في موازاة الاشادات "المبالغ فيها" التي سبقت وتخللت ولحقت انعقاد قمة الفرانكوفونية في بيروت وتولى عدد كبير من الاعلاميين الجزم بأن هذه "المناسبة الانجاز التاريخي" مقدمة "لمؤتمر باريس 2" متوقعين سلفاً نجاحاً منقطع النظير على رغم ان الدعم الذي سيحصل عليه لبنان هو في نهاية المطاف عبارة عن دين اضافي يضاف الى المتراكم حتى الآن، اصدر الخبراء الاقتصاديون في بروكسيل، المكلفون بملف الشراكة اللبنانية اليورو متوسطية تقريراً حمل اسم "وثيقة استراتيجية 2002 - 2006" وحددوا بموضوعية اهداف السياسة المعتمدة من قبل الاتحاد الاوروبي تجاه لبنان، وابعاد تعاون الدول الاعضاء والاخرى المانحة والتحديات على المدى المتوسط، وكيفية دعم الاصلاحات الاقتصادية والتنمية الدائمة. كذلك الشروط الموضوعة على لبنان لناحية استفادته من برامج المساعدة عبر "ميدا 2" وغيرها. وايضاً تقويم المخاطر المرتبطة بالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحالي. طبقاً لقانون "ميدا" ذي الصلة ترسم "الوثيقة الاستراتيجية" حسب البلدان المعنية باتفاق الشراكة اطاراً يلحظ حجم المساعدة المنوي تقديمها خلال المرحلة المذكورة أعلاه. كما وتضع اهداف التعاون مع الاتحاد الاوروبي والاجوبة السياسية عليها. وتحدد كذلك الاولويات في مجالات هذا التعاون، على قاعدة تقويم شامل للاجندة السياسية للدولة الشريكة في مسار برشلونة، ولوضعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الداخلي، وتتضمن الوثيقة ايضاً ملحقاً يستعرض بالتفصيل جواب الاتحاد الاوروبي مبرراً الاهداف والنتائج المتوقعة، كذلك الشروط الواجب احترامها. واذا كانت الوثيقة اشارت في البداية إلى الخطوات المشهود لها في مجال الاعمار خلال العقد الماضي اي بعد 15 عاماً من الحرب الاهلية الا انها خلصت للتذكير بأن النمو الاقتصادي قد تباطأ تدريجاً وبانتظام بعد ذلك ليتوقف كلياً عام 1999. ويرى خبراء الاتحاد الاوروبي بأن الكلفة الاجمالية لبناء الاوتوسترادات والمدارس والمطارات والمرافئ والمحطات الكهربائية والمباني الحكومية زادت من عبء الدين العام بشكل لا مثيل له في الدول النامية، بحيث ناهزت معدلاته ال160 في المئة من اجمالي الناتج القومي، ما أدى الى مشاكل بنيوية على صعيد الموازنات. وبات ناتج دخل الفرد المقدر حالياً ب5200 دولار، اقل من مستويات ما قبل الحرب. الموضوعية وسياسة الأوهام واذا كان بعض خبراء الاتحاد الاوروبي يصفون في نقاشاتهم الداخلية طروحات ووعود الحكومة اللبنانية باجراء اصلاحات جوهرية في بنية الاقتصاد، وخفض الدين العام وخدمته، بأنها كناية عن سياسة "اختراع الاوهام" وارجاء "ساعة الحقيقة" الا انهم يحاولون في وثيقتهم اعطاء اكبر قدر من التحليل الموضوعي الذي يخفف من الحالة التشاؤمية السائدة. في هذا السياق، يذكر احدهم بأن توجهات بعض الدول الاوروبية مثل فرنسا وايطاليا والمانيا على وجه التحديد، ساهمت في ذلك بهدف تشجيع لبنان على السير قدماً في مبادراته التي تتماشى مع اهداف الاتحاد مثل تطبيق ضريبة القيمة المضافة والشروع في اعداد دراسات الجدوى المتعلقة بتخصيص بعض مؤسسات القطاع العام وايجاد الوسائل الآيلة لتحسين الانتاجية في ميادين الصناعة والزراعة والخدمات ومحاربة الفقر. وتشير الوثيقة الى ان حرب 1975 - 1991 دمرت بشكل خطير بنيات الاقتصاد