الراوي في ثلاثية ابراهيم الكوني أو ملحمته الروائية * كائن صحراويّ تماهى الكوني في إسراره تماماً، ولولا الاقتباسات الثمانية منها من: التوراة، شكسبير، سان أوغسطين، أعشى همدان، غوته... التي صدَّر بها الكوني "ملحمته!" لتلاشى ظلّ الروائي كسرابٍ بقيعة. وهام ذلك الراوي في متاهة مكان ألِف خلاءَه وأسربته وأشباحه وأسراره وأشياءَه ألفةَ كائنٍ قديم أرْواحيّ مُتيم وضعها العلايلي بازاء Fژtichiste وهو صاحب الاعتقاد بألفة شيء ماديّ ينسب اليه قدرات فوق طبيعيّة، عبّر عنها بعضهم ب"عبادة الفتش"، لم يجد ازاءه إلاّ الفصول يتّخذها خليلاً فتشيّاً وملاذاً قدَرياً للبوح والإفضاء. فأمّا الثيمة التي يعوِّل عليها السرد فهي ثيمة "القرني" بالروح الفتشية نفسها التي لا تتّخذ عند الراوي من أشياء الطبيعة وعواملها تمائم أرواحية وحسب، وإنّما هي تتّخذها أيضاً من المعاني المجرّدة كالعقم والخفاء والنسيان والشرخ والبلبال هكذا في خيار مفتوح لا حدود له فاتحةً بذلك البوح على افاق التأويل الأرواحي الفتشيّ لكلّ ما هبّ ودب ولمع واختلج في عالم الصحراء وكائناتها، على نسق السجع الكهنوتي العتيق، إنّما في غلوّ يقارب حدّ الهذيان. "القرني" هو الوحدة العضوية لخبر الراوي، وانفصامُه هو الياتوس المُستعمل ك"داعية الألم" أو "المؤثر السايكولوجي لاستمالة النفوس" وفق المفهوم الأرسطي لطرق التأثير الدرامية، يتم استثماره أصلاً واقعياً تُحمَّل عليه حكايات "الأنس والجن" الصحراويين، لتعطي المسوِّغ للروائي الذي هو ابراهيم الكوني ليطلق على نصّه المسكون اسم "ملحمة روائية!". ولا بدّ للقارىء من أن يتعقب ظل تلك الوحدة الدرامية عبر أجزاء ثلاثة كمن يتعقب سراب الماء في مهمةٍ تطوِّقه "متاهة أبدية" على حدّ قول الراوي اياه. "أخذني الوالد من يد الوالدة وربطني بحبلٍ في رسغ الرجل... ثم جرجر الأم نحو الضريح... رأيت في القبس مدية تنتصب الى أعلى في كفّ الجلاّد، فتتغسّل يضياء القمر، وتلتمع في النور بأغواء خفيّ، على لسانها تومض خيوط دم ظازج..."، لقد ذُبحت الأم ايفاء لنذرٍ معقود. وكانت عاقراً تسعى لخصوبة جوفها، فتنبّأ الكاهن الخفي لها بأن "لا قربان للفوز بالإنسان إلا الإنسان". فنذرت نفسها أمام الضريح معلقة حول عنقها حجراً مشطوراً الى نصفين. و"أحيا الخفاءُ الرحم مرتين وأبى الا أن يهبها، بدل الجنين، توأمين"... سُمي الأول ايبانمان غياب الروح وسُمي الثاني افانمان ضوء الروح، وعُلّق في رقبة كل منهما شق من الحجر المشطور... وحين دبّا على قدمين وفى الرجل نذر المرأة "بالقوة وبعنادٍ بطولي"... الراوي هو ايبانمان، الهائم على وجهه الذي بات وجه الصحراء عينه، ليسرّ لخلاّنه الفصول الصحراوية خبر "ملحمة" شقائه عبر حياة مخضت به في الهذيان، في التيه، في البحث المستعر بجنون الضياع والانفصام والحقد والقتل عن شقّه التوأم الذي "أضاع شقّه الحجري، فضاع مني منذ ذلك اليوم، لأنه لم يفقد، بفقدان الحجر، التميمة، ولكنه أضاعني وأضاع الوئام...". هكذا، سوف نتتبع في خضم قفزٍ فتشيّ، على مدى أجزاء ثلاثة، برفقة ايبانمان عته مستهام مألوس، قد مسَّته أطياف ضياعٍ يائس، وتملكت به واستبدت، فاجتاحه عداء مرير مستعر لكل ما يتبدى أمامه عائقاً دون قرينه ودون ألفةٍ ضائعة في صفير الريح: الأب، الحسناء الجنّية التي سكنته، الزوجة، فزوجة القرين، ثم أخيراً القرين ذاته. عداء ما قد سيجتاح أيضاً كل شعور داخلي أو اختلاج قلبي أو الشهوة عينها حين تقف عقبة دون تملك افانمان الذي جعله الغيبُ الصحراوي، منذ الأزل، وفق "مشيئة الناموس الخفي"، جرماً توأماً "لروح واحدة" هي روح ايبانمان بالسويّة ذاتها. "صارت لي المدية قدراً" يقول الراوي الذي سيخوض بنا عبر التيه و"البلاقع الموسومة بالدمن" و"البسابس المغلولة بسبائب السراب" و"صحاصح الخلاء" و"أحافير القيعان وشقوق الصلد وشعاف الأخبية" عبر "يبس النيات ويباب السهول وعراء الأرض" وعبر التمائم والتعاويذ والطلسمات وأشباح الخفاء والسلالات النادرة والسحرة والعرافين ودعابات الجنّ الشقيّة، وعبر الريح والغبار و"تباديع الفصول" الى تهاويل كابوسٍ "أرْواحيّ" لا يلمع فيه إلاّ نصل المِدية حين "يحتكم اليه لينحر الأب"، وبعدها "ليرقص في الفراغ قبل أن يهوى ويرسم على نحر الزوجة علامة القصاص" في قدَرٍ مرصود يخترق الحكاية الى آخرها حين "يبيد بالمدية امرأة القرين" لتصير أخيراً "يده امتداداً لمقبض المِدية وتهوى بسرعة جنونية على نحر القرين... ففزّ الدم في وجهي، فانكفأ الجليس الى الأمام ليقع في حضني كطفل صغير". ولا يعوِّل الكوني - متماهياً مع راويه - على الهاجس المتحكم بروح ايبانمان ليُقيم أوَد "ملحمته الروائية"، وإنّما هو يتنكّب ذلك الهاجس ذريعةً ليروي - متماهياً مع راويه - عالم الصحراء برمّته. ويبدو واضحاً بجلاء "الورقة والقلم" أن الثلاثة وثلاثين كتاباً، التي تشكّل لائحة "مؤلفات ابراهيم الكوني" والمثبتة في آخر الأجزاء هذه، لم تروِ غليل كاتبها السرديّ لذلك العالم الذي يسميه بحق "يمّ الظلمات". ثلاثة وثلاثون أرْخت ب"رملها" فوق ساحة النقد لتُعطى كلّ ما يمكن أن تثيره من انطباعات لجهة تفرّدها إيغالاً في استشراف "فضاء جديد لثيمة المكان في الرواية العربية". انها "اضافة حقيقية للأدب العربي لتجسيدها حالة من حالات الوجود البشري في بكارته الأولى، متمثلاً في قصّة أجيال متعاقبة لقبائل الطوارق المنتشرة بالصحراء الكبرى في المنطقة الواقعة جنوب غرب ليبيا، المتاخمة لجنوب شرق الجزائر، بالإضافة الى المناطق الشمالية لمالي والنيجر وتشاد" اعتدال عثمان، فصول، ربيع 1998. انها "فتح جديد من حيث الموضوع والبيئة... وتجربة فردية متميزة في الرواية العربية الحديثة" يمنى العيد، الآداب، أيلول / سبتمبر 1997، ذهب البعض الى اعتبارها "ملحمة مجتمع بلا زمن" الغانمي، الجديد، ربيع 1996 "قد تمهّد الدخول الى ملحمية العصر الحاضر بما تحتويه الصحراء من قِيم فنّية غير مكتشفة بعد". النصير، أبواب، 22. وهي تجربة دُرست وتُرجمت الى ما يناهز اثنتي عشرة لغة، وهو أمرٌ يدفع الكوني، كما يبدو في هذا البوح "الملحمي!" ل"خلاّنه الفصول"، الى الإمعان في رحلته بعد أن قطع خط العودة منذ زمن بعيد. وليس في الوسع الآن الوقوف انذهالاً أمام هذا المدى الميثو نثروبو فانتازيّ المعزَّز فتشياً دون النفاذ الى تقنية اللعبة الروائية ذاتها بشقّ غلالة الراوي اللازماني سعياً الى عِيان الروائي ذاته. ولا نسير في الأرض البكر، فثمة ملاحظات ثاقبة لبعض النقد يمكن تعميمها على أعمال الكوني بحذافيرها، كما يمكن اعتبارها نوافذ آيلة الى مكامن علل في جسد النصّ الذي يركمها دون توانٍ أو تساءل. منها ما يتعلق بالبناء الروائي، ف"الحكاية التي ينبني بها خطاب الرواية الواقعية، باعتبار الفعل أو الحدث، تتراجع هنا لصالح المكان، باعتباره هو ذاته الحكاية" العيد. ولا بدّ من التمييز عند الكوني بين جماليات الإمكان المكاني الفريد والطاغية من ناحية، وبين البحث عن جماليات البنية الروائية في حدّ ذاتها التي طال ما ذهبت بدَداً في مخْر البيداء حيث "الإطلاقية المكانية