سيتوجه الاسرائيليون، في 17 أيار مايو المقبل، الى صناديق الاقتراع لحسم خلافاتهم الحزبية والسياسية والايديولوجية. وفي العادة تكون الانتخابات مناسبة يحاسب فيها الشعب حكومته وقادة احزابه على ما قدمته وما قصرت في تقديمه. وتتسابق الاحزاب الصهيونية اليسارية واليمينية المتدينة والعلمانية الى اصوات الناخبين، بالتركيز على الفئات والجماعات المهمشة اجتماعياً، ومن ضمنها اصوات العرب في اسرائيل. فتتذكرهم وتتقرب منهم، تتذكر قضاياهم وتتودد اليهم وتغدق عليهم الوعود. الا ان معظم وعودها للعرب سرعان ما يتبخر ويتم القفز عنه فور اغلاق صناديق الاقتراع. اما وعودها للمتدينين والمستوطنين فتتحول التزامات ثابتة ترصد لها الموازنات اللازمة، لتوظف لاحقاً في تطوير مؤسساتهم، وتعزيز صمودهم وبناء مزيد من المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي تأمل سريع لظروف المعركة الانتخابية الجديدة، وللخارطة السياسية والحزبية الآخذة في التشكل، يبرز المخاض الصعب الذي يمر فيه المجتمع الاسرائيلي، بصراعاته وانقسامه على نفسه عمودياً وأفقياً حول قضايا عديدة ومتنوعة راهنة وتاريخية. من صراع بين التدين والعلمانية، الى الموقف من مسألة السلام مع الفلسطينيين وبقية الدول العربية، ومدى التجاوب مع سياسة الولاياتالمتحدة ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة، اما النظام السياسي بأحزابه اليسارية واليمينية والوسطية فيشهد خضات تنظيمية وتقلبات سياسية وهزات فكرية، وتنافساً بين اطرافه على مقاعد الكنيست ال 15 يقوى ويسخن ويشوبه توتر شديد. وتؤكد مقدمات المعركة حول رئاسة الوزراء انها ستكون شبيهة بحدتها بالانتخابات السابقة التي اطاحت بيريز عام 96 . فعدد المرشحين لهذا المنصب يزداد، وحركة تنقل المرشحين بين الاحزاب تنشط، بعدما قلصت عملية السلام على مسارها الفلسطيني والاتفاقات التي انبثقت عنها، الفوارق السياسية بين الاحزاب. وتظهر مراجعة شريط انتخابات الكنيست السابقة انها تميزت عن سواها بمؤشرات عديدة. فمن اجل كسب الصوت الانتخابي فتحت، في حينه، الاحزاب والكتل بازاراتها السياسية. عرضت سلعاً متنوعة وزاودت على بعضها بعضاً وتطرفت في مواقفها السياسية والاجتماعية والايديولوجية. وتحولت الحملات الانتخابية الى عملية تعرية وتجريح شخصي وردح سياسي، مورست فيها كل أنواع الاتهامات والشتائم السياسية والتنظيمية، واستخدمت فيها كل الأساليب المباحة ديموقراطياً وغير المباحة ايضاً. وفي سياق التحضير للمعركة الجديدة وكسب اصوات الناخبين بكّرت الاحزاب بفتح بازاراتها الانتخابية من جديد، وعرضت بضائعها السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية، ولم يتردد بعضها في الاقدام على التزييف، وقدم مواقفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية بصورة مجملة ومنمقة لتضليل الناخبين. وعرض البعض الآخر بضاعته الاصلية العتيقة، وقدم مواقفه المبنية على الاحلام التاريخية كما هي. وبدأت رائحة الرشاوى السياسية والمادية والفتاوى الدينية والمساومات غير المبدئية تسيطر على اجواء البازار ومحيطه. وشرعت قيادات الاحزاب الصهيونية الصغيرة والكبيرة في تخفيض اسعار بضائعها، وبدأت بتسويق مواقفها وبناء التكتلات الحزبية الداخلية، وعقد ما امكن من صفقات انتخابية، تقوم على تحالفات آنية بين احزاب ايديولوجياتها متنوعة وتوجهاتها الاجتماعية متناقضة ومواقفها السياسية متباينة. اما اقسام الاحزاب العربية في البازار فلا تزال شبه مقفلة، وخاوية