تتجه الشاعرة اللبنانية الشابة سوزان عليوان، الى أحداث مسافة تغيّر بين كتابيها السابقين، وكتابها الصادر حديثاً "مصباح كفيف". بيروت 2002. إذ أن الاختلاف بين "مصباح كفيف" وسابِقَيه يبدو جلياً، وليس بالضرورة لمصلحة الكتاب الأخير، لأن ثمة ما تخلّت عنه عليوان في الكتاب الصادر حديثاً. قوّة المعيارية قد تؤثّر في تلقائية الفعل الشعري. تصل المعيارية الى "التحرش" بسكنية الكتابة، ومن شأن هذا التشويش العقلي على لا معقول الكتابة، أن يُحدث خطأً في التنسيق فيُرمى بالضروري ويحتفظ بالهامشي! الشيء الثابت في الكتب الثلاثة هو مقدرة الشاعرة الواضحة على الاعتناء بالصوغ عبر ميل الى الاختصار والتكثيف. هذا لجهة اللغة، أما بالنسبة لقولها الشعري فإنها بقيت في اطار من الإلماح الشفاف الذي لا يكتنفه ادّعاء الأنا، بل على العكس، نجد مزاجاً من اللاّسواء يجمع توتراً مضمراً بين انجراح نرجسي للأنا يخلّف رفضاً لقطاع الآخر: "ما عادت لي رغبة في أرض" مصباح كفيف و"كلّ حُجرة زنزانة/ كلّ آخر جسر الى الذات" ما من يد... و"من أين نبدأ/ في مثل هذا الخواء الشاسع/ والى أي هاوية سيقودنا الأسف؟" شمس مؤقتة. بقيت الكتب الثلاثة محافظةً على محورين اثنين: صوغ التكثيف ومزاج اللاّسواء في علاقة الأنا الشاعرة بالعالم. فما هي مسافة التغيّر الحاصلة بين "مصباح كفيف" من جهة، و"شمس مؤقتة" و"ما من يد" من جهة أخرى؟ على رغم ان "مصباح كفيف" يتصدّره غلاف يحيل الى رسوم الأطفال، كما أشارت الشاعرة ذاتها الى ان صاحبة الغلاف "طفلة مصابة بالسرطان، عمرها ثماني سنوات"، فإن هذا لم يكن أكثر من قلْب للأدوار نجحت فيه "الطفلة" برسم الغلاف، لكن "رشداً" ميَّز المكتوب مرتهناً لضغط المعيارية النقدية، دفعه عليوان الى التخلّي عن أمور عدّة، منها عفوية العلاقة بين المفردات المنتجة للمعنى والصور، إذ بدت في "مصباح كفيف" وكأن ثمرةً قد سُلبت ماؤها: "لكِ، غبار هذا الجسد/ لرذاذك المرعوب من تدفقه/ أفتح كفّي/ كدفّتي كتاب/ مثل عينين وأتهاوى". أو هنا حيث المغالاة برفض العفوية: "أفترض فضاءً وأدخل/ أدخل احتمال المكان" وهنا: "لنفترض أنها نافذةٌ/ من خشب محفور/ وعصافير زجاج" "لنفترض/ أنها جذور/ هذه الأسلاك الممتدة/ من قلب الآلة"، "لنفترض بيتاً سقفه الخلاء" وسوى ذلك. مع العلم أن "مصباح كفيف" استخدمت فيه تقنية الكومبيوتر وإشاراته، وربما هذا كان سبباً في "الجفاف" الذي نلاحظه في الجُمل، لكنه لا يعفي من الإحساس بقسوة الصناعة. "المصباح الكفيف" تخلّى عن جماليات "ما من يد" و"شمس مؤقتة"، فهذان الكتابان يظهران كيفية المزج الذكي بين المعيار والتجربة الشخصية. ما حصل في "مصباح كفيف" هو نوعٌ من التراجع في استخدام ضمير المتكلم ليحلّ محلّه النقل بالوساطة، فالشمس هي جارحة، والليل هو ينهش لحم النجوم. والأطفال هم يكنسون الشارع. وبابه هو يبتسم. أي نزولاً عندما أقرّته بالضبط: "سأغادر الأشياء وأشباحها الى حيث لا ظلال" أو ما يحقق للأنا الشعرية لذتها "أن أقيم خارج المكان" وهذا ما حصل وأحدث مسافة التغير المشار اليها، حيث تضاءلت فعالية الشيء، أو حضوره، ليحلّ محله استخدام الأفعال والأسماء والصفات، عبر ضغط استخدام تقنية الكومبيوتر، في الإشارة، وعقلية الانتاج. قيمة أسلوبية تُظهر في "ما من يد" حيث تتسع المسافة، في المتن، من علاقة ترتيب الأسطر، بعضها ببعض، لنتحصَّل على امكانية تأويل عليا، يحميها توتّر أو لا معقولية تسيطر على التنامي. هذه الأسلوبية تضمحلّ وتختفي في "مصباح كفيف" ليتم فيه استبدال ضمائر المتكلّم بالغائب، والصفات بالأسماء، والتنامي بالقطع، والعفوية بالصناعة. وكما أسلفنا، قد تعمل المعيارية على منع التعبير العفوي، ويتقوّى الارتباك من المعيار المتسرّب الى الكلام نفسه. هذه المعيارية عندما امتزجت بحرية الصوت الشعري رأينا كيف أنتجت عالماً ومزاجاً من الشعر والطرافة والاستعارة في "ما من يد"، وكيف انحسرت الحساسية الشعرية في مقابل الظلّ الثقيل للمعيار في "مصباح كفيف"، وفي عودة "المصباح" الى "اليد" أو الى "الشمس" فضيلة شعرية، على خلفية "والعَودُ أحمدُ"!