يتوجه الاسرائيليون أواخر كانون الثاني يناير المقبل 2003، للمرة الثانية خلال أقل من عامين، الى صناديق الاقتراع لحسم خلافاتهم الحزبية والسياسية والايديولوجية وانتخاب اعضاء الكنيست السادسة عشرة. وعادة تكون الانتخابات الاسرائيلية مناسبة يحاسب فيها الشعب الاسرائيلي أطراف النظام السياسي على ما قدمه كل طرف وما قصر في تقديمه، وتتسابق الاحزاب الصهيونية اليسارية واليمينية، المتدينة والعلمانية، على اصوات الناخبين. ويجري التركيز على الفئات والجماعات المهمشة اجتماعياً. وتتذكر الاحزاب الصهيونية العرب اكثر الفئات تهميشا واضطهادا، وتتقرب منهم وتتودد لهم وتغدق عليهم الوعود بأمل كسب أصواتهم. وبينت التجربة ان الوعود التي تقدمها هذه الاحزاب للمتدينين والمستوطنين تتحول، في الغالب، الى التزامات ترصد لها موازنات كافية لتطوير مؤسساتهم وتعزيز صمودهم وبناء مزيد من المستوطنات في أرض الضفة والقطاع. اما وعودها للعرب في اسرائيل، بمختلف مللهم، فلا تختلف عن وعودة الاحزاب العربية لشعوبها إبان الانتخابات البرلمانية وتتبخر بسرعة ويتم القفز عنها فور اغلاق صناديق الاقتراع. ورغم ذلك، لا تزال نسبة ليست بسيطة من العرب تصوت للاحزاب الصهيونية لاعتبارات عائلية وطائفية وشخصية وتؤمن لها أربعة مقاعد في الكنيست. وأي تكن نتائج الانتخابات الجديدة، فالفلسطينيون يستخلصون من اضطرار الاسرائيليين الى الذهاب الى انتخابات مبكرة، ان انتفاضتهم، بعجرها وبجرها، زادت في اضطراب الاوضاع السياسية والامنية والاجتماعية التي دخلها المجتمع الاسرائيلي منذ المشاركة في عملية السلام في العام 1991. وان تبكير الانتخابات للمرة الخامسة في عشر سنوات، وتبدل ستة رؤساء وزراء "شامير ورابين وبيريز ونتانياهو وباراك وشارون" بين عام 1992 وعام 2002، يؤكد تدهور العلاقة بين أطراف النظام السياسي الاسرائيلي وعدم تخلصه من الأزمة التي دخلها بعد التوقيع على اتفاق اوسلو مع الفلسطينيين عام 1993، واتفاق وادي عربة مع الاردنيين عام 1994. واذا كان بن اليعيزر وبيريز ووزراء حزب العمل في حكومة شارون، تجاهلوا دور "الانتفاضة والمقاومة" في خروجهم الفجائي من حكومة شارون، واستخدموا "قصة الموازنة" وتمييز المستوطنين على حساب مدن التطوير والمتقاعدين في تغطية انسحابهم.. الخ فتدقيق خبراء المال في أزمة الموازنة الاسرائيلية يبين، لمن يريد ان يرى الحقيقة، ان تعطل عملية السلام وانفجار "الانتفاضة" وارتفاع النفقات الامنية، وفشل حكومة شارون في توفير الامن وفرض الاستسلام على الفلسطينيين، كانت سبباً رئيسياً في هذه الازمة وفي ركود الاقتصاد الاسرائيلي. ولا شك في ان وأد عملية السلام واستمرار الصراع العربي - الاسرائيلي يديم الأزمة ويعرض النظام السياسي في اسرائيل الى خضات فكرية وتنظيمية وتقلبات سياسية متواصلة. وبصرف النظر عن دوافع بن اليعيزر وبيريز في دخول حكومة وحدة وطنية مع ليكود، فخروجهما منها، بعد اقل من عشرين شهراً، جاء على خلفية مسائل شخصية لها ابعاد حزبية. وغادرها بيريز على مضض، ولم يقدم "فؤاد" استقالته من وزارة الدفاع عن طيب خاطر، بل أُكره عليها بعد ان طوق حبل المعارضة الحزبية عنقه وشد عليه بقوة. وتأكد بن اليعيزر وأنصاره ان استمرار التمسك بالوزارة يفقده طموحه في تجديد قيادته للحزب ويسقطه من رأس قائمة مرشحيه للانتخابات. وفي سياق التحضير للمعركة الجديدة