يمكن النظر إلى "خريطة الطريق" التي طرحتها الإدارة الأميركية وعرضها مساعد وزير الخارجية وليام بيرنز في جولته الشرق الأوسطية الأخيرة بإحدى طريقتين: الأولى، أنها خطة وهمية تهدف إلى تحسين صورة الولاياتالمتحدة، أو تغيير الاعتقاد الشائع عنها في الأوساط العربية الآن، وهو أنها تسعى إلى إعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط لمصلحة إسرائيل، وتعد لضربة ساحقة ضد العراق فيما تترك ارييل شارون يواصل سحق الفلسطينيين. وبهذا المعنى، تبدو "خريطة الطريق" كما لو كانت مؤامرة جديدة للتحايل على الرفض العربي لشن هجوم عسكري على العراق. أما الطريقة الثانية في النظر إليها فتفيد أنها محاولة جادة لاستعادة المسار السلمي الفلسطيني - الإسرائيلي الذي كان آخر عهد للطرفين به في مفاوضات طابا في كانون الأول ديسمبر 2000. فحسب هذه الطريقة في النظر، تحتاج الولاياتالمتحدة إلى أجواء ملائمة لتحقيق أهدافها في الشرق الأوسط، ومن بينها تغيير النظام السياسي في بغداد. لكن ليس محتماً أن تكون هذه الأجواء مصنوعة أو تآمرية. فقد نظرت الإدارات الأميركية المتتالية، منذ ادارة ايزنهاور، الى تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي في مجمله باعتبارها ضرورة، وليست فقط هدفا، لسياستها الخارجية. وكان هذا أحد أسباب الصدام مع نظام جمال عبد الناصر منتصف خمسينات القرن الماضي، لأنه لم يكن مستعدا لمثل هذه التسوية. فالمشكلة، هنا، ليست في جدية واشنطن بشأن التسوية السلمية، بل في مضمون التسوية التي تراها مناسبة. وإذا كانت ادارة بوش الحالية تبدو الأكثر انحيازا إلى إسرائيل، فهي تحتاج في الوقت نفسه إلى تهدئة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال فترة الإعداد للهجوم على العراق. كما أنها تنظر إلى هذا الهجوم كنقطة تحول باتجاه "تحديث" منطقة الشرق الأوسط كي لا تبقى منبعا للإرهاب. ولا يمكن، بل يستحيل، تحقيق ذلك ما بقي الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة على حاله. ويعني ذلك أن لدى الإدارة الأميركية الحالية حافزاً للدفع باتجاه استعادة المسار السلمي يفوق ما كان لدى ادارة بوش الأب عقب "عاصفة الصحراء" في 1991، عندما ألقت بثقلها كله من أجل عقد مؤتمر مدريد للسلام آخر تشرين الأول أكتوبر من العام نفسه. طريقتان، إذاً، في النظر إلى خطة "خريطة الطريق". ومن السهل لأصحاب كل منهما حشد الحجج التي تؤيدها. لكن الصعب هو كيفية التعاطي مع هذه الخطة سعياً إلى تعظيم ما قد تنطوي عليه من مكاسب للفلسطينيين وتقليص ما قد تتضمنه من خسائر أو مخاطر. فلم تعد مشكلة العرب الآن، حكومات وشعوباً، محصورة في العجز عن الفعل، بل وصلت إلى حد عدم القدرة على بناء رد الفعل الملائم وفي الوقت المناسب. الكاتب الأميركي توني جوت لاحظ هذا في مقالة مهمة له في "نيويورك تايمز" في عددها يوم الأحد الماضي 20/10 قال فيها عن الحرب على العراق إنها "حرب خطأ في وقت خطأ"، لأنها لا تخدم الحرب الأهم ضد الإرهاب بل قد تضرّها. لكن أهم ما لمسه بؤس الوضع العربي العام بجموده وشيخوخته. فهذا هو "حال الأمة" الآن، في ظل انسداد قنوات التغيير الداخلي، الأمر الذي سيضع الدول العربية في مأزق لا سابق له في تاريخها الحديث إذا وقعت الحرب على العراق. فهي لا تزال تراهن على إمكان تجنبها، ولا غضاضة في ذلك ما لم يترتب عليه الانصراف عن استعداد واجب للتداعيات التي سيشهدها مستقبل المنطقة. لكن الحاصل هو