في خطوة غير مسبوقة قدم الكونغرس الأميركي يوم الاثنين الماضي، مشروع قانون يعتبر مدينة القدسالمحتلة عاصمة لاسرائيل. ويذهب مشروع القانون الجديد بشأن القدس الى مدى أبعد من مشاريع القوانين السابقة التي وافق عليها الكونغرس. أي المشاريع المتعلقة بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس. ومع ان الرئيس بوش ادعى في بيان مكتوب ان سياسة بلاده لم تتغير بشأن الوضع القانوني لمدينة القدس، إلا أن توقيعه على المشروع أثار موجة من السخط والاعتراض في العالمين العربي والاسلامي. وقال صائب عريقات، وزير الحكم المحلي، ان السلطة الفلسطينية ستتوجه الى دعوة لجنة القدس المنبثقة عن المؤتمر الاسلامي والى الجامعة العربية ومجلس الأمن بحيث يصار الى اتخاذ موقف موحد يمنع تمرير المشروع. وفي مواجهة موجة الغضب، اضطر الناطق باسم الخارجية الاميركية ريتشارد باوتشر، الى ايضاح موقف الادارة مؤكداً ان الوضع الدائم لمدينة القدس يتقرر في جلسات المفاوضات المشتركة وليس في الكونغرس. وكان بهذا الاعلان يشير الى الاتفاقات المعقودة بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، والتي تنص على بحث مسألة القدس خلال مفاوضات الوضع النهائي. منتصف شهر تشرين الأول اكتوبر 1995، ناقش مجلس الشيوخ الأميركي مشروع قانون تقدم به رئيس الغالبية بوب دول، يطالب بنقل السفارة الأميركية الى القدس خلال مدة لا تزيد على السنة. وأيّد المشروع في حينه 68 من أعضاء المجلس، أي ما يزيد على ثلثي الأعضاء. وهي النسبة المطلوبة لافشال فيتو حق النقض الذي يستخدمه الرئيس. ولكي لا يصطدم كلينتون مع الكونغرس، وضع ثلاثة شروط قال ان تحقيقها يوقفه عن استخدام حق النقض: اولاً - تغيير الموعد النهائي لنقل السفارة الى حين الانتهاء الناجح لعملية السلام. ثانياً - منح الرئيس حقاً رئاسياً يستطيع بموجبه استعمال صلاحياته بحيث تتاح له الفرصة لتأجيل عملية النقل لأسباب تتعلق بالأمن القومي. ثالثاً - تغيير صياغة مشروع القانون بطريقة يستدل منها ان سياسة الكونغرس هي التي تقضي بنقل مكان السفارة. والملفت ان القانون الذي صوت عليه الكونغرس يدعو الى نقل السفارة الى القدس الموحدة غير المجزأة بتاريخ أقصاه 31 أيار مايو 1999. وفي حال عدم تنفيذ هذا الشرط ينص القانون على معاقبة وزارة الخارجية على تقصيرها وذلك بخفض خمسين في المئة من الموازنة السنوية، على ان تستمر العقوبة الى ان تفتح السفارة في القدس. وكتب الأستاذ وليد الخالدي تعليقاً على هذا الاجراء يقول انه لم يسمع عن برلمان آخر في التاريخ يعاقب دولته لمصلحة دولة أخرى. ومع ان وزارتي الخارجية والعدلية أعلنتا عدم دستورية القانون بسبب تعديه على صلاحيات الرئيس في السياسة الخارجية، إلا أن الكونغرس أقره متجاوزاً كل المحاذير الدستورية. ويستدل من مراجعة سجل الرؤساء الاميركيين الذين تعاقبوا على الحكم منذ هاري ترومان 1948 ان جورج بوش الأب كان آخر رئيس يتجرأ على معارضة شرعية وجود اسرائيل في القدس. ولقد طرح هذا الموقف أمام الجمعية العامة 25 أيلول/ سبتمبر 1971 عندما كان