سمة من سماتها الأساسية". النصير. ومنها ما يتعلق بوحدة ايقاع السرد، فالكوني "يدمج نبذاً متناثرة من الأساليب الاخبارية والحوارية والتأملية، وشذرات من الحكايات الأسطورية والخرافية والأخبار القبلية والدينية والعرقية، دون أن يحترم فنّياً سياقاتها. شأنه في ذلك شأن أي كاتب لا يهمّه الا استثمار مجموعة من المعطيات واعادة انتاجها في سياقات يصطنعها هو...". ع. ابراهيم. ومنها ما يتعلَّق باللغة "التي تميل هنا الى التجريد... ولا تفلح في استبطان اللحظات الشفافة والعميقة التي تمرّ بها بعض الشخصيات، فالجملة القصيرة توحي في بعض الأحيان بأنها قائمة بذاتها، أكثر ممّا هي متصلة بغيرها، وهي تؤجّل باستمرار لحظة التماسك المطلوب في النّص..." ابراهيم. وهو أمر لافت أن تصحّ تلك الإضاءات النقديّة من عامي 96 و1997 لجملة أعمالٍ سابقة على العمل الأخير 1999 الموسوم ب"ملحمة روائية"، والمسلَّم كلياً الى راوٍ قديم يشبه الإنسان البدائي الذي تحدّث عنه غاتشف الوعي والفن: "الذي كان حين يعير انتباهه الأشياء، فإنّه لم يكن يرى الصفات الموضوعية لها، وإنما يرى تأثيرها قياساً له... فتتحول الى "فتشات" مكوّنة من أجسام مادية وغير مادية أيضاً عند الكوني، ومن مغاز كلية تختفي وراءها المضامين الأرواحية والاجتماعية. لذلك فالفتش فعل سحري... يعيش المرء في هاجس تقديسه والخضوع له". وهي حالة الراوي تماماً كلُّ أهل الصحراء سَحَرة، يقول في "سأسرّ بأمري لخلاّني الفصول" والتي تصبح قياساً الى حالة راويها أقرب الى "مونولوج ملحمي!" سمفونية عازف منفرد! يخاطب فتشات العالَم الصحراوي المطبق عليه من كلّ جانب. فريسة الراوي ويذهب الروائي فريسة الراوي في هذه اللعبة المسكونة بالالتباسات الشبيهة بأسربة السباسب التي يعرفها ايبانمان تماماً. وكلّ عناصر الخطاب المروي والماثل بين الأيدي محكومة بحتمياتها و"لات حين مناص". هو أمرٌ يولِّد قريناً - بالمعنى الأرواحي المستعمَل في الحكاية - لخطّ السرد ما يُمكن تسميته في الأسفار الكونية: انثروبولوجيا الفتش. قرينان أشبه ما يكونا بديكَين متصارعين لا يعفّ أحدهما عن الآخر إلاّ في رمقٍ أخير وقد تبددت ملامحهما فلا يُعرف أحدهما من الآخر. نحن هنا بصدد جديلٍٍ محموم من الفصول ثلاثة وتسعون فصلاً في أجزاء ثلاثة ينزع الكثير منها نزوعاً انشداهياً الى الإطناب في فكّ تمائم المكان، فيصير قدوم الصيف - على المثال - حلولاً "لموسم الحريق فتتنكّر السماء للصحراء وتتعرى من أثواب السحاب، لتتعمم بلفافات منسوجة من خيوط العمامة النارية التي تستقر في قلب الفضاء... والشمس هنا تخالف الناموس... فتصقل أسلحتها... وتحتلّ الأركان ويروق لها الفراغ، فتتلذَّذ بالعراء... لأنها، لا تركن إلاّ الى المكان الذي فرّ منه المكان... يتدفّق لعابها على البادية سراباً ولهباً وحريقاً...". على هذا المنوال يكمل الراوي حديثه، فلا ينتهي الفصل إلاّ حين يخبر "مولاه الصيف" عن فعل شمسه الأخير "تأكل الحجارة إذا لم تجد ما تأكله في الصحراء". وقياساً الى هذه الصورة، فإن نصوص "الشرخ" و"البلبال" و"برق الخلّب"، وهي عناوين الأجزاء الثلاثة لرواية الكوني، تزخر الى حد التخمة بما يماثلها من استطرادات مشابهة مُطَبّقة هذه المرة على السيل مثلاً أو الربيع أو الحجر أو الكمأ أو المدية أو البرق كما وعلى حد سواء على النسيان أو الجدب أو المرض أو التيه أو الخفاء أو الظمأ، هكذا، بالأرواحية عينها، بالغلوّ عينه وكلما أتاح حديثُ الراوي الفرصة لظهور شيء من الأشياء أو صفة من الصفات