قبل اكثر من ربع قرن قوض نظام البعث الحاكم في بغداد التوجهات والتدابير التي اتخذها رئيس الوزراء آنذاك عبدالرحمن البزاز. ويسجل للبزاز انه احدث في الجو السياسي نقلة نفسية بالغة الاثر على رغم قصر فترة حكمه، ففيها صارت المناقشات عامة وعلنية، ولم يتمكن حتى الرئيس السابق عبدالسلام عارف من زحزحته عن مواصلة الدعوة الى حكومة تمثيلية تكون غالبيتها من المدنيين، فاستاء الضباط وقيادات التيارات السياسية منه منذ ايامه الأولى. واجه البزاز، الذي قدر لحكومته ان تدوم من 30 ايلول سبتمبر 1965 الى 6 آب اغسطس 1966، من اليوم الأول لتوليه رئاسة الوزراء الاتفاق العفوي بين العسكريين والقوميين والشيوعيين والبعثيين للتخلص من التوجهات الديموقراطية للرئيس المدني البزاز. هذا الاتفاق لم يصنع ذوبان الجليد بين القوى المتصارعة، انما هو عامل اسقاط المعارضة الاصلاحية من معادلة الصراع القائم منذ ثورة 14 تموز يوليو 1958، اذ ان التجربة اكدت ان الضباب الذي كان يلف رؤية القوميين والماركسيين لأصل الصراع والقضية العراقية يومذاك لم يعفهم عن التبصر في سياسة البزاز الواقعية والعقلانية فحسب، وانما صمموا على اسقاط حكومته مضيعين على البلاد فرصة انقاذها من الفوضى. وظهرت هذه التيارات وكأنها ترغب في بقاء الدولة عاجزة عن بلورة رؤية لحل أزمة العراق، لأن النضال، حسب ما يعتقد السياسيون، لا يتصاعد الا في اجواء الازمة، ونأخذ على هذه التيارات انه يطيب لها العيش في ظلام الاوكار السرية. ففيها برزت مقولة "ان شن كفاح حازم لا هوادة فيه ضد العناصر الانتهازية، وتطهير الحركة الثورية منهم، هو شرط للكفاح ضد الاستعمار واذنابه"، وشمل مفهوم الانتهازية كل الدعاة الى الاصلاحية بدلاً من الثورية. وعلى هذا الاساس نفذت التيارات "الثورية" حكمها التعسفي بالبزاز ومشروعه الاصلاحي لتخرج من معركة افشال الاصلاح منتصرة لأنها طهرت المناخ السياسي من الانحرافات اليمينية الاصلاحية. وبالنسبة للجو السياسي العام فان هناك اكثر من دليل على ان شيئاً ما جرى تحت السطح ترك الجو السياسي يشهد تدهوراً شاملاً، لكن الادلة تشير الى ان هذا الجو فاقم منه تصاعد اتهامات خطيرة للشيوعيين حول دعم السوفيات لهم، اذ ارتضى هذا الطرف، انطلاقاً من حسابات سياسية في صراعه مع القوميين على النفوذ، ان يكون حصان طروادة الاتحاد السوفياتي لتنفيذ رغباته، في حين كان الشغل الشاغل للقوميين هو الوقوف مع عبدالناصر في مواقفه وسياسته، لكنهم وجدوا انفسهم، بعد حين، امام سياسات لا تعير اهتماماً للتوازنات الداخلية والاجتماعية، وما يثير اختلالها من مضاعفات على الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي. وهكذا انتهجت التيارات على مختلف تلاوينها سياسات أدت الى اسقاط أول تجربة مدنية في العراق بعد ثورة 14 تموز 1958، والتمهيد الى وصول البعث ثانية الى الحكم في 17 تموز 1968. وتؤكد هذه المواقف ان غياب العقلانية في الحياة الحزبية والسياسية في العراق ليس ناجماً عن الفصم التام بين الحاكم من جهة وبين الشعب من جهة ثانية، وانما هي نتاج عمليتين مزدوجتين: عملية التشكيل الذي اورثها كثيراً من الافكار والارتباطات وانماط السلوك التقليدية. وعملية توظيف عصبيات طائفية وقبلية استعارت من الخارج وسائل مستحدثة للفكر ومناهج العمل تهدف الى تعزيز موقع التيار السياسي في الصراع على