لن يستطيع أحد الإجابة عن سؤال ظل يتردد على ألسن المشاركين في ملتقى الرواية الخامس في القاهرة: الرواية العربية إلى أين؟ فلا الرواية التجريبة ولا ما يسمى الرواية الرقمية، أو رواية الانترنيت التي دخل عالمها الشباب العربي، ولا تلك التي تكتب عن المستقبل المنتظر ولا الحاضر المأزوم، ما يساعد على أن تكون لأوراق اللقاء من قدرة على تغطية الانفجار الروائي الذي يشهده العالم العربي. بيد أن مصر، بلد الرواية العربية بامتياز، تحتضن كل سنتين مجموعة من الروائيين والنقاد، لا للاجابة عن الاسئلة المفترضة للرواية، بل كي يكون بمقدورهم تفعيل الرؤى والتصورات عن حاضر الرواية العربية. فمن السودان، واليمن، إلى الأردن، والمغرب، وتونس، ومصر، والسعودية، والعراق، وسورية، ولبنان، كانت الجلسات والنقاشات في هذا الملتقى، بزحام مواضيعها، تكاد تجمع ما لا يجتمع من عناوين يدور حولها السرد الروائي، من حيث هو تجربة معايشة وحياة، وباعتباره فناً عابراً للأشكال التقليدية في الكتابة. الحرية التي امتلكتها الرواية بين الأجناس الأدبية أهم سمات نوعها، بل هي تقف في صلب تكوينها المعرفي، إنها حسب بول أوستر الصيغة التعبيرية عن مكون الحضارة المعاصرة. موجهات اللقاء هذه السنة بدت وكأنها تتلمس مستقبلاً لما غدا الفن الأبرز في العالم العربي، فالشعر لم يعد منافسا كما في السابق، وكل صيغ التحديث الأدبي تجدها في الرواية، بل أن الرواية لها دالة على الحداثة لا كأساليب وتقنيات فحسب، بل حرية بديلة، كما جاء في عنوان أحد ندوات اللقاء. ولكن ما هذه الحرية التي بمقدور الرواية ممارستها: حرية القول، أم حرية اللعب الفني، أم حرية التجوال في عالم الخيال؟ في المائدتين المستديرتين التي خصصتا لهذا الموضوع، كانت المشاركة الأكبر للروائيات من دون سواهن، وكأن فعل الحرية الروائية من حصتهن وحدهن، وكانت النقاشات التي أدارها الروائي المصري ابراهيم عبدالمجيد، قد دفعت بالحوار الى مشكة الوجود القلق للروائيات أنفسهن، سواء بمرافعاتهن ضد تهمة تجاوز الأعراف وكشف المحجوب، أو استدراجهن إلى الشكوى من المعوقات التي تواجه فعل الكتابة عند المرأة. تلك مشكلة تواجه الروائيات في كل محفل أدبي، ربما من باب رفع الكلفة وتطرية الأجواء، أو لخفض سقف الحديث عن القمع بأبعاده السياسية والاجتماعية، او حتى إهمال الخوض في مفهوم الحرية كفعل وجودي وعابر للخطاب المباشر في السرد. سؤال الحرية يكتسب القدر نفسه من الأهمية عند الرجل والمرأة، ولكن المداخلات بصدده بدت وكأنها تفتقد بوصلة توجهها نحو قيمة النوع الروائي نفسه. لعلها من بين المعوقات التي واجهتها ملتقيات الرواية سابقا، ولكن الإشكال بدا أكثر وضوحا هذه المرة، ربما لأسباب تعود إلى تعدد المنابر التي خاضت في موضوع الحرية، الأمر الذي أضاع بوصلة النقاش، وحولّه إلى كلام مرتجل وشخصي. التجريب والتجديد والرواية وثقافة الصورة والرواية وتطور وسائل الاتصال، ورواية المستقبل والخيال العلمي، كانت من بين العناوين الأبرز للملتقى، وستلوح تلك المواضيع في ترابط مفاهيمها وتداخلها، كما لو انها المعبر أو الجسر نحو تلمس الكيفية التي تلتحق فيها الرواية العربية بعالم متسارع تتبدل سرديات الأدب فيه على نحو لا يمكن إدراكه وفق الأساليب القديمة. لعلها المفارقة الأكبر في كل محافل الأدب والفكر العربي، فالحداثة وما بعدها تطاول الحياة وتصل الجغرافية الأبعد، ولعل غربة الشعوب البعيدة عن مراكزها الرئيسية، وبينهم العرب، تجعل من امكانية الإفادة من قيم الحداثة وما بعدها الفكرية والأدبية موضع شك ومساءلة. فمفهوم الهويات الروائية المزدوجة الذي نال حصة من النقاش في الملتقى، من بين سمات العالم الروائي ما بعد الحداثي، بعد ان تبدل المفهوم القديم للرواية باعتبارها ممثلة لسرديات الوطن الواحد، فحل بدله التشظي الهوياتي. ومع ان مفهوم الهويات الروائية المزدوجة يشمل عناصر النوع الروائي، بما فيها وجهات النظر والشخصيات والحبكات ونبرات الكتابة، غير