أو أيّ أمر من المسميات الأخرى. وهلمّ جراً باللغة والشخصيات وعصب الحركة من الفصل الأول الى الفصل الثالث والتسعين. ويُستثار السرد بالإنشاء، والانفعالات بالإنشاء وحمّى التيه بالإنشاء. وللإنشاء هنا فعل السحر حيث يُحقن بجرعات مفرطة من التأويل الفتشيّ. فالسبيل "ناموس الأرض وتعويذة المسافر وربٌّ لا تعترضه العقبة وقِس على مدى صفحات ثلاث. والكمأ "هِبة خفيّة بذرتها بصقة الجنّ، وعروقها شرر البروق... لا تحبل الأرض بأجنّتها إلا بلقاء الخفاء مع الخفاء... لأن طلسم الخفاء شرط ميلاد كلّ كنز"... والنمل "مِلَّة معادية... تتخفّى في أبدانها كائنات فظيعة... وتتنكّر في أبدانها قبيلة الجنّ...". والمِدية "لعبة الجنّ... لا وجود في ناموسها للحدود بين الدفاع عن النفس والعدوان... صارت قدراً...". ولا غرو أن يكتسح هذا النمط من التأويل الحكاية برمّتها ف"الخَلق ملَّة والصحراويون ملَّة أخرى... أهلُ الأوطان انحدروا من سلالة الإنسان، وأهل الصحراء انحدروا من سلالات الجان...". ويتفشّى أثر هذه الرؤية على اللغة التي ترتدي هنا لباساً صحراوياً حيث تقع العبارة في خلاء يدوّي فيه الصمت المشحون بأصداء الإنشاء العربي الأثيل "السماء العارية الأبدية... السماوات في صمتها الخالد... تزعزعت أركان الصحراء... منافي المملكة الخفيّة... سرداب الهاوية والظلمات..."، كما أنها تولّد تراكيبها المستمدة من "قاموس الصحراء"، "ملل الجنّ... كاهنات الدهور... مملكة النسيان... أمّة البلبال... سيول اللؤم... تنّين الفجيعة... سلالات الأحلام..."، فضلاً عن أنها لا تتورّع عن التوحّش "أروم الثليب... الخيتعور... الرهل والربل... الوهق..."، وعن انزياح التسميات، فالمرأة تصير حيَّة أو ظبية أو سعلاة، والأخ يصير قريناً أو شقّاً، والنمل والغزلان قبائل جنّ... في خضم هذا الفضاء اللغوي المفتوح تتحوّل الأماكن والأشياء والطبائع والأحوال الى شخصيات روائية يكاد حضورها يوازي - أحياناً يطغى على - الكائنات الناطقة للصحراء. التيهُ هنا بطلٌ، والفصل والحجر والمِدية والبذرة ولعاع النبات والهذيان والانفصام والغزلان والجنّ... وينحو النص أحياناً الى زَبْر يستعملها الكوني بمعنى كتابة سِفر تكوين مختصّ بتلك السلالات المتحدرة من مِلل الجان، حتّى أنه يعقب على الرواية بعد نهاية الجزء الثالث بما يسميه "أغاني صاحب الفصول" هي أشبه بسفر أمثال يتحوّل فيها الريح والقمر والماء والحجَر الى أنصبة فتشيّة يعبّر عنها الكوني هذه المرّة بلغة لا تخلو - أحياناً - من "جنّ" الشّعر. والراوي، وان حكى مرّة بصيغة عالِِم عاديات عن "الظلال المزبورة على جلاميد الصخور"، ومرة عن شعائر الناموس حين يصف طقوس لفّ الكتّان حول الجبين ليصير "اللثام المقدَّس"، ومرات عن أمكنةٍ هنا وسلالات هناك، فإنه لا يضفي على حديثه ألفة "الخبر العتيق"، فروايات الكوني "ليست في التحليل الأخير وثيقة تاريخية عن مجتمع الطوارق"، إنما نصّ أدبيّ" كما يقول أستاذ الأدب العربي في جامعة السابع من ابريل في ليبيا عبدالله ابراهيم. نصٌّ أدبي غارَ البيداء من دون التفاتٍ الى وراء. وسواء أكان ايبانمان هو ذاك القابع في عزلة "الألب السويسري" في تون اسم المكان الذي وُقّعت فيه خواتيم الأجزاء الثلاثة أم ابراهيم الكوني، فإنّه، في كلتا الحالين، السَّابر أغوار الفتش المطلق: الصحراء، التي هي على حدّ رؤياه لها: فردوس من عدم. *ابراهيم الكوني، "سأسِرّ بأمري لخلاني الفصول"، ثلاثة أجزاء: الشرخ، البلبال، برق الخلّب، دار النهار للنشر، بيروت، 1999.