السلطة، وان التيارات العراقية وظفت العصبيات في معارك تصفية الحسابات مع الخصوم واشاعة التوتر في المجتمع وفق منطق السياسة المتسترة على المصالح الحزبية. وثبت ان هذا المنطق لا يجد حضوره الا بالغاء الرأي الآخر، والحط من قيمته ودوره، ومعاقبة اصحابه. ولو تأملنا اكثر في الحياة الحزبية لوجدنا ان الجميع كانوا يتخوفون من قيام نظام مدني، فالمدنية تفسح المجال للمتمدن ان يقول ما يشاء أو يبدع ما يهوى، اما بين البدائيين والمتأخرين فالمجدد ممقوت وكل ما يبتدع شيئاً لم يعهدوه من قبل قابلوه بالانكار والاستهزاء أو الادانة، وهكذا تعاملت هذه القوى مع البزاز عندما قامت بسلخ جلده بضربات التخوين والاتهام الباطل. وبالنسبة للناحية الفكرية اصطدمت وبشدة الدعوة الى حياة دستورية، والسماح بحرية الاحزاب، مع فكرة الحزب الطليعي اللينيني وفكرة الاتحاد الاشتراكي العربي الناصرية. وعدم الحرص على تعديل الجو العام الذي يقوم على الارتياب والشك دفع الى اشتداد التوتر بين الجماعات المتطرفة وبين الجماعات المعتدلة حول السياسة الواجب اتباعها تجاه استعادة الحياة المدنية. كما أسهمت في تصعيد الصراع الشخصي، وتعزيز نزعة التفرد والاستبداد، وافرزت قائمة طويلة من الارتداد والانشقاق والتكتل. والخلاصة ان البزار كان واعياً لضرورة الاصلاح والتخلص من القبضة الحديد للعسكريين في السلطة، ونقل النشاط السياسي الى العلن، مع السماح بوجود الكتل وحريتها في اقامة المراكز واصدار الصحف. وسيعني هذا تطوير نظام 14 تموز ليسوده دستور يصون الحريات العامة والحقوق والعدالة الاجتماعية، اي اصلاحات في بنية السلطة وبناء الدولة، وبناء الدولة على أسس انهاء التمييز والديموقراطية واللامركزية والحكم الذاتي للاكراد وسيادة القانون. ولكنه واجه قوى كانت تنهج سياسة مبنية على المنفعة التي يتبينها العقل السياسي الحزبي الذي لم يتغير منذ بداية انطلاقه في مطلع العشرينات. والظاهر ان العقل السياسي العراقي مسكون بالحزن والتعصب، وطافح بالانقسام والانكسار، وسابح بالاوهام والخزعبلات. وأوضح من مراجعة الاحداث التي قادت الى تحول العراق الى مسرح للاقتتال والجوع في ظل دولة الحزب القائد ان مسؤولية القيادات السياسية عما وقع بعد 14 تموز 1958 مسؤولية كاملة وناجزة على رغم كل محاولات البعض لتبرئة الذات في كل ما يخص التدهور الشامل في العراق. ولو ان كل القوى الوطنية الحقيقية، التزمت بعودة الحياة الدستورية المدنية التي اجهضت بالحكومات التي تعاقبت بعد ثورة 14 تموز 1958، ولو فقد الجميع ذاكرة العنف، وأعطوا البزاز فرصة لتأهيل الوضع العراقي سياسياً واجتماعياً، لقام عراق دستوري جديد، ولسد الطريق على البعث ومنعه من ان يقترب من السلطة ثانية، ولجنب العراق ان يشهد دكتاتورية البعث المتوحشة التي استطاعت ان تحول المعارضة الى مجرد رد فعل من الخارج. ففي 17 تموز 1968 لم يوجه البعثيون الضربة الى الحال الجديدة التي خلفتها اجراءات البزاز وتدابيره، لكن الى الآمال في انتقال البلاد الى حياة مستقرة في بلد النزاع بين الجيش وديكتاتورية الاحزاب الثورية بدافع من الضحالة وضيق الأفق والتعصب الاعمى والخيال الطائش، فالايغال في هذا كله هو الذي وضعهم والبلاد في طريق البعث التدميري. والواقع انه عبر ربع هذا القرن العصيب دخل نظام البعث صراعاً حاداً على الحكم المطلق مع قوى معارضة في