اللبناني، فالعبء الكبير لإعادة البناء يضاف اليه تراكم الدين خلال الحرب اديا الى ارتفاع الدين العام ليصل الى 30 بليون دولار بناء على هذا الواقع الصعب، اعلن رئيس الوزراء رفيق الحريري الذي يذكر خلال لقاءاته مع مسؤولي الاتحاد الاوروبي بأنه "ورث" هذا التحدي الاستثنائي، أي ادارة مشكلة الدين حسب قول هؤلاء الخبراء - اتخاذ سلسلة من الاجراءات الهادفة لتعزيز النمو والخفض المتزايد للتعرفات الجمركية. وتصل الوثيقة للاستنتاج بأن تصحيح الأوضاع من خلال ما تم الاعلان عنه لم يكن ملموساً البتة حتى نهاية 2001. فعلى العكس من ذلك، فإن تدهور الاوضاع الاقليمية على اثر احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر وحرب افغانستان، وما تلاها من الحملة ضد الارهاب العالمي، يمكن ان يؤثر سلباً في برنامج التصحيح المعلن عنه والملتزم به رسمياً. ويضيف الخبراء في لقاءاتهم مع الصحافيين المختصين بالشراكات اليورو متوسطية، ان التجاذبات الحاصلة باستمرار في قمة السلطة اللبنانية، ناهيك عن فقدان الانسجام داخل الحكومة وغياب الرؤية الموحدة حيال تطبيق الاجراءات بفعل التباينات السياسية تارة والمصلحية الضيقة تارة اخرى، للأطراف المشاركة في صنع القرار، يمنع حدوث الاصلاحات المتوخاة، ما حدا بكبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي ممن زاروا العاصمة اللبنانيةمرات عدة، التقوا خلالها القادة هنا للفت الانتباه لمخاطر هذا النهج الخاطئ. من ناحية اخرى ترى الوثيقة ان الجهود المبذولة على صعيد الإعمار في بداية التسعينات عززت من دينامية نمو ناتج الدخل القومي. لكن تأثيرات امتداداتها المتوخاة ايجابياً على القطاع الخاص وتدفق الاستثمارات الخارجية، لم تكن في الموعد المحدد. ذلك، نظراً إلى وجود عناصر عدة ذات طابع اقتصادي وسياسي، يمكن ذكر عدد منها على سبيل المثال لا الحصر: الانعكاسات السلبية للحرب الأهلية على اليد العاملة اللبنانية ونتائج الاتفاقات السياسية المعقودة عام 1989 على حجم الفعالية الاقتصادية للقطاع العام، التدني التدريجي للتنافسية في لبنان والتداخلات السياسية والاقتصادية الضيقة مع سورية. فكان بنتيجة كل هذه المعطيات والعوامل أن تراجع معدل النمو من 2 في المئة عام 1998 الى نحو 1 في المئة في 1999 وصفر في المئة عام 2000، في حين وصلت خدمة الدين وحده الى ما يقارب 88 في المئة من العائدات في موازنة 2001. في المقابل، تلحظ الوثيقة الجانب الايجابي للتحويلات المهمة للبنانيين العاملين في الخارج والمقدرة بنهاية السنة الجارية بنحو 3.5 بليون دولار، التي سمحت لهذا البلد على امتداد الأعوام الماضية بأن يكون مستورداً مهماً للثروات الفعلية التي شكلت 43 في المئة من ناتج الدخل القومي عام 2001. وتفيد التقارير الأوروبية الأخرى أن الحكومة اللبنانية بدأت بالتوجه جدياً نحو الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية، ابتداء من عام 2001، مطالبة اياهم بمساعدتها على ايفاء استحقاقات ديونها العاجلة. فكان أن قامت بعثات من صندوق النقد والبنك الدوليين بزيارة بيروت، حيث أدلى رؤساؤها بنهاية لقاءاتهم بتصريحات تفاوتت بين الاشادة بالاجراءات المتخذة على صعيد تحرير الاقتصاد ومحاولة استعادة ثقة المستثمرين المفقودة، وبين انتقاد عدم تجاوز هذه الاجراءات السقف المطلوب لبعث عملية النمو الضرورية