النسبة الغالبة من زوار القاهرة لا تفكر الا في زيارة الاهرامات، والمتاحف المشهورة، والمساجد والكنائس المنصوص عليها في كل الادلة السياحية والمندرجة في الغالبية العظمى من الرحلات المنظمة. اضف الى ذلك ان السياح، لا سيما اولئك الذين يمضون اياماً عدة فقط، متنقلين بين محل اقامتهم في الفندق الفاخر والرحلات المخططة لهم مسبقاً، لا يرون القاهرة الحقيقية وسكانها الحقيقيين. ولهذا تقترح "الحياة" ادراج عدد من الاحياء القاهرية ضمن الزيارات، لعل السائح يستنشق هواء مختلفاً عن ذلك المدبر له ويتذوق طعماً مختلفاً لقاهرة المعز. ونقدم هنا عرضاً لما يمكن ان يجده الزائر في عدد من احياء القاهرة الشمالية. ونبدأ من "بولاق" و"شبرا" و"روض الفرج". وحتى لو لم تطأ قدماك تلك الاحياء من قبل، فيقيننا انك سمعت عنها اما من صديق اضطرته الظروف للذهاب هناك، او من خلال الافيهات الكثيرة في الافلام المصرية. فهناك من الممثلين من اقترح ان تعلن "شبرا" استقلالها عن بقية القاهرة، ومنهم من يطلق على "بولاق" اسم "الصين الشعبية". والسبب معروف، اذ تقدر كثافة السكان في تلك الاحياء بنحو 170 ألف نسمة في الكيلومتر المربع، وهو عشرة اضعاف العدد في حي مثل "غاردن سيتي" الراقي في وسط القاهرة. و"بولاق"، هذا الحي الذي غنى له فريق شبابي اغنية تفخر بتركيبة سكانه واصالتهم، وارتباطهم الشديد بمبادئ "الجدعنة"، يقع شرق "كوبري 6 اكتوبر". هو اقدم احياء القاهرة الشمالية، واسمه مشتق من كلمة قبطية تعني "مستنقع". وفي العصور الوسطى، حول نهر النيل شاطئاً رملياً الى جزيرة التحمت مع الشاطئ الشرقي. وانتعشت "بولاق" كثيراً في العصر الفاطمي حين استخدمها الفاطميون في خمسينات القرن الرابع عشر ميناء بديلاً عن ميناء المكس. وزاد هذا الانتعاش حين أعيد تخطيط خط سير تجارة التوابل وبزغ عدد من الصناعات هناك. وأضاف محمد علي الى أهمية "بولاق" حين قرر تأسيس مسبك للمعادن ومصنع للمنسوجات، ومرفأ للسفن. ولم يكن هناك أنسب من "بولاق". لكن العثمانيين أتوا بالرياح التي لا تشيهيها السفن، وأخذت أهمية بولاق تضمحل حين سمحوا بالتجارة الحرة هناك. وأدى ذلك الى عرض البريطانيين منتوجاتهم المصنعة بأسعار بخسة تقل عن سعر المنتوجات المصرية، ما عاد بمصر مجدداً الى الاعتماد على صادراتها من القطن الى بريطانيا. ومنذ ذلك الحين غزت الورش الصغيرة والمباني السكنية هذا الحي العريق، وهو ما يتضح للزائر حالياً، ناهيك عن أسواق لا أول لها ولا آخر ممتدة في أغلب الشوارع والأزقة، تبيع كل شيء وأي شيء. ملابس جاهزة، أقمشة، أحذية، أجهزة كهربائية، أدوات منزلية، لعب أطفال، أطعمة، خضراوات، فواكه. ومعظمها أسواق لا تعرف النوم، فهناك من يبيع ومن يشتري طوال ساعات النهار والليل. وهناك من يصف "بولاق" بأنه حي "شعبي" أو "بلدي"، وهي صفات مطاطية، قد تعني "فقيرة" أو "أصيلة" أو "قديمة". وإذا استبعدنا صفة "الفقر" نظراً الى انهيار الهرم الاجتماعي وبالتالي الاقتصادي في مصر عموماً، فبولاق بالتأكيد حي قديم وأصيل. وفي هذا الحي يقع مبنى التلفزيون العريق ماسبيرو، وبرج "كايرو بلازا"، أحد العلامات المؤكدة لعصر