منذ ارتطام الفكر العربي بحركة الحداثة الى الآن، كان السؤال الاشكالي الاكثر ارباكاً: كيف السبيل الى تجاوز روح القرون الوسطى الاستبدادية وتأسيس مجتمع عربي ديموقراطي يتفق مع ديموقراطية العصر وتوجهاته الليبرالية؟ إزاء هذا السؤال، توجه الفكر الاصلاحي النهضوي الى تأصيل الحداثة في التراث من خلال توفيق قيم الحداثة وأفكارها مع المقولات التراثية باعتبارها الوجه الآخر للحداثة التي يمكن البناء عليها لتحديث المجتمعات العربية ومواجهة التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتمثلة في الغزو الاوروبي للعالم العربي. وهكذا زعم اصلاحيو النهضة العربية ان الشورى التراثية هي الديموقراطية في الفكر الحداثي وأن اصل الحل والعقد هم اعضاء المجالس النيابية وفق مفاهيم العصر السياسية ومؤسساته التمثيلية. وعلى هذا، فالتحول الديموقراطي ممكن من دون الخروج من ايديولوجيا التراث ومفاهيمه وأطروحاته. لكن الاصوليات المعاصرة منذ حركة الإخوان المسلمين مع حسن البنا عام 1928، وبعدها مع سيد قطب وشقيقه محمد، وضعت حداً لإمكانية التوفيق الاصلاحية النهضوية لمصلحة أحادية النص وهيمنته المطلقة، الامر الذي اسقط تصور التحول الديموقراطي، بالتوفيق بين التراث والحداثة على نحو يبقي على مقومات كل منهما وحضوره الايديولوجي. ولم يكن التصور الاشتراكي للتحول الديموقراطي اقل بؤساً من التصور التوفيقي، فقد دأب الاشتراكيون على اعتبار الديموقراطية البورجوازية الليبرالية، ديموقراطية مخادعة تخفي أشكالاً من الاستغلال الطبقي تحت لافتة الحرية السياسية، فيما هي تمعن في استباحة حقوق الفئات الفقيرة والكادحة في المجتمع. ومن هنا ذهب التصور الاشتراكي الى ان الديموقراطية الحقيقية هي من مهمات الطبقة العاملة، لا يمكن ان يضطلع بها سواها لأن هذه الطبقة هي وحدها صاحبة المصلحة في تحول المجتمع نحو الديموقراطية. في هذا السياق، يقول جورج حنا: «ان عالماً تحمي قوانينه استثمار الانسان للإنسان ولا تحمي الانسان من الفقر والجوع والمرض. ان عالماً هذا شأنه، من سفه القول ان يطلق عليه اسم العالم الحر». لكن الواقع خيّب ويخيّب اطروحات الاشتراكيين وتصوراتهم، فأنّى قيّض لهؤلاء ان يقيموا دولتهم استشرت التسلطية وساد الانتهاك الصارخ لحقوق الانسان. وتبرهن مذكرات الشيوعيين العرب بصدد الممارسات الداخلية لأحزابهم عن مدى التسلطية وعبادة الفرد في هذه الاحزاب وتعامل قياداتها الفوقي والديكتاتوري مع قواعدها وازدراء هذه القيادات بالمحازبين احتقارها لهم، حتى ان بعضها لم يتورع احياناً عن وصف هؤلاء ب «الحمير» وإهانتهم، فيما هي تتعامل معهم من عليائها. فضلاً عن ذلك، ليست في العالم العربي طبقة عاملة ذات وعي طبقي مميز يجعلها قادرة على الاضطلاع بإقامة الديموقراطية وحمايتها، فالتحول الديموقراطي العربي لا يمكن ان يكون إلا نتيجة نضال كل فئات المجتمع وطوائفه وجماعاته الطبقية والدينية والإثنية. واذا كان التصور الاشتراكي قد اناط دمقرطة المجتمع العربي بالدور الرسولي للطبقة العاملة، فإن ثمة تصوراً ثقافوياً اعتبر هذه المسألة من مهمات «المثقف» بصفته حامل لواء الاستنارة والدفاع عن التقدم والحق والحرية. ولكن لم يقل لنا اصحاب هذا التصور كيف سيستطيع المثقف تحويل المجتمعات العربية من الاستبداد الى الديموقراطية في ظل أمية كاسحة ورأي عام حسير وانتشار محدود جداً للمنشورات الثقافية؟ فكيف يمكن المثقف ان يفرض سلطته في معركة غير متكافئة مع قوى التسلط والاستبداد وبأية وسائل؟ في حين يفتقد عوامل القوة والتغيير وليس له من يؤازره ويقف الى جانبه؟ وثمة تصور للتحول الديموقراطي العربي يمكن وصفه ب «القومي». ففي هذا التصور ان امة عربية مجزأة لا يمكن ان تتقدم وتتحرر بل ستبقى مرتهنة الى الخارج الذي يمعن نهباً في ثرواتها وتقييداً لحرياتها بالتحالف مع القوى والمرجعيات الوطنية التي لها مصلحة في استمرار التجزئة القطرية. ان الانسان العربي وفق هذا التصور لا يمكن ان يكون حراً إلا في دولة الوحدة، إذ ان الديموقراطية مستحيلة خارج هذه الدولة وقبل قيامها الميمون. لكن التجارب الوحدوية العربية لم تفعل سوى إسقاط الديموقراطية والتمهيد للدولة التسلطية العربية التي مارست ضروباً موصوفة من التنكيل بالحرية وحقوق الانسان اعاقت اي امل في التقدم نحو مجتمع ديموقراطي عربي يراعي الحد الادنى من شروط العدالة السياسية او الاجتماعية، حتى ان بعض التصورات القومية ذهبت الى حد تبرير العنف لتحقيق الوحدة، الأمر الذي رأينا نتائجه الكارثية في غزو الكويت وفي الممارسات الدموية لصدام حسين والقذافي وسواهما. وفي الفكر الأيديولوجي العربي تصور ليبرالي تغريبي للتحول الديموقراطي يذهب الى حد الدعوة الى تبني قيم الغرب وأفكاره الليبرالية بالكامل، طالما ان هذا الغرب هو صاحب الريادة في مجال الحريات السياسية والاجتماعية والإنسانية. فمقولات الديموقراطية والعقلانية والتقدم والحداثة والأنسنة والعلمنة وحرية الفرد هي ثمرة التنوير الغربي، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها ويجب الافادة منها، في رأي علي حرب، في موازاة انسانيتنا التي تولد الفقر والتفاوت والاستبداد والنزاع والعنف والاختلاف الوحشي. وكان طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» عام 1938 قد رأى ان على العرب اذا ارادوا ان يمضوا قدماً في مواكبة العصر، ان يتصرفوا كما يتصرف الاوروبي وأن يقتدوا به من دون تردد او مراجعة. وكذلك ذهب ياسين الحافظ الى ان اخلاق الغربي وتحرره من التقاليد هي سبب تقدمه وفلاحه، وهذا ما يجب ان نقتبسه منه من دون ادنى مواربة. الا ان هذا التصور الليبرالي ما لبثت ان أسقطته عدوانية الغرب ومؤازرته الصهيونية، فضلاً عن استحالة تمثّل القيم الغربية بعقل عربي لما يتجاوز ثقافة القرون الوسطى وتقاليدها الاستبدادية. ويبقى التصور الذي ساد مرحلة ما سمي «الربيع العربي» الأخطر والأكثر التباساً وإثارة للقلق، فقد كان قوام هذا التصور ان تفكيك عرى الدولة والعبث بالستاتيكو التاريخي القائم بين مكوناتها الطائفية والإثنية والدينية يقودان الى الديموقراطية المرتجاة، لكن النتيجة المربكة والمأسوية كانت انهيار العقد الاجتماعي العتيد اياً تكن اسبابه ومبرراته وشرعيته، لمصلحة الفوضى وانفلات الصراعات السياسية والاجتماعية من كل الضوابط التي كانت تحكم توازناتها وتبقي ولو على الحد الادنى من الامن والاستقرار، الامر الذي وصفه بعضهم بحرب الكل على الكل، على ما جرى في لبنان وما هو جارٍ في ليبيا والعراق وسورية، مما يؤكد من دون ريب ان الفوضى ليست هي سبيل الديموقراطية وأن الحشد الطائفي او المذهبي او الإثني مآله الاشتباك مع حشد آخر مشابه وليس التأسيس لديموقراطية لا يمكن تصورها على أسس قبلية او طائفية او سوى ذلك من التكوينات ما دون الوطنية وما دون القومية. لقد أثبتت مآلات «الربيع العربي» البائسة وهم الرهان على ديموقراطية تنبعث من ركام الحروب الاهلية والصراعات القبلية والعصبوية، مؤكدة ان الديموقراطية والدولة الوطنية صنوان لا يمكن افتراقهما، فلا ديموقراطية خارج اطار الدولة الوطنية. وفي اعتقادنا انه آن الاوان لمواجهة رهاناتنا الايديولوجية بصدد التحول الديموقراطي العربي والكف عن الانزلاق الى تصورات عبثية تمعن في تعميق الشرخ بيننا وبين الانخراط في حركة عصرنا الليبرالية. فقد حصدنا كثيراً من الخيبات والمآسي نتيجة تلك التصورات الخائبة، ولم يعد من المعقول او المجدي الاستمرار في المراهنة عليها، في وقت باتت كلفة هذه المراهنة باهظة ومهلكة وتكاد تقضي على ما تبقى من امل في النهوض من جديد. آفة كل هذه التصورات في رأينا انها كانت دائماً على اختلافها وتناقض توجهاتها تنيط دمقرطة المجتمعات العربية بفئة محددة ذات دور رسولي، فيما الديموقراطية هي او يجب ان تكون قضية المجتمع ككل لأنها تعني كل فئة من فئاته وكل فرد من افراده ومستقبل هؤلاء جميعاً وليس فئة معينة او افراداً دون سواهم، ومن هنا يجب ان يتوجه العمل نحو المجتمع بكل مكوناته والبحث عن السبل الممكنة لتقويض دعائم الاستبداد من دون تصورات رسولية او اوهام مسبقة تبعدنا عن الديموقراطية المنشودة اكثر مما تقربنا منها. * كاتب لبناني.