من المواد القادرة على جذب الجمهور العربي. ولم تبلور اهدافها وشعاراتها، يحاول بعضها فرض مصالحه الضيقة على الآخرين ويرفض الانضمام الى قائمة عربية موحدة. وهناك مرشحون لا يزالون يبحثون عن مواقع لهم في احزاب صهيونية متطرفة ويروجون مواقفها. وإذا كانت كثرة الاحزاب المتنافسة تعسر على المتجول في البازار التوقف امام جميع صنوف البضاعة المعروضة، وتزج الباحث والقارئ في متاهات زواريب مصالح مختلف القوى الاجتماعية في اسرائيل، وتدخله في عملية ملاحقة بوليسية مضنية لصفقاته السرية والعلنية غير المبدئية التي يسعى الجميع لعقدها، فإن اللافتة الرئيسية المعلقة على كل قسم حزبي من اقسام البازار تقول "هدفنا خدمتكم بعد الفوز" في الانتخابات... ومن اجل تحقيق هذا الهدف يعرض حزب ليكود والاحزاب الدينية المتطرفة سلعاً متشابهة تستهوي المستوطنين والمتطرفين الذين لا يزالون يشكلون نسبة مهمة في صفوف الرأي العام الاسرائيلي. كلها مغلفة بشعارات: احذروا الدولة الفلسطينية في 4 أيار مايو 1999، وحافظوا على وحدة أرض اسرائيل الكاملة التي وهبها الرب لبني اسرائيل. وصوتوا لمن هو قادر على وأد عملية السلام مع العرب والفلسطينيين وتعطيل الاتفاقات المدمرة لأمن اسرائيل. وتضيف الاحزاب القومية المتطرفة القديمة والجديدة، حزب بني بيغن، وتسومت...، انتخبونا لالغاء كل الاتفاقات التي تم التوصل لها، وتطفيش الممكن من الفلسطينيين وتسفيرهم. ويستطيع كل مدقق في بضاعة حزب العمل المعروضة للناخبين في عهد رئيسه باراك، اكتشاف تشابه الرئيسي منها مع بضاعة ليكود الاصلية القديمة والجديدة المجملة. فالمعروف بشأن حل مسألة القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين والنازحين، والأمن الخارجي، وحدود دولة اسرائيل، واستغلال مياه الضفة الغربية، لا يختلف كثيراً عن مواقف ليكود والمتدينين المتشددين. ولم تحدد قيادته حتى الآن موقفاً رسمياً من مسألة حق تقرير المصير وقيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع بعد انتهاء المرحلة الانتقالية في 4 أيار المقبل. وتسعى الى ضم اراض فلسطينية، ولم تعرض خرائطها النهائية لحدود دولة اسرائيل. اما التباين الحاصل بين حزب العمل والاحزاب اليمينية الاخرى بشأن الاستيطان فليس مبدئياً ولا يطال جوهره. كلهم يؤمنون بضرورات وجوده. حزب العمل يريده ويسعى الى تطويره لاعتبارات امنية، ويرضى بأمن يكون مجمعاً في كتل استيطانية كبيرة يسهل ضمها لاسرائيل، وقادرة على تمزيق وحدة الضفة الغربية الجغرافية وفصلها عن القطاع، والآخرون يريدونه مبعثراً وموسعاً لاعتبارات ايديولوجية اضافة للأمنية. اما بشأن الانسحاب من الجولان وجنوبلبنان فيسجل لرابين انه فرض قبل وفاته على الحزب موقفاً لا يروق لباراك، خلاصته الانسحاب الكامل مقابل ترتيبات دائمة تضمن اسرائيل. اما حزب الوسط الذي يسعى الجنرال السابق شاحاك لتشكيله، فلا يزال جناحه في البازار شبه مقفل، ولم يحدد رئيسه بعد مواقف نهائية من القضايا الاجتماعية والاقتصادية. ورغم غموض البرنامج الانتخابي لهذا الحزب الجديد، فإن الأخذ بالحكمة العربية الشعبية القائلة "المكتوب يقرأ من عنوانه" يساعد في التعرف المبكر الى مواقفه السياسية الأساسية، وتوجهاته ازاء القضايا المطروحة على اجندة المفاوضات العربية - الاسرائيلية. إذ ان دعوته الاسرائيليين للانضمام الى حزب وسط جديد سيئة وتضعف مواقف قوى اليسار، وتعزز فرص اليمين لكسب الانتخابات. وقوله بأنه "لم ينضم الى حزب العمل لئلا يعتبر من