لاطلاق عجلة الاقتصاد. وتخلص هذه التقارير، من جهة أخرى، للاشارة بأن الآفاق تبقى غير واضحة المعالم وهشة طوال مرحلة تطبيق برنامج "ميدا - 2"، اضافة الى أن تقديم الدعم المرتقب للاقتصاد، لا يمكن تبريره حسب المقاييس المعتمدة من قبل الاتحاد الأوروبي، سوى بوجود برنامج هيكلة كافٍ للسلطات العامة، يحظى بموافقة صندوق النقد، مقدماً الدليل عملياً في القدرة على تجميد الوضع المتخبط من زاوية الموازنة والدين. مليون فقير وعن الوضع الاجتماعي، الحلقة الأخطر في المشهد اللبناني، يعتبر الخبراء ان المجتمع يعاني حالياً من حالة تفاوت هائلة بين دخل الفقراء والأغنياء، الجدد خصوصاً، ويلحظ المؤشر العام لمستوى المعيشة الذي أعده البنك الدولي، الذي يقيس معدل الاكتفاء بالاحتياجات الضرورية، ان 32 في المئة من العائلات المكونة لهذا المجتمع تعيش ضمن الشريحة الدنيا للمؤشر، و42 في المئة في المستوى الوسطي و26 في المئة في القمة. ويؤكد هذا المؤشر بأن عدد الفقراء يتجاوز مليون شخص، يتواجد 75 في المئة منهم في المدن. وبأن النمو الاقتصادي وإعادة الإعمار جاءا لصالح مناطق عدة خصوصاً في العاصمة، على حساب مناطق عدة أخرى من الوطن. كذلك، فإن العوامل عينها دعمت قطاع الخدمات في حين أضعفت في المقابل، النشاطات الزراعية والصناعية، الموفرة بالعادة لفرص العمل. من جهته، وصل معدل الأمية الى نحو 20 في المئة في مناطق البقاع والجنوب والشمال، خصوصاً بين النساء. أما البطالة، فقد سجلت حسب الاحصاءات الرسمية 8 في المئة، إلا أنها تجاوزت، حسب المحللين الاقتصاديين، ما معدله 22 في المئة، خصوصاً بين الشباب، وفي الاطار التراجعي نفسه، أدت السياسة النقدية المتشددة، وضيق رقعة القاعدة الضريبية، والتباطؤ الاقتصادي، الى انخفاض العائد الفعلي لعدد كبير من المشاريع. ومن الممكن أن يفضي هذا الخلل في النمو الى حدوث خضات اجتماعية، يضاف اليها، استغلال حالات الفقر من قبل تنظيمات سياسية محلية، تجنبت الوثيقة الاتيان على ذكرها بالاسماء، أظهرت فعاليتها من خلال تقديم الخدمات الضرورية للطبقات المهمشة اجتماعياً. ويعتبر الخبراء الاوروبيون الذين قاموا باجراء دراسات ميدانية في لبنان، انه من دون اندماج اجتماعي مناسب ومتناسق، فإن مشكلة الفقر ستشكل عاجلاً أم آجلاً، حالة من عدم الاستقرار البنيوي وليس الظرفي، خصوصاً في المدن، كل ذلك في ظل غياب برامج عامة للمساعدة الاجتماعية وشبكات متخصصة في مجال الأمن الاجتماعي. وتلحظ الوثيقة في هذا السياق أيضاً، انعدام سياسة صحية وطنية. التحديات والاجوبة عليها وتعتبر الوثيقة ان من أبرز حسنات لبنان اليد العاملة المتخصصة. مع ذلك، ترى بأن تثقيفها وتأهيلها يشكوان من ضعف القدرات المؤسساتية والادارية، ومن الفعالية المحدودة والنقص في الجودة. وازداد هذا الوضع تفاقماً مع الهجرة المنتظمة، خصوصاً في أوساط الشباب ولدى أفراد الطبقات الوسطى التي كانت تشكل عشية الحرب اللبنانية نحواً من 69 في المئة، والتي لم تعد تتجاوز اليوم نسبة ال18 في المئة، وترى أن بنية الاقتصاد تتمركز في قطاع الخدمات المسيطر عليه من قبل القطاع العام، الذي من خصائصه ضعف الانتاجية والكلفة المرتفعة للاجور وخضوعه لمنافسة عدد من دول المنطقة في طليعتها اليد العاملة السورية الموجودة على أرض لبنان. ويشيد الخبراء بالقطاع الخاص النشط في المجال