وكسب أصوات الناخبين اسرعت الاحزاب والتجمعات السياسية الى فتح معارضها الانتخابية وسط أجواء ساخنة حذرة يشوبها توتر شديد. وجولة سريعة في بازار انتخابات هذا العام تبين للزائر ان جميع الاحزاب والكتل الانتخابية مشغولة، هذه الايام، في غربلة بضائعها الانتخابية السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وبإعادة ترتيبها بأمل لفت انظار الناخبين. وتسعى لعقد صفقات ثنائية وجماعية مشبوهة، وتستخدم كل الحيل لتسويق بضاعتها بسرعة خصوصاً ان فترة العرض هذه المرة قصيرة. ويشاهد المتجول في بداية الجولة صراعات المجتمع الاسرائيلي الحقيقية، التي قلما تظهر بوضوح في مناسبات اخرى، ويرى عمق انقسامه على نفسه عمودياً وافقياً حول قضايا عدة متنوعة منها: الصراع بين التدين والعلمانية، وتمايز اليهود السفارديم عن الاشكناز، وحرص اليهود الروس على تمييز انفسهم عن الآخرين. ويرى ايضاً صراع العمال مع ارباب العمل والفقراء ضد الاغنياء، وصراع انصار الانفصال عن الفلسطينيين ضد انصار "أرض اسرائيل التاريخية التي منحها الرب لبني اسرائيل". ويلاحظ وجود خلاف حقيقي حول السلام مع الفلسطينيين والعرب ومصير عرفات وسلطته والتوسع في الاستيطان. والمشهد الاجمالي لهذه الصراعات يخلق انطباعا لدى الزائر ان المجتمع الاسرائيلي لا يزال في طور التشكل والتكوين، وان 50 عاماً من عمر دولة اسرائيل لم تصهر اليهود الشرقيين والاوروبيين والروس والاميركان والاثيوبيين في بوتقة اجتماعية وثقافية واحدة، وان تواصل الهجرة يطيل أمد عملية الدمج. وبجانب هذه الانقسامات يرى المتجول ايضاً اجماع الاسرائيليين على ثلاث مسائل اساسية: حبهم "للشيكل" وحرصهم على انقاذه من التدهور، القلق من المستقبل والحرص على الامن والتوحد في مكافحة "الارهاب الفلسطيني" ومنحها اولوية، والمحافظة على التحالف الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة ومراعاة سياستها ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وبرغم كثرة الاحزاب والكتل المتنافسة وعدم اتمام فرز البضائع الانتخابية، الا ان المتجول في البازار يلاحظ اختفاء "حزب الطريق الثالث" عن المشاركة في هذا المعرض. ويرى بضائع كثيرة متشابهة ضد السلام مع العرب يعرضها حزب ليكود والاحزاب اليمينية، بشقيها العلماني والمتدين، جميعها مغلفة بشعارات براقة تستهوي المتطرفين والعنصريين الذين يشكلون نسبة مهمة في الرأي العام الاسرائيلي، تقول: إحذروا الدولة الفلسطينية، وحافظوا على وحدة أرض اسرائيل الكاملة التي وهبها الرب لبني اسرائيل. وصوتوا لمن مصمم على وأد عملية السلام وإلغاء الاتفاقات المدمرة لامن اسرائيل التي وقعها بيريز ورابين مع الفلسطينيين، ومصمم على تأديب السوريين واللبنانيين والايرانيين والعراقيين، وتدمير حزب الله وتحطيم مضخات المياه التي بدأت بسحب مياه نهر "الوزاني" التي أوجدها الله لسد حاجات شعبه المختار... وتضيف الاحزاب العنصرية والمتطرفة القديمة والجديدة، أمثال حزب "المفدال" و"اسرائيل بيتنا" وحزب "المرحوم" رحبعام زئيفي "تسومت" انتخبونا لتطفيش وتسفير الممكن من الفلسطينيين. الى ذلك، لا يستطيع المتجول في البازار التحقق، في هذا الوقت، من قيمة بضاعة حزب العمل المتعلقة بالسلام مع العرب، فهي لا تزال مخلوطة بانتظار فرزها بعد حسم الصراع الجاري حول زعامة الحزب. صحيح ان المتنافسين الثلاثة