقراطية هدفاً مستحيلاً وانتهاك حقوق الانسان سمة مميزة في غياب الاعتراف بالمؤسسات المدنية والتداول السلمي للسلطة، ما جعل الدولة الانقلابية هي الشكل الغالب والمهيمن للسلطة في العالم العربي. في موازاة هذا التأزم في بناء الأمة او الوطن او الدولة لم يتمكن العرب على مدى قرن من المواجهة مع الصهيونية من ابداع خطاب سياسي عربي يواجه خطاب الصهيونية، فظل الفكر العربي على الدوام أسير صيغ ملتبسة للعالم قوامها الاقصاء والاستبعاد ورفض الآخر، ومآلها الدوران الى ما لا نهاية في كنف مسلمات وبداهات تكرر ذاتها، فيما الانسان العربي مغيب وراء كل الضوابط والقيود مكبل بكل ثقل التاريخ ووطأته. في ظل هذا الالتباس والضبابية في الفكر والرؤية سيطرت حال من اللاحسم على الفعل الايديولوجي العربي الذي لا يخرج من مأزق الا ليدخل في مأزق آخر. فلم يحسم أياً من الاشكاليات الرئىسية التي شكلت عناصر دائمة لصراع لا يهدأ إلا ليستمر من جديد. فلا سيطرة العقل وأولويته والاحتكام اليه اصبحت من الامور النهائية، ولا اشكالية الفصل بين السلطتين السياسية والدينية امكن الخروج فيها بموقف يوائم بين الدين والحداثة، ولا اسس القومية العربية جرى الاتفاق عليها، ولا العلاقة مع الآخر، التراث او الغرب، وضعت في اطارها الصحيح، ولا مفهوم الثقافة والمثقف اتفق على مضمونه ومعناه. وهكذا وصلت كل الخطابات القومية والعلمانية والاشتراكية والاصولية الى ابواب موصدة، فقد ظلت على تناقضها وتهافت اكثر مقولاتها، خطابات نخبوية لم تفلح في احداث تغيير ذي شأن في بنية الدولة او المجتمع. هل معنى هذا ان أوان المواجهة مع المشروع الصهيوني قد فات، ولم يبق امام العرب سوى الخيار بين الاستسلام او الانتحار؟ هذا ما لا نفكر فيه وما يجب ألا يطرح ابداً لأن طرحه انتحار ايديولوجي يُسقط كل البدائل ليبقي على خيار واحد هو خيار اليأس من الذات ومن التاريخ ومن المستقبل. لكننا نرى في المقابل ان أوان أدلجة المترفين قد فات، وانه لم يعد امام العرب اذا ارادوا مواجهة حقيقية ولو متأخرة مع الصهيونية الا ان يبادروا من دون ابطاء الى مراجعة نقدية شاملة وعاجلة، تطاول واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والايديولوجي من الجذور. مراجعة اشبه ما تكون بالصدمة الكهربائية تقوض كل الهشاشة والجمود والتخلف المستشري في صميم الأمة والمجتمع. مراجعة تكشف اسس الاستبداد والتسلط، تلك القائمة في العقل والفكر والمجتمع والتاريخ، وتضع الانسان العربي وجهاً لوجه امام مصيره، تقحمه في معركة بناء الذات والمجتمع والوطن والأمة وتحرره من قيوده وأغلاله وتبعيته. هكذا مراجعة هي نقطة البدء في اسقاط انظمة الاستبداد وانهاض المجتمع والاقتصاد والانسان، ومنها بالذات يبدأ بناء الانسان العربي الجديد والتاريخ العربي الجديد وتبدأ المواجهة الحقيقية مع الصهيونية. فهل تكون دماء الاطفال الفلسطينيين اعلاناً لهذا التاريخ وفداء له؟ * كاتب لبناني.