على رغم أن "أنوبيس" عمل إبراهيم الكوني الصادر اخيراً هي رواية، وليست عملاً نظرياً، فإنها تثير تساؤلات نظرية في الأساس. فبدءاً من العنوان، ومروراً بالمقدمة وانتهاءً بالنص نفسه، تضع الرواية القارئ في خضم إشكالات نظرية عن علاقة أنوبي بطل الرواية، وجد الطوارق والليبيين القدماء، في مقارنة ضمنية مع أنوبيس حارس العالم السفلي عند المصريين القدماء. وتعني كلمة أنوبي في لغة الطوارق ما تعنيه في اللغة المصرية القديمة، أي اللقيط والولد المجهول الأب. تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام هي: أخبار زمان المهد، وأخبار زمان الوجد، وأخبار زمان اللحد يبدو أن العناوين تبادلت المواقع في المتن بخلاف الفهرس، مضافاً إلى ذلك حاشية ختامية تتضمن وصايا أنوبيس، كما يتخيلها المؤلف. وفي واقع الأمر كان الكوني نفسه قد تعرض لعلاقة أنوبي بأنوبيس في الجزء الأول من كتابه "بيان في لغة اللاهوت". يعيد إبراهيم الكوني في كتابه المذكور كتابة التاريخ الحضاري للعالم لا من خلال المركزية الغربية، كما تعودنا أن نقرأه، بل من خلال مركزية مقلوبة ومثيرة هذه المرة، تقرأ هذا التاريخ بقلب الافتراضات ونقل الهامش إلى المتن، والمركز إلى المحيط. ومصدر الإثارة في هذه القراءة أن الطوارق الذين أهمل التاريخ الثقافي قديماً وحديثاً معرفة إسهامهم في صنع هذا التاريخ، وتركهم يمارسون عزلتهم السعيدة في المخيال الصحراوي المقطوع الصلة بالعالم، والمستغرق في لذة الانصهار بالانقطاع والتوحد بمعناه الحرفي والمجازي، يعودون في هذا الكتاب المتعدد الأجزاء ليحتلوا مكان المركز الجديد والأصل الذي انبثقت منه جميع الحضارات. وليس أنوبي سوى مثال بين أمثلة كثيرة على فاعلية الطوارق - في رأي الكوني - في خلق المفاهيم المنسية. ذلك أن كلمة أنوبي لا تعني فقط الولد، أو اللقيط، بل تعني أيضاً: المبعوث. لسنا نريد مناقشة آراء الكوني في هذا الكتاب، بل نريد فقط معرفة المنزلة التي يمثلها أنوبي في المخيال الصحراوي عند الطوارق. وإذ إن العمل الذي يقدمه لنا إبراهيم الكوني عنه هو عمل سردي، فلا بد لنا أن نقرأه في ضوء قدرته على إنتاج واقع تخيلي هو ما نطلق عليه اسم الرواية. مع شروق الشمس، في أخبار زمان المهد، تبدأ ولادة أنوبي. كانت كاهنة البيت واقفة فوق رأسه لحظة إطلاله على العالم لأول مرة. ولأنّ لوليد الأسطورة القدرة على النطق في المهد، فإن السرد الذي يرويه مكتوب بضمير المتكلم. بدأت الكاهنة تعلمه الأسماء القادمة من لغة الأسرار المختلطة الأولى. قالت له: أنت اسمك "وا" الوليد، الميلاد، الموجود، وأنا اسمي "ما" الأم، الفم، الماء، الطبيعة، أما هذا، وهي تشير إلى ذلك الشبح المتخفي، فاسمه "با" الأب، الروح، العدم. بهذه الكلمات الشحيحة، يضع أنوبي قارئه في لغة البدايات السحرية الأولى، لغة ما قبل الإفصاح، لغة التميمة والرمز والنبوءة في ذاكرة ما قبل التاريخ. مذ شعر أنوبي أن وجوده هو نتاج عنصرين هما "ما" و "با"، أو الطبيعة والعدم، أو الأب والأم، أو المادة والروح، أو الظاهر والخفي، بدأت شوكة الاغتراب تخز قلبه، وتستفزه للبحث عن ذلك العنصر الخفي الذي لم يره، ذلك الشبح المتواري الذي يشترك مع "ما" في إيجاده. وما كان أنوبي يعلم أن البحث عن الأب في عرف أهل الصحراء يجلب النحس. كانت أمه الكاهنة قد أخبرته أنهم يعبدون الأب الخفي في السماء، ولكنهم يحبون الأم الظاهرة في الصحراء. خرج أنوبي باحثاً عن اللغز في مطاوي الصحراء العنيدة، ولكن المفارقة أن العطش حمله على أن يشرب من بول الغزال، غافلاً عن أن الشرب منه هو الشقاء بعينه. وبشرب أنوبي من بول الغزال، تحرر من طبيعته الظاهرة، والتحق بحرية الخفاء. نال الحرية، وفقد الحضور. ومن دون أن يعلم كان على أمه الكاهنة أن تحرره من هذا الأسر بحياتها. في الخباء، قال له الكاهن الغامض إن أمه ماتت ليستعيد حياته. لقد خرج باحثاً عن الأب، ففقد الأم والأب معاً. ظل أنوبي يشعر بالذنب لقتله أمّه، لكن الفتاة التي تعودت أن تضع سبابتها في فمها أخبرته أن الكاهن هو الذي قتلها. لقد نحرها على ضريح الأسلاف، ثمناً لاستعادته من مسوخه. وبعد تجربة الحب السريع مع امرأة الأغراب، يتوجه أنوبي