مندوباً لبلاده في الأممالمتحدة. وقال في خطاب رسمي: "ان الحكومة الاميركية تعتبر القدسالشرقية أرضاً محتلة، وبالتالي خاضعة لاحكام القانون الدولي الذي يحدد حقوق سلطات الاحتلال وواجباتها". ولما انتقل الى البيت الأبيض كرر انتقاده للمستوطنات الاسرائيلية في القدسالشرقية. وذكر في حينه انه اعتمد في اعتراضه على تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية سي. اي. ايه يفيد بأن ادعاء اسرائيل توطين أقل من واحد في المئة من المهاجرين داخل الأراضي المحتلة غير صحيح. ويشير التقرير الى توطين ما نسبته أكثر من عشرة في المئة داخل مستوطنات أنشئت عقب حرب 1967، في القدسالشرقية أو فوق أراض يملكها فلسطينيون. واتصل الرئيس بوش الأب برئيس وزراء اسرائيل اسحق شامير ليحذره من مغبة مخالفة القوانين الدولية. وأجابه شامير ان القوانين لا تسري على القدس باعتبارها عاصمة تاريخية لاسرائيل، وان قضيتها ليست بنداً قابلاً للتفاوض. ولكن بوش أصر على تأكيد وجهة نظره في مؤتمر مدريد 1991 معتبراً ان صيغة مقايضة الأرض بالسلام يجب ان تطبق على القدسالشرقية ايضاً. وعقد أصدقاء الدولة اليهودية في الكونغرس الاميركي جلسة خاصة تحدث فيها 39 شيخاً وصفوا الرئيس بالحماقة، لأن مصير القدس، في رأيهم، منفصل عن مصير الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي حملة ثانية استطاع هؤلاء جمع تواقيع 83 شيخاً من أصل مئة يؤلفون المجلس، ثم بعثوا برسالة الى الرئيس، هذا ملخصها: 1- على بوش ان يتراجع عن موقفه في شأن القدس لأنه يمثل تغييراً في السياسية الاميركية. 2- الاعتراف بأن القدس هي عاصمة دولة اسرائيل ويجب ان تظل كذلك. 3- الاعتقاد الحازم بوجوب بقاء القدس مدينة موحدة تتم فيها المحافظة على حقوق جميع الفئات العرقية والدينية. في معركة تجديد الولاية شنت المنظمات اليهودية حملة ضارية انتهت بإسقاط بوش الأب، علماً بأنه توقع ان يظفر بنسبة ضخمة من أصوات الناخبين كمكافأة على انتصاره في حرب 1991. ويبدو ان نجله وحامل اسمه قد فهم الرسالة السياسية، لذلك باشر حملته من المروحية التي حملته فوق أرض اسرائيل مع دليل هو اختاره اسمه ارييل شارون. واكتشف الثعلب شارون خلال ثلاثة أيام أمضاها مع المرشح الشاب، ان جورج دبليو بوش نسخة مختلفة عن والده، وانه بالمستطاع "عجن" طينته اللينة بشكل يتناسب وطموحاته الصهيونية. واتفقا على تبادل الآراء والخدمات كأن يعينه شارون على كسب تأييد الكونغرس ووسائل الاعلام النافذة مقابل اطلاق يده في تحقيق مشروع "اسرائيل الكبرى" واعلان القدس الموحدة عاصمة نهائية لاسرائيل. وتبين من تدخل بوش الأب مع زعماء الدول العربية في مصر والسعودية والكويت، انه مختلف مع ابنه الرئيس الحالي على السياسة الخارجية التي سلمها لوكلاء اسرائيل في ادارته. ولم ينكر الإبن وجود هذا الخلاف لإيمانه بأن والده اخطأ في اختيار خطه السياسي عندما غلب الموقف المبدئي الوطني على الموقف الشخصي. واعترف مرة لصديقه أحد السفراء العرب في واشنطن، بأنه سيجدد ولايته بفضل الدعم الاسرائيلي، وبأنه سينتقم