الشارع والجيش. هذا النوع من الصراع، ليس مصادفة عارضة أو اغفالاً متعمداً لمشكلة الانقسامات العرقية والطائفية والسياسية، أو مؤامرة مدبرة، انما هو ينبع من حقيقتين: الأولى ان نظام البعث لم يكن يؤمن بأن من حق المواطنين جميعاً المشاركة في الحكم والوصول الى السلطة التشريعية وممارسة الانتقاد والرقابة والمسائلة، وانما اراد ان تخضع الدولة والمجتمع المركزية الشديدة حين قام باعتماد القمع والتصفية والابادة ومحاربة المشكلة الاجتماعية والسوسيولوجية بالقهر والاكراه كوسيلة لتطبيق مشروع "الشرعية الثورية". وبعد ان كان البعث يدعو الى الثقافة العربية والتقدمية يعاود الى الكثير من الخزعبلات التي لا علاقة لها بالثقافة والتاريخ، بعد ان غير صدام حسين ماهية الثقافة "الوطنية" الى تكريس جذور الانتقام بين العراقيين واتخذت، على مدى سنوات حكمه، سياسة يومية قائمة على استئصال الرأي الآخر بالبطش والتنكيل الذي فاضت وحشيته على السكان في مختلف انتماءاتهم القومية أو الطائفية أو السياسية، وأوصلت الجميع الى خطر الحرب الأهلية المدمرة التي، اذا ما اندلعت، ستأتي على ما تبقى من العراق. الثانية: ان الاحزاب والحركات المعارضة اصيبت بالتراجع بالمقارنة مع ما حققته الاحزاب والمنظمات الماركسية في نهاية الخمسينات، وخلال السبعينات من انتشار، وما استقطبته من تأييد الكادحين، وبدت احزاب المعارضة بعيدة عن تحقيق هدف الوصول الى السلطة وتوجيهها على النحو الذي يخدم اهدافها، خصوصاً بعد الضربات العنيفة التي وجهت الى أقوى الاحزاب الوطنية الدعوة الاسلامية، والشيوعي. ان قبول هذه القوى بالانابة الخارجية، بعد غزو الكويت، لم يكن ليتحقق لولا فشلها وعجزها عن تقديم الحلول وافراطها في تعليق الآمال على ان الولاياتالمتحدة ستأتي وتزيح البعث من الحكم وتشكل حكومة مؤلفة من اطراف في هذه المعارضة بذريعة ان هذه الحكومة ستكون أقل شراً من صدام حسين، بينما تقوم الاذاعات المتحالفة وصحفها بالاتصال بقادة تنظيمات عراقية، التي لم تزل كلها خارج العراق، للاسترشاد بهم واستخدامهم لخدع الناس ولتنفيذ اغراضها الحربية والسياسية. فاذا بدأت القوات الاميركية تحتشد في البر والجو والبحر، يجري تجريب كل ما يمكن تجريبه على أمل ان يأتي باسقاط صدام حسين. وتظهر هذه الاحزاب جميعها باسلامييها وقومييها ويسارييها ترغب بالمجازفة والتضحية بتراثها الفكري والنضالي، ويبرز في ادبياتها مصطلحان في وقت واحد، احدهما الديموقراطية، والآخر المجتمع الدولي. والمصطلحان يراد منهما خطوة متقدمة، وقطيعة عما سبقها من الشعارات السياسية والافكار السياسية. الآن اذ ينظر احدنا الى الآثار المترتبة على هجر الماضي لا يجد تجارب أو هياكل متكاملة، انما يجد ابرز ملامح النشاط المعارض هذه الايام هي تكريس القوى اهتماماً اكبر في خطابها المثخن والغليظ على التنصل من الماضي المناوئ للغرب، وعاودت قوى منها الى التشهير واقتراض الاشياء اما خير واما شر مستعينة بتراثها الطفولي. واعتبرت ان حتى النقد لاستمرار الحصار التجويعي وللاوضاع الدولية والاقليمية السائدة سيؤدي الى احراج الولاياتالمتحدة واسعاد صدام حسين. والحق ان الرهان على الاجنبي، من حيث هو العجز عن ايجاد حل وطني للقضية العراقية ليس مطلباً خاصاً بجماعة المؤتمر الوطني، فجميعها شحنت جمهورها بدرجة عالية في ان ازالة صدام وتغيير حكومته