التعليمي، الذي يجذب أفضل الكفاءات التربوية والادارية. ويذكر هؤلاء بالنفقات المرتفعة التي تشكل 9 في المئة من ناتج الدخل القومي، التي يأتي 60 في المئة منها من مصادر خاصة. فالتعليم الابتدائي شامل والتسجيل يصل الى 50 في المئة في المرحلة الثانوية، و25 في المئة في التعليم العالي. مع ذلك، تعترف الحكومة بالثغرات الموجودة. لذا، أدخلت عدداً من الاصلاحات التي لم تشهد التنفيذ حتى هذا التاريخ لأسباب مجهولة. ويرى هؤلاء أن لبنان بحاجة ماسة لمدارس للتأهيل المهني، في حين أن قطاعات عدة تستحق زيادة الاهتمام بتهيئة كفاءاتها المهنية. ويتعلق الأمر بالزراعة والصناعات اليدوية والنسيج. فهذا النوع من التأهيل، المرتبط عضوياً باحتياجات السوق والصناعات والخدمات يمكن ان يساهم في تحسين ظروف خلق فرص عمل جديدة. أما في ما يختص بالتحديات على المدى المتوسط فان الرد عليها يتلخص بانجاح برنامج الاصلاحات الموضوع وذلك بهدف حل مشاكل عجز الموازنة عبر الاصلاحات الضريبية والتخصيص، وتحسين مستوى المنافسة، وتمويل الاستثمارات الضرورية في القطاع الاجتماعي، وفي تنمية رأس المال البشري والتربية. وتعتبر الوثيقة ان النجاح في تحسين الخدمات الاجتماعية يعود بالدرجة الاولى الى القدرة على تطبيق الاجراءات الضريبية خصوصاً القيمة المضافة، وتحديث نظام الضريبة على الدخل والشركات وتحسين الجباية، واتمام خطوات التخصيص المعلن عنها من قبل الحكومة بشفافية مطلقة بعيداً عن المحسوبيات ونظام الكوتا. وخصوصاً خفض النفقات. كما يتحتم على لبنان ان يقلب آلية توفير اليد العاملة رأساً على عقب من خلال ضخ استثمارات جديدة في قطاع الخدمات والتكنولوجيا المتقدمة والصناعة. كما يتوجب عليه الاستثمار في رأس المال البشري بخاصة على مستوى التعليم وزيادة المدارس كي يستجيب للاحتياجات الملحة سنوياً. وفي اطار تعاونه الفني والمالي، ينبغي على الاتحاد الاوروبي ان يأخذ في حسابه تحديات لبنان على المدى المتوسط والتي يجب الرد عليها من خلال: استراتيجية متكاملة لهيكلة الاقتصاد تعدها الحكومة اللبنانية وتحرص على تنفيذها مع الأخذ في الاعتبار أن برنامج "ميدا" لا يمكنه أن يقدم مساعدة مالية مهمة، من بين عناصرها الرئيسية الالتزام بتحريك اتفاقية الشراكة، وحاجة لبنان الى تحسين تنافسيته داخل الاسواق التجارية وكذلك توجهاته السياسية الاجتماعية عبر خفض مستويات الفقر من خلال الاستثمارات الاجتماعية وتنمية الثروات البشرية. وتتركز جهود التعاون من قبل المجموعة الاوروبية على المجالات التي تجلب القيمة المضافة الأكثر بالمقارنة مع جهود الدول المانحة الاخرى. باختصار، تجدر الاشارة الى ان استراتيجية الاتحاد الاوروبي بين 2000 و2006 تتمحور في دعمها حول النقاط التالية: - الاصلاحات المؤسساتية، القانونية والتنظيمية. - الهيكلة البنيوية بما فيها فتح الاسواق، خلق فرص العمل، خفض معدلات الفقر عبر برامج اجتماعية هادفة، والاهتمام اكثر فأكثر بالبيئة. - تعزيز دولة القانون والادارة العامة ومبادئ حقوق الانسان. بانتظار الالتزام الكلي بهذه الشروط، سيكتفي الاتحاد الاوروبي بتقديم المساعدات نفسها التي درج عليها واعتمدها في "ميدا 1". ويختم احد خبراء الاتحاد بالقول: "ان نتائج باريس -2 منفصلة تماماً عن استراتيجيتنا وعن تقديراتنا لواقع الاقتصاد اللبناني". * اقتصادي لبناني.