ان هويات النصوص التي يدونها كتاب يكتبون بلغات غير لغة منحدراتهم الأصلية، من أهم ملامح الرواية العالمية الحديثة. هؤلاء يتحركون بين عوالم مختلفة تضع اجتهادات ومقترحات للانتماء اللغوي والزماني والمكاني، وهذه النوع الروائي ليس جديدا، بل هو موجود منذ أزمنة بعيدة، ولكنه لم يبرز كما برز في الحاضر، فقد بقي التعريف السائد للرواية مرتبطاً بالهوية الواحدة، المعبرة عن ثقافة محلية أو وطنية جامعة. لعل نتاج الفائز بجائزة هذا الملتقى ابراهيم الكوني، أحد أهم العلامات على صيغة تشعب الهوية الروائية وازدواجية مراجعها وشخصياتها، فهو يكتب بالعربية، ولكنه يختزن ثقافة الطوارق ولغتهم الأم وأساطيرهم ودياناتهم البدائية. وما يسجله الشباب على الانترنيت من قصص وروايات تبدو عابرة للغة العربية، ومتعالقة مع كون معرفي يلغط باللغات الغربية ويصل العامية بالعربية الفصحى على نحو طليق، ويتجول في عالم افتراضي للزمان والمكان. عمر شهريار، ولنلاحظ مفارقة الأسم الثاني، وهو دارس نقد مصري من الشباب، قدم ورقة مفيدة حول الرواية المصرية الشبابية، فوجد فيها ما يعزز الطبيعة المتحركة للغة والأماكن والعوالم والازمنة الغائبة او المغيبة، كما تطرق إلى إفادة هذه الرواية من تقنية الصورة في وسائل الإعلام وكلام الانتريت والقيم المتضاربة لمفاهيم تتعلق بالشخصيات والمجتمع والبيئات. وفي الظن أن رواية الشباب المصري التي ظهرت في التسعينات واستمرت في انفجار روائي عجائبي، هي ملخص لسيرة كل الروايات العربية التي يكتبها الشباب سواء على الانترنيت او في الإصدارات الورقية، فهي تمثل فعل عبور وانعطافة وقطيعة مع الماضي الروائي، بل مع الكلاسيكية التي حرصت عليها الرواية المصرية، حتى بعد تجريب روائييها الكبار. وإن كان مفتتح الملتقى كلمات ترحيبية لمجلس الثقافة الأعلى، وملخص لمسار الرواية العربية قدمه جابر عصفور، فقد بدت الخاتمة بهمهمات داخل المؤتمر، قبل أن تحل موعد الجائزة. فمن قائل إن الجائزة من نصيب الغيطاني، إلى قائل بأنها من نصيب ابراهيم الكوني، وبدا توقيت منح الجائزة للكوني، أكثر من مناسب، فهو جدير بها منذ أول الملتقيات في التسعينات، ولكنها أخطأته لأسباب تعود بعضها الى مجاملات أو استدراك لعمر لم يبق منه الا القليل للروائين الذين حازوها، كما حدث الأمر مع عبدالرحمن منيف والطيب صالح. وهكذا صعد الكوني المنصة وهو المريض هذه المرة، والجدير بتتويج مسيرته بها، ولكن التوقيت بدا وكأنه قد رافق جائزة استلمها جابر عصفور من القذافي، فظلم الكوني مرة أخرى، عبر ذلك اللغط الذي أثاره موقعه من عملية التبادل والمجاملة. وكانت كلمة لجنة التحكيم التي قرأها الناقد السوري صبحي حديدي قد اشادت بمسيرة سارد صحارى الطوارق " حيث انشغل بتطوير مشروع روائي طموح، وأصيل، يبدأ من استنطاق فضاءات الصحراء، في شتى عناصرها الطبيعية والبشرية والروحية والرمزية، ويبلغ في هذا درجة رفيعة من المزج البارع بين المحسوس والرمزي، بين الواقعي والمتخيّل، وبين المادي والروحي" كما ذهبت إليه لجنة التحكيم. أما كلمة الكوني التي تشبه رواياته، فقد حلقّت في سماء الميتافيزيقيا، حيث استشهد بوصية حكيم فرعوني من "كتاب الموتى" قدر الرجال في هذه الدنيا ألاّ يذوقوا طعم السعادة ما لم تكن مجبولة بنصيب من الكآبة" ورأى الإبداع خياراً وجودياً مجبولاً بروح رسالية، فهو على هذا الاعتبار ليس غنيمة، بل هو "قدر مكبل بالكآبة الذي يدفع المبدع ثمن الكنز الوحيد الذي يجعل من الموت ميلاداً". وهكذا كان بمقدور كلمته الجميلة ان تتحول بعد ان أهدى قيمتها المادية الى أطفال الطوارق في النيجر ومالي، الى سؤال عن الاطفال الذين يكتب بلغتهم، والكبار الذين لم يجدوا لغة روائية للتعبير عن معاناتهم من الأنظمة الاستبدادية. هل يبقى قدر الرواية العربية رهناً بالقدر العربي الذي يطيح بالإبداع بين منعطفات الأسئلة الصعبة؟ تلك الحيرة ستكون ملازمة لكل محفل أدبي، سواء كان في القاهرة أم سواها من البلدان.