استغراق في أمنيات تجنب الحرب على حساب الإعداد لما بعدها، في حال وقوعها. وقد ترك هذا الانصراف، المعتاد، عن المستقبل والانغماس في اللحظة، أثراً واضحاً في ردود فعل الدول العربية، التي زارها بيرنز خلال الأيام الماضية، على "خريطة الطريق". فقد جاءت تقليدية وإلى حد ما بيروقراطية تفتقر إلى رؤية تربط هذه الخطة بما يحدث في المنطقة عموماً، ولجهة الإعداد للهجوم على العراق خصوصاً. وبدا كما لو أن هذه الدول فوجئت بالخطة، رغم أن عناصرها الأساسية مطروحة منذ نحو أربعة شهور، وتحديدا منذ خطاب بوش المشهور في 24 حزيران يونيو الماضي، حيث أعلن رؤيته للسلام بين الفلسطينيين وإسرائيل. كما قام الاتحاد الأوروبي بدور معتبر في تطوير هذه الرؤية وتحويلها إلى خطة، خصوصا عندما سعت الدنمارك إلى وضع جدول زمني لعملية Process تمتد نحو ثلاث سنوات وتبدأ بإصلاح السلطة الفلسطينية ثم اعلان دولة ذات حدود موقتة وتنتهي بإقامة الدولة ضمن تسوية نهائية. مع ذلك وجدنا وزير خارجية مصر أحمد ماهر يقول إن "خريطة الطريق" تحتاج إلى دراسة. فماذا كان يفعل، إذاً، قبل جولة بيرنز؟. لقد كان ممكناً للدول العربية استثمار الجولة لإعطاء دفعة قوية لخطة "خريطة الطريق" والحصول على ضمانات في شأن تطبيقها على نحو يؤسس لمكاسب ينتزعها الفلسطينيون في لحظة تحتاج فيها واشنطن إلى تقديم شيء ما للعرب. لكن جولة بيرنز مرت من دون التأسيس لمثل هذا. وربما ساهم في ضعف الأداء العربي خلالها رد الفعل الفلسطيني المثير للدهشة تجاه "خريطة الطريق". فقد اختارت السلطة الوطنية موقف التحفظ الغامض على خطة سياسية قلباً وقالبا، رغم أنها سبق لها قبول خطط أمنية هزيلة مثل خطتي ميتشيل وتينيت. والمفارقة أن السلطة الفلسطينية كانت قد رحبت بالعناصر الأساسية المتضمنة في "خريطة الطريق" عندما وردت في خطاب بوش من دون جدول زمني محدد وفي غياب آلية لضمان التنفيذ. وعندما توفر كل من الجدول والآلية، بما يعنيه ذلك من وضع أفضل للجانب الفلسطيني، تحول الترحيب إلى تحفظ!! ولا يقل إثارة للدهشة أن يتحفظ الفلسطينيون عن خطة يمكن أن تضع شارون في المأزق الأول من نوعه مع الرئيس بوش بعد "شهر عسل" تكفلت أخطاؤهم، سلطةً ومعارضةً وفصائلَ، بجعله أكثر وداً وإطالة أمده حتى الآن. فيعرف شارون جيدا أن المصلحة الأميركية ستفرض على بوش أن يمارس ضغطا عليه ليقدم تنازلات تتيح أجواء أفضل إبان الهجوم العسكري على العراق. ولذلك فهو يبدو مرتبكا منذ أن عرضت عليه "خريطة الطريق" في واشنطن قبل عشرة أيام. ولم يتسن له أن يسعد بالتساهل الذي أبداه بوش في شأن رد إسرائيل على أي ضربة صاروخية عراقية عندما يبدأ الهجوم العسكري الأميركي. وربما فهم شارون أن بوش يمنحه حرية حركة نسبية خلال الحرب إزاء ضربة عراقية قد لا تحدث، في مقابل تقييد حركته قبل الحرب وبعدها. لكن السلطة الفلسطينية لم تفهم ذلك، فجاء موقفها ليؤكد مجدداً أن العرب أصبحوا عاجزين عن رد الفعل الملائم وليس فقط عن الفعل المؤثر. ومع ذلك ما يزال فى إمكان الرئيس عرفات أن يصحح الخطأ في رد الفعل الفلسطيني على "خريطة الطريق" لينسجم مع الاصلاحات التي يقوم بها في أصعب الظروف. فلم يعد الوضع الفلسطيني يحتمل المزيد من الأخطاء. وإذا كانت الدول العربية تمتلك "ترف" عدم القدرة على اتخاذ رد الفعل، الصحيح، وما هي كذلك في الواقع، فليس لدى الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت النار مثل هذا "الترف". وحيد عبد المجيد