إلى الخلاء بحثاً عن الكاهن. يعترف له الكاهن بأنه قتل أمه، لكي ينقذه. انتزع أنوبي المدية من حزامه وغرزها في رقبة الكاهن، ليسيل دمه قرباناً في أرض الصحراء الظمأى منذ ملايين السنين. وما كان أنوبي ليعلم أنه قتل أباه، بعد أن قتل أمه. عند منعطف الوادي فقط، يعلم من الراعية التي تمص سبابتها أن الكاهن هو أبوه، لأن الكاهن حقيقة والأب أكذوبة. قالت له أيضاً إنه بعد قتله أمه قتل أباه وأباها. فهما شقيقان. هكذا تكتمل دورة زمان المهد باقتراف ثلاث جرائم يرتكبها أنوبي من دون أن يعلم: قتل الأم، وقتل الأب، وسفاح المحارم. وبذلك يتطابق مصيره مع مصير أنوبيس، في الأساطير المصرية، الذي ولد من معاشرة أوزيريس لقرينة شقيقه ست من طريق الخطأ، وصار حارساً للعالم السفلي. ولكن، وخلافاً لأنوبيس، لن يستطيع أنوبي صحراء الأسطورة اللجوء إلى العالم السفلي، إذ لا وجود لعالم سفلي في عرف أهل الصحراء. هناك فقط عالم الباديات وعالم الخافيات. وسيجد أنوبي في عالم الخفاء ملاذ الوجد الذي يسرب به التكفير عن خطيئة أشنع الجرائم البشرية. في سيرة الضياع، يسترد أنوبي ذاكرته حين يصل إلى الواحة التي لا اسم لها. ولأن النسيان سقطة وزلة قدم يهوي بها الإنسان من الأعلى إلى الأسفل، فقد اضطر الجوع أنوبي أن يأكل من لحوم ذوي قرباه من حيوانات الصحراء. حينئذ أنكرته الحيوانات التي كانت تآلفت معه. فحكمت عليه بالهبوط إلى متاهة الضياع مرة أخرى. يتضاعف إحساس أنوبي بنبله مع ازدياد أخطائه وخطاياه. كلما استبد به الشجن والوجد، انصرف إلى تطهير ذاته بالغناء. قال له العابر إنه لم يقتل أباه كما توهم، بل قتل ظله. يسقيه من ماء آباره الأربع، فيخبره العابر أن من لا يتألم لا ينال. الألم ضريبة النقاء. وجرب أنوبي الإحساس بالإثم، فطهره هذا الإحساس. لكن الولع بالامتلاك لا يتوقف عند حد. هكذا سيستغل أنوبي الماء لتنمية ثروته، وسيكون لديه نساء ونياق، غير أن السؤال الذي لم يجد لديه جوابه هو السؤال البدئي المؤرق: من أنا؟ ولكي تكون لأنوبي سلالة، فإنه يتزوّج من امرأة غريبة، تعترف له بعد إنجابهما ابنه "آرا" أنها أخته التي أرادت أن تنقذ سلالتهما بالإنجاب منه، لأن الأمومة في عرفها هي الأصل، أما الأبوة فوهم لا يلد إلا الوهم. وحين يتحول أنوبي إلى معبود رمزي لدى القبيلة، وحارس لأعراف الناموس البدئي، تأتيه الطعنة من أقرب المقربين، من "تين هنان"، أخته وزوجته، ومن "آرا" ابنه الذي سينصرف بحثاً عن الأب، كما بحث أنوبي قبله. يقرر أنوبي الانقطاع بنفسه، والانصراف إلى نداء قلبه في اعتزال العالم. لكنه يظل يتسقط أخبار القبيلة من أفواه عابري السبيل. غير أن سخرية المصير تشاء لآرا أن يكرر سيرة أبيه. لا تكتمل معضلة البطل إلا بإقباله على قدره المرسوم سلفاً. كان أنوبي نحت على جدران الصخور كنوز الأعماق، ولم يتوقف عن هذا الهمِّ بالوصايا إلا في اليوم الذي وفد عليه ذلك الغريب الذي سرعان ما عرف فيه ابنه وسليله آرا. آرا سليل ومؤسس سلالة، ولهذا لا بدّ له من أن يكون أنوبي آخر، أن يكرر سيرة أنوبي. كان آرا مهموكاً بالبحث عن ذاته، غير أن البحث في فضاء الأسطورة البدئية عن الذات يعني تضييعها. ولهذا كان آرا ملثماً، لا يريد إخفاء وجهه فقط، بل إخفاء كيانه كله. لكن خطيئة أنوبي أنه صارحه بأنه آرا، فكان لا بد له من أن ينتقم منه لإفشائه سره. عندئذ ذبح آرا أباه أنوبي، تماماً كما ذبح أنوبي أباه من قبل. في تلك اللحظة فقط يصرح أنوبي بحقيقة النبوءة الخفية التي احتفظ بها: "لا بدّ من أن نميت الأب كي نبحث عن الأب، لا بدّ من أن نميت الأب كي نجد الأب" أنوبيس، ص 206. لم يكن أنوبي إلا فكرة عابرة في خيال رجل عابر، ولكنه كان أيضاً الحقيقة السرية لأبطال المخيال الصحراوي الغامضين الباحثين عن آبائهم مدركين تماماً أن الأب الحقيقي هو الناموس الذي يأمرهم بالبحث عنه في ذواتهم. وبصرف النظر عما إذا كان القارئ يختلف مع المؤلف في افتراضاته النظرية أو يتفق معه حولها، فإن رواية "انوبيس" أسطورة أنوبي لم تقدم لنا المادة الخام للأسطورة، بل قدمت لنا أسطورة ممزوجة بحبكة رواية تتناول مخيال الصحراء البدئي وهو يواجه شحة الاحتمالات القصوى وغزارتها معاً.