بن اليعيزر وميتسناع وحاييم رامون غلفوا بضائعهم بشعار انتخبونا من اجل توفير الامن لاسرائيل وصنع السلام مع العرب والفلسطينيين، والانفصال عنهم، إلا ان رائحة الغش والكذب المنبعثة من بضاعة "فؤاد" تصدم أنف المتجول، وتؤكد له انها لا تختلف عن بضاعة ليكود الاصلية. اما اقسام الاحزاب العربية في البازار فلا تزال شبه مقفلة، خاوية، مع الاسف، من المواد القادرة على جذب الجمهور العربي. ولم تبلور هذه الاحزاب اهدافها وشعاراتها، وبعضها يحاول فرض مصالحه الحزبية والشخصية الضيقة على الآخرين ويرفض الانضمام لقائمة عربية موحدة. وهناك بعض المرشحين ما زالوا يبحثون عن مواقع لهم في احزاب صهيونية ويروجون مواقفها. الى ذلك، يغادر المتجول البازار وهو على قناعة ان تنافس اطراف النظام السياسي الاسرائيلي على مقاعد الكنيست السادسة عشرة سيكون اقوى من المرات السابقة. وان كل الروادع الاخلاقية والانسانية والسياسية مرشحة للسقوط مع بدء حملات الدعاية الانتخابية. وان مشهد الالعاب الحزبية البهلوانية، الذي شاهده الاسرائيليون والفلسطينيون وجميع المهتمين بالانتخابات الاسرائيلية في الجولات السابقة، سوف يتكرر في بازار 2002 بصورة أكثر اثارة وتشويقاً. واذا كان من المبكر الحديث عن فائز وخاسر في انتخابات الكنيست السادسة عشرة الجديدة، ويصعب التعرف على رئيس الوزراء الاسرائيلي المقبل. فالمتجول في البازار ينهي جولته الاولى وهو على اتفاق مع قول أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى "مستقبل المنطقة مظلم وليس في نهاية النفق نور". ويشكل قناعة راسخة ان المجتمع الاسرائيلي غير ناضج للسلام مع العرب، وان اسرائيل تفتقد الى زعامة تاريخية قادرة على حل أزمة الديموقراطية الاسرائيلية في القرن الحادي والعشرين وتخليص دولة اسرائيل من سياستها التوسعية العنصرية ومعالجة معضلات تطبيع وجودها مع محيطها العربي. ويخطئ من يعتقد ان الادارة الاميركية راغبة في التحرك لتغيير هذا الاستخلاص، بل ان بعض أركانها يسعون لتكريسه باعتباره يساهم في تنفيذ توجهاته الجديدة التي بلورها بعد احداث 11 ايلول سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك. اعتقد ان هذه الصورة القاتمة لنتائج الانتخابات الاسرائيلية الجديدة تفرض على انصار السلام وبخاصة العرب والاسرائيليين زج ثقلهم فيها. فهي ليست شأناً اسرائيلياً داخلياً طالما انها تمس الآخرين وتؤثر في استقرار الشرق الاوسط. واذا تعذر تغيير نتائجها وتعطيل فوز قوى اليمين فيها، يمكن تخفيف وطأة الخسارة والخروج بنتائج تضمن عدم تكرار تجربة حكومة الاتحاد الوطني. والمساهمة في تنحية بن اليعيزر عن زعامة حزب العمل حلقة مركزية في تحقيق هذا الهدف. ولا شك ان توحد مرشحي الاحزاب العربية في اسرائيل في قائمة واحدة او قائمتين بالحد الاقصى، يساهم في تحقيق الهدف، ويعزز الصوت العربي في الكنيست، ويمكن اعضاء الكنيست العرب من خدمة مصالح اهلهم بصورة افضل. والناس في الضفة والقطاع يعتقدون ان رفع نسبة مشاركة العرب في هذه الانتخابات، وتجديد وتفعيل دعوة وليد جنبلاط، زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، ابناء الطائفة الدرزية في اسرائيل الى عدم التصويت للاحزاب اليمينية المتطرفة قد يقلص من معاناتهم ومن فرص اندفاع اليمين الاسرائيلي نحو اشعال حرائق تدمر مصالح شعوب المنطقة. كاتب فلسطيني.