الانفتاح. ولمحبي الآثار هناك المسجد المشهور الذي يجمع في بنائه بين الطرازين المملوكي والعثماني، إلى جانب حمام شعبي ما زال يفتح أبوابه للجمهور. وهناك "مسجد أبو العلا" في شارع 26 يوليو الذي يعود الى القرن الخامس عشر، وينسب اليه أحياناً حي بولاق برمته "بولاق أبو العلا". وعلى مقربة منه، يقع متحف المركبات الملكية الذي كان يوماً ما اسطبلاً ملكياً في عصر الوالي محمد علي. التشابه مع شبرا والحقيقة ان هناك أوجه شبه عدة بين بولاق وشبرا، شكلاً وموضوعاً. فسكان شبرا البالغ عددهم نحو مليوني نسمة، ينافسون سكان بولاق في الكثافة، وهو حي عريق كذلك. والجانب الأقدم منها يسمى "شبرا البلد". وهناك "شبرا الخيمة"، وهي الأحدث تاريخياً. وشأنها شأن "بولاق"، تعرضت أرض شبرا لعوامل جيولوجية ساهمت في تكوينها. لكن في حال شبرا ابتدأ الموقع فوق جزيرة ما لبثت ان اتصلت بالأرض بفعل الردم. كما ان شبرا ليست أقل حظاً من بولاق على المستوى الفني، فعشرات الأفلام المصرية جرت أحداثها هناك مثل "يوم مر، يوم حلو"، كما غنى لها المطرب الراحل محرم فؤاد "بحبك يا شبرا". وللغرابة فإن شبرا - الأشبه بخلية النحل المتخمة بالبشر والمباني الملتصقة - كانت الى حقبة متأخرة من القرن التاسع عشر حدائق وقرى لا يقطع انبساط اللون الأخضر فيها سوى عدد محدود جداً من البيوت الصغيرة. وعام 1808 بنى محمد علي قصراً صيفياً له في شبرا. وقدر له أن توافيه المنية فيه في ما بعد. كما بنى الخديوي اسماعيل في الحي نفسه عدداً من القصور، ومهد لها طرقاً زرعت على جانبيها أشجار التين والصمغ العربي. واليوم تحولت شبرا الى ما يشبه المدينة القائمة بذاتها. واتخذت في السنوات الأخيرة طابعاً تجارياً استهلاكياً، اذ افتتحت فيها مئات المحلات التي تبيع أحدث الأزياء، بالاضافة بالطبع الى المطاعم المتنوعة. واكتملت الصورة بتأكيد العم سام وجوده في هذا الحي الشعبي سابقاً، غير القابل للتعريف حالياً، وذلك بافتتاح أفرع ل"كنتاكي" و"ماكدونالدز" فيها. ولهواة التبحر والتأمل في علم الاجتماع، فإن شبرا تقدم نموذجاً فريداً في التحام الطبقات الغنية والفقيرة والمتوسطة الحال، العاملة وغير العاملة. ففيها الريفيون النازحون من القرى بحثاً عن فرصة عمل - غالباً لا تأتي - وفيها طبقة العمال، ونقصد السباك والميكانيكي والكهربائي، من أصحاب الثروات، وفيها كذلك الحاصلون على أعلى الشهادات الأكاديمية من أصحاب القوى الشرائية المتواضعة. أما روض الفرج، فهو الحي المتاخم لشبرا، ويمكن اعتباره جزءاً منها. وقد تمكن حي روض الفرج من أن يحفر لنفسه اسماً في تاريخ مصر الفني. فمن مسارح روض الفرج في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، خرج عدد كبير من عظماء التمثيل المصريين والعرب. كما اكتسب هذا الحي شهرته من سوق الخضر والفاكهة الضخمة التي انتقلت قبل سنوات قليلة الى مشارف القاهرة لتترك موقعها ذا البناء التاريخي كمكان ترفيهي يخدم سكان الحي. قد تكون زيارة بولاق وشبرا وروض الفرج بعيدة عن الشكل التقليدي للسياحة، لكنها بثرائها وقدرتها على اعطاء الزائر لمحة حقيقية عن القاهرة تستحق المحاولة.