لمحاولة اغتيال والده في الكويت عن طريق اسقاط نظام صدام حسين. منتصف الشهر الماضي كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" عن خطة ضرب النظام العراقي، وذكرت ان نتانياهو جعلها نقطة مركزية في سياسته الخارجية. ونشرت محضر الجلسة مع القيادات العسكرية التي اعتبرت امكانات العراق البشرية والطبيعية خطراً على أمن اسرائيل ودورها الاقليمي. وكان من المنطقي ان يتبنى الزعيم الليكودي شارون خطة سلفه ويقنع الرئيس جورج دبليو بوش بأهمية احداث تغيير في العراق تصيب تداعياته كل دول المنطقة. كما اقنعه بضرورة تغيير قيادة السلطة الفلسطينية، على نحو يتفق مع مخططاته الرامية الى تهويد القدس والسماح بقيام كيان فلسطيني صغير يعيش تحت وصاية اسرائيل ومراقبتها، كما امارة موناكو مع فرنسا. اما بالنسبة لدور اسرائيل في المنطقة بعد ازالة النظام العراقي فقد ذكرت الصحف العبرية مراراً وتكراراً ان هذا الدور سيكون مكملاً لدورها السابق خلال الحرب الباردة. أي الادعاء بالحفاظ على استقرار المنطقة خدمة للدول الصناعية المتقدمة. وبما ان اسرائيل والولاياتالمتحدة تعتبران الاصولية الاسلامية وريثة الشيوعية لجهة زعزعة الاستقرار في الشرق الاوسط، لذلك اتفقتا على الاشتراك في استخدام القوة العسكرية ضد هذه التيارات بهدف تقليص نفوذها ومنع انتشارها. او بالاحرى منعها من تهديد المشروع الصهيوني الواسع. يبقى سؤال آخر يتعلق بتوقيع الرئيس جورج دبليو بوش الاثنين الماضي على مشروع قانون تقدم به الكونغرس يلزم الادارة بتعريف مدينة القدسالمحتلة على انها عاصمة موحدة لاسرائيل. وجاء في حيثيات القرار ان التوقيع يمنح الادارة اكثر من اربعة بلايين دولار لتمويل اعمال وزارة الخارجية. وهذا يعني الغاء العقوبة التي وضعها مجلس الشيوخ عام 1995 على وزارة الخارجية وقيمتها 50 في المئة من الموازنة، بسبب الامتناع عن نقل السفارة الى القدس. ولكي يبرر توقيعه ويقنع الدول العربية والاسلامية الغاضبة، قال الرئيس بوش ان المشروع ليس ملزماً له، والا يكون الكونغرس قد اعتدى على حقه كرئيس في رسم السياسة الخارجية. وادعى الناطق باسم الخارجية ان الولاياتالمتحدة لم تغير موقفها بشأن مستقبل القدس. ولكن هذا المأزق القانوني يمكن تجاوزه في مرحلة اخرى بسبب تأييد اكثر من ثلثي اعضاء المجلس لمشروع اعلان القدس الموحدة عاصمة لاسرائيل. وهذا هو العدد المطلوب لافشال حق النقض الذي يملكه الرئيس. واستناداً الى النص القانوني يكون الرئيس قد وقّع فعلاً على الاعتراف بحق اسرائيل في جعل القدس الموحدة عاصمتها النهائية، ما دام الفيتو الذي يتسلح به لا يقوى على افشال الحق الدستوري لثلثي المجلس. ويتردد في واشنطن ان "اللوبي اليهودي" استطاع ان يضمن ايضاً للرئيس بوش دعم زعماء مجلس النواب لاستخدام القوة ضد العراق مقابل توقيعه على مشروع الكونغرس. وهكذا تكون معركة اطلاق يد بوش في استخدام القوة ضد العراق، قد اطلقت يد شارون في حق اعلان القدس الموحدة عاصمة نهائية لاسرائيل… وبانتظار ردود فعل العواصم العربية والاسلامية!! * كاتب وصحافي لبناني