علاقتي بالمقابر قديمة، قبل أن تكون أدبية. وفي كل رحلاتي، تعودت على زيارة مقابر المدن التي أزورها. يقال ان صاحب "بيدرو بارامو"، الكاتب المكسيكي خوان رولفو، كانت تعجبه زيارة المقابر، والتمشي بين القبور، وتفحص شواهدها، وأنه كان يفعل ذلك، كما لو كان يتمشى في صالة معرض أو في رواق. يُقال أيضاً انه يذهب الى هناك، ليكتب أسماء الموتى لكي يستخدمهم لاحقاً في قصصه. لكنني وأنا أتذكره، أريد تخيله بصورة أخرى، تخيله بأنه يذهب إلى هناك للأسباب نفسها التي تحملني على زيارة المقابر، في معظم رحلاتي: للتمتع بالحياة. قد يبدو الأمر متناقضاً من الناحية الشكلية، لكنه على عكس ما يتصور كثرٌ، المقابر هي أكثر الأماكن إثارة للخيال، بسبب قوة هذا الشعور الفيزيقي بالحيوية الذي تبثه، وخصوصاً في فصلي الصيف والربيع، بسبب ظلال أشجار السدر والسرو، بسبب الموسيقى التي تبعثها أوركسترا الطيور التي تختار الموتى مستمعين لها. علاقتي بالمقابر قديمة، قبل أن تكون أدبية. وتعودت في رحلاتي على زيارة المقابر في المدن التي أزورها، وعند العودة، يتأمل أصدقائي الصور التي احملها ويسمعون وصفي للمراقد، وعلامات عدم الرضى بادية على وجوههم، وكأنهم يتهمونني بالبطر، ويحاولون تغيير الموضوع بالحديث عن هذا الموضوع أو ذاك، ولا يفهمون أن الحديث عن مقبرة ما يبوح بأكثر مما يبوح به الحديث عن المدينة التي يعيشون فيها، وعما تقوله شققهم المبتذلة، التي هي مقابر للأحياء. كثيرة هي القصص التي ترويها لنا المقابر، وخصوصاً مقابر الغرباء. مقبرة "تل اللحم" مثلاً في سوق الشيوخ، في العراق، حيث كان يُدفن الميتون من الغرباء والعابرين والمهربين توقفت القوات البرية لجيوش الحلفاء عندها، عند دخولها العراق في حرب "عاصفة الصحراء" في 1991. مقبرة السيدة زينب في دمشق، حيث يُدفن الموتى من العراقيين، وحيث يرقد جثمان أبي المغتربين العراقيين الشاعر محمد محمد الجواهري، ألف كيلومتر بعيداً من مسقط رأسه. مقبرة بير - لاشيز في باريس، حيث ترقد أجساد مئات المنفيين: ميغيل أستورياس، وايلد، جيم موريسون، دجونا بارنير، هاينريش هاينه... مقبرة برلين، مقبرة لندن، حيث يرقد المنفي كارل ماركس وصديقه فريدريك أنغلز... علاقتي بالمقابر قديمة، قبل أن تكون أدبية. وللمرة الأولى أنظر الى هذه العلاقة في شكل آخر، منذ أن دخلت البلاد "الضائعة" - التي يُفترض أنها بلادي! - بصورة سرية عبر كردستان، قبل فترة قصيرة، وبعد 22 عاماً من مغادرتي لها الآن سيُقال عنك انك تستنكر لبلادك ووطنك، وبهذا يُمنع عنك حتى الناس حق اختيار الوطن أو معناه. أنها المرة الأولى التي أزور فيها مكاناً تحول بأجمعه إلى مقبرة. ترى ما الذي يستطيع أن يفعله الأدب، في بلاد تحولت كلها إلى مقبرة؟ ذلك السؤال الذي بدأ يلحّ عليّ منذ الأيام الأولى لرحلتي عبر أراضي كردستان. في أيام الطفولة مثلاً، كانت كردستان بالنسبة إلينا نحن أطفال الجنوب، المكان الذي يأتي منه الموت. فلأن معظم جنود الجيش النظامي العراقي أصلهم من الجنوب أكثر من 80 في المئة، ولأن حروب السلطات المركزية العراقية مستمرة ضد الأكراد، لم تكن هناك عائلة في الجنوب لم تفقد أحد أبنائها في الحرب ضد كردستان، كان لا بد لكل شاب جنوبيّ من أن يُساق بعد وصوله الى السن القانونية للخدمة العسكرية الى الشمال. الأدب العراقي المكتوب في كل هذه السنوات لم يذكر هذه الحرب، وكأنها "حروب فوق أراض بعيدة". ولكن كردستان الآن، وبعد عشر سنوات من العيش بحرية، بعيداً من السلطة المركزية، ما زالت مقبرة كبيرة. فعلى طول الطريق الذي قطعته بنا السيارة، من زاخو حتى أربيل، توزعت المقابر. مقابر صغيرة. المقابر القديمة اندثرت، وهذه المقابر الصغيرة، هي مقابر ضحايا الألغام. كردستان كلها مزروعة بالألغام. 22 مليوناً من الألغام تركتها قوات الحرس الجمهوري خلفها قبل أن تنسحب مجبرة من كردستان في العام 1992. هناك لغم لكل خمسة أشخاص، وكل مكان خارج الشارع العام يمكن أن يتحول إلى مقبرة. كردستان إذاً مقبرة متنقلة. علاقتي بالمقابر قديمة، قبل أن تكون أدبية. وفي كردستان تعمقت أكثر. فما الذي يستطيع أن يفعله الأدب في بلاد تحولت كلها إلى مقبرة متنقلة. هذا السؤال الملحّ، ترى ما الذي سيفعله صاحب "بيدرو بارامو"، في مقابر كردستان؟ وما الذي سيقوله لو زار مدينة حلبجة التي سوّتها طائرات الحرس الجمهوري مع الأرض، والتي تحولت كلها إلى مقبرة، من دون قبور، من دون شواهد قبور، بل ماذا سيقول لو زار قرية شاريا، حيث دُفن الناس أحياء في عملية الإبادة البشرية التي نفذتها وحدات الحرس الجمهوري العراقية، تحت كود: "حملة الأنفال". علاقتي بالمقابر قديمة، قبل أن تكون أدبية. ولكن ماذا أستطيع أن أفعل في مقبرة ليس فيها ولو شاهدة قبر واحدة؟ ماذا أفعل في حلبجة، التي اسمها وحده شاهدة قبر؟ ماذا أفعل في شاريا غير الموجودة على الخريطة؟ ماذا ستحكي لنا مقبرة حلبجة، وماذا ستروي لنا مقبرة شاريا، حيث آلاف الأطفال دُفنوا هناك، أطفال بعضهم مات وما زال يرضع من ثدي أمه؟ حلبجة، المقبرة التي لا تشبه مقبرة أخرى في العالم، لا حفاري قبور، ولا بلاطات قبور، فقط صور الأطفال المحروقين بغازات الخردل، الأطفال الذين شوهت وجوههم قنابل الحرق التي نزلت عليهم مثلما أنزل يهوا أمطار الثأر على المدن المسحوقة قبل تكوين العالم. شاريا المقبرة التي لا تشبه مقبرة أخرى في العالم، باستثناء أختها، مقبرة حلبجة. لا قبور، ولا شواهد قبور في المكانين، والأدب الرسمي الذي يكتبه كتبة السلطة ينكر وجودهما. أطفال حلبجة، أطفال شاريا، ما زالت صورهم أمام عيني. الأطفال هم أكثر من يحكون لنا القصص في المقابر. بالضبط عندهم يكشف الموت عن ألوان السمكة "الجميلة" المسمومة. وهناك، في كردستان، تبرز صورهم، هيئاتهم البريئة، تراقبنا بعيونهم الكبيرة، كما لو أنها تريد التحقيق معنا؟ أين كنتم أنتم أيها الأدباء ساعتذاك؟ ماذا فعلتم لنا؟ أي قصص، أي قصائد كتبتم عنا؟ نعم ما الذي يفعله الأدب لهؤلاء الأطفال الموتى؟ أعرف أنني أقف أمام كنز كبير، أمام مشاريع إنسانية، كل طفل كان يمكن أن يكون الآن صنع مصيراً آخر، غير ذلك الذي صنعته له الأيادي الشريرة. أمسك صورهم بيدي، وأقول، هذا الطفل كان مشروع مهندس يشق الطرق عبر جبال كردستان، وذلك الطفل هو مشروع روائي مستقبلي، وتلك الطفلة ألا تملك أصابع عازفة بيانو، يا للحسرة لن تسنح لها الفرصة لتقديم معزوفة لشوبان، وتلك الطفلة، الرسامة التي بالتأكيد تكون رسمت البلاد على صورة أخرى، غير الصورة التي رسمها الطاغية لها... وهذا الطفل... وتلك الطفلة: حلبجة، شاريا، وحقول الألغام، مقبرة أطفال مكتظة بمشاريع لم تكتمل. الآن وبعد العودة، أجمع الصور وقبل أن أعرضها على الأصدقاء، أحاول أن أكون متهيئاً للردّ على أسئلتهم، أبحث عن حجة أو عذر لهذا الميل "الغريب"، "غير المناسب" الذي سيحملني بالتأكيد هذه المرة على فقدان بعض الأصدقاء، سيسألونني ما الذي حملته لهم من البلاد، من الوطن "الضائع"؟ وأنا سأقول لهم، انتظروا، ثم أفتح لهم خرج الرحلة، صور الأموات، صور قتلى الأسلحة الكيماوية، قتلى حروب السلطة المركزية، قتلى الألغام، قتلى شرور الطاغية، التي تملأ كردستان" صور أطفال حلبجة، أطفال شاريا.... وفجأة أفكر، لا ضير سأعرف هذه المرة أكثر من أية مرة سابقة، كيف أشرح لهم الأمر، فإذا كانت علاقتي بالمقابر قديمة، قبل أن تكون أدبية، سأجعلها هذه المرة أكثر أدبية "خالصة"، وسأقول لهم: حاولوا أن تنظروا معي الى الموضوع على الأقل بحياد المقابر ذاتها، فالأمر لا يتعلق بمقابر بلادي "الضائعة"، إنما يتعلق بمقبرة ما، أي مقبرة، ألا ترون معي، كل مقبرة هي في الحقيقة نوع من الانسيكلوبيديا، نتعلم منها الكثير" انها العالم على شكل متحف متنقل، لكل ما لم يصل أبداً لتنفيذ ما خطط له، لتحقيق نفسه: الكلمات التي تركت نفسها الى هذا الغد الذي لم يأت، الكتاب المفتوح عند المنتصف، الرحلة التي توقفت بسبب توقف القلب عن الخفقان، أبيات الشعر الأخيرة للألياذة، القصيدة التي لم تكتب بعد، الرواية التي سيرويها معتوه، "ملؤها الصخب والعنف"، تلك العبارة التي نطق بها ملاك الموت، ماكبث، الذي تعرف إليه فقط أورسون ويلز، قبل أن يدخل المقبرة، "مقبرة الحكمة"، هو الآخر، وقبل أن أحمل لكم معي من رحلتي وصايا مقابر البلاد "الضائعة"، التي يُفترض أنها بلادي!