اليسار" هو من قبيل ان الشر لا يبشر بالخير، بل يبعث الريبة والشك حول توجهاته السياسية وبرنامجه السلمي. ذلك ان حرصه على تمييز نفسه عن اليسار وعدم ممانعته انضمام رموز من اليمين لحزبه، من امثال ليفنات ودان ميريدور وموردخاي، مؤشرات على نياته في اعطاء الأولوية لكسب الممكن من اصوات يمين الوسط ويسار اليمين، ويقوده حتماً الى اتخاذ مواقف على يمين حزب العمل، او قريبة منها في احسن الأحوال. وكأنه لم يستخلص العبر من سقوط بيريز في الانتخابات الاخيرة نتيجة تودده لليمين وتردده في اتخاذ مواقف حاسمة من اطروحاتهم الايديولوجية والسياسية. صحيح ان تجربة الجنرال شاحاك، إبان المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية التي قادها في طابا بعد اتفاق اوسلو، بينت انه رجل عملي يؤمن بضرورة صنع السلام مع العرب من حيث المبدأ، كما ان تجربته العسكرية العريقة اقنعته بأن الحروب لا تحقق السلام ، ثم انه أظهر تفهماً لعدد من مطالب الفلسطينيين التفصيلية، الا ان التجربة ذاتها اكدت ان موقفه من مسألة امن اسرائيل ومن الاستيطان والمعتقلين لا تختلف عن مواقف باراك، وتتناقض مع متطلبات صنع سلام دائم مع الفلسطينيين. وجدير بالتذكير أنهما باراك وشاحاك صاحبا نظرية تقسيم أراضي الضفة والقطاع الى مناطق C A B، وقد ضغطا في عهد رابين لابطاء الانسحابات وربطها باختبار مدى تجاوب الفلسطينيين مع متطلبات امن اسرائيل. وإذا كان من المبكر الحديث عن فائز وخاسر في انتخابات الكنيست الخامسة عشرة الجديدة، فإن الناخب الاسرائيلي يدرك سلفاً طبيعة الاستحقاقات السياسية المطلوبة من الحكومة الاسرائيلية ويعرف ما سيترتب على فوز اي من الاتجاهات الثلاث - اليسار والوسط واليمين - ازاء القضايا الداخلية وفي العلاقات الدولية ومع الجيران. والواضح انه سيدلي بصوته على أساس سياسي في الأساس. إذ ان الذهاب الى انتخابات مبكرة كان لأسباب سياسية، ابرزها حسم الموقف الاسرائيلي من مسألة صنع السلام مع العرب والفلسطينيين، والموقف من قيام دولة فلسطينية بجانب دولة اسرائيل، ومن قضايا الحل النهائي المطروحة على جدول المفاوضات مع الفلسطينيين، وتحديد سقف الانسحاب النهائي من الضفة الغربية، وسقف بقية الاستحقاقات الاسرائيلية الاخرى التي لا بد من دفعها ثمناً لاستئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، وتأمين انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوبلبنان سلمياً. وإذا كانت الانتخابات البرلمانية الجديدة ستقرر بصورة أو بأخرى مستقبل الحياة السياسية في اسرائيل ومستقبل السلام لعدة سنوات، فعلى انصار السلام وضع ثقلهم فيها لمصلحة القوى المؤمنة به، وأشد المعارضين لعملية السلام لا يمكنهم انكار انها والاتفاقات التي انبثقت عنها كانت سبباً رئيسياً في تفجير الصراعات السياسية وتوليد الانقسامات الحزبية الأميبية التي تعيشها الاحزاب الصهيونية. اما المتجول في البازار فلا بد ان ينهي جولته وهو مقتنع تماماً بأن قرار اسرائيل التوجه الى صناديق الاقتراع جمد عملية السلام على مسارها الفلسطيني وأعادها الى الثلاجة بعد خروجها منها فترة قصيرة قبل اتفاق واي ريفر وبعده، كذلك جمد تنفيذ بقية ذاك الاتفاق الى اشعار آخر، وفرض على المفاوضين الفلسطينيين والاسرائيليين اجازة قسرية مدتها ستة اشهر على الأقل. ويخطئ من يعتقد ان الادارة الاميركية قادرة على تغيير هذا الاستخلاص، فحركتها على طريق صنع السلام مع العرب صارت اقرب الى حركة البطة العرجاء. * كاتب سياسي فلسطيني.