وحزبه باتت في عداد الخطط المؤكدة والسريعة للاميركان.... لكن الانكى من ذلك، والأشد وقعاً على النفس بأن الجماعات والشخصيات التي تراهن على الحل الاميركي والدعم الاميركي وسيلة لاسقاط نظام صدام اختلفت في ما بينها، لا لشيء الا لتحقيق اهدافها الشخصية والدعاوية وكسباً لمزيد من الاموال الاميركية والبريطانية، بل ان البعض منها يسعى لاقناع واشنطن لتسييل أموال شعب العراق المجمدة بهدف اشباع المزيد من رغباته الشخصية، وليس لاسقاط النظام الدكتاتوري. والمشكلة في النشاط المعارض انه يصطدم بعقبات كثيرة أولها: ضعف قوى المعارضة في الداخل والصراع بين اطرافها. وثانيها: وضع أوراقها على رفوف الدول. وثالثها: عدم ثقة قوى الجيش والحزب الحاكم بوعودها وأطروحتها الطائفية - العنصرية ورابعها: الاحوال الصعبة التي خلفها الحصار الاقتصادي. وخامسها: الخوف والثأر والانتقام وعدم ترسيخ مبدأ التسامح. وسادسها: افتقادها القدرة على تعبئة صفوف الشعب في صيغة وطنية موحدة في النضال لتحقيق الحد الادنى من الاهداف. وسابعها: غياب الشعور ب المسؤولية والولاء بين القيادات لهدف معين زاد من دور التنافس الفردي والصراعات بين اطرافها حول سبل الاستفادة من الانفتاح الاجنبي عليها ونتائجه، لذلك صار العمل السياسي يقتصر على التآمر والتنافس الشخصي داخل هذه الفئات وبين بعضها والبعض الآخر. ولعل الخطر الحقيقي على العراق هو تجاوز الثوابت الوطنية الى الانخراط في سيناريوهات تشتمل على تغيير يحيل العراق اشلاء ممزقة ويفتح عليه كل أبواب الاحتمالات المدمرة ويجعله عرضة للصوملة، أو الافغنة، أو البلقنة. واذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فعلاً فما العمل؟ ان سحب الالتباس حول أولويات المعارضة لم تكن مقصورة على الطريق لحل شامل لمشاكل العراق في حد ذاتها، بل انها خيمت ايضاً على النظرة الاحادية الجانب الى الجيش العراقي، والى اهمية دوره في الدفاع عن أرض وطنه، والى ضرورة التعاون مع القوى الخيرة فيه لإحداث التغيير السياسي الانتقالي تمهيداً لتحقيق الديموقراطية الشاملة وتداول السلطة سلمياً، ولا يغير من الواقع شيئاً تنصيب صدام حسين نفسه على رأس الجيش وهو غير منتسب بالأساس الى الجيش. فالواقع يقول ان الجيش العراقي ليس استثناءً، فقد استخدم مراراً لقمع تطلعات الشعب، كما استخدم للدفاع عن الوطن، وعن حرية الشعب. وما هو ثابت تاريخياً بأن الجيش العراقي له مواقف تاريخية وطنية وقومية مشرفة، كانت وما زالت محل اعتزاز الشعب وبكل طوائفه وقومياته وقواه المناضلة. ويمكن توظيف التعاون معه لإحداث هذا التغيير المنشود. كما الخطأ يكمن في تضخيم ظاهرة صدام الى حد يحجب لا الجيش وحده، بل وقضية الخيار الديموقراطي للتغيير، وهذا الخيار يشكل فرصة امام قوى خيرة في الشعب والدولة والحزب باتجاه المشاركة في التغيير وبناء حياة مدنية مستقرة، وينمي ويطور النضال في سبيل انهاء الاوضاع الشاذة واطلاق الحريات الواسعة وضمانها، والتعويل على طاقات شعبنا الحية لازالة كابوس الدكتاتورية ورفض الانابة الخارجية عنه، واقامة نظام دستوري، واحترام الحقوق القومية للشعب الكردي. أليس هذا أفضل من ان يضيع الاستقلال والسيادة الوطنية ويتمزق الوطن، فهل عمل مجمل تصرف قوى المعارضة على تبديد هذا الخوف أم بالعكس؟ هذا السؤال لا يحتاج الى جواب. سياسي من العراق مقيم في لندن.