الحملات الدعائية ضد العروبة والإسلام تثير المخاوف لدى الشعوب الغربية عموماً والأميركيين خصوصاً، من القيم والمبادئ الفكرية والأخلاقية والدينية التي تحكم الحضارة الإسلامية والثقافة العربية، بزعم أنها قيم ومبادئ تدعو إلى العنف وإرهاب الآخرين وترويع الآمنين، وغير ذلك من الدعاوى التي تتكرر منذ عقود، وهذا يحتم التصدي لها في قوة وحزم بدلاً من الدفاع السلبي الذي يلجأ إليه المسلمون في العادة لدرء الشبهات. تحمل الحضارة الإسلامية، ومعها الثقافة العربية، من القيم الإنسانية السامية ما يحاول الغرب والعالم المعاصر الآن تحقيق بعضه من خلال هيئة الأمم ومنظماتها الكثيرة تحت شعارات حقوق الإنسان التي يتصور الغرب أنه أول من ابتدعها بفضل تفكيره الليبرالي الحديث. وإذا كان بعض المنظمات الإسلامية المتطرفة يلجأ الآن إلى العنف في تعامله مع الغرب فإن جانباً من المسؤولية عن اللجوء إلى هذا الأسلوب الممجوج يقع على الغرب نفسه وعلى أميركا خصوصاً التي شجعت الجماعات المتطرفة حين احتاجت إليها لتحقيق أهدافها السياسية في ظروف معينة، وأن ذلك العنف الذي يتجاوز في بعض الأحيان في قسوته كل التوقعات والتصورات المحتملة هو تعبير حاد عن مشاعر الغضب والتمرد والرفض والتحدي التي تسود العالم العربي إزاء مواقف التعالي والغطرسة والظلم التي يتبعها الغرب في تعامله مع العرب والمسلمين والتي تنم عن الكراهية التي تكشف عنها آراء الكثيرين من الكتاب والمفكرين والساسة بل بعض رجال الدين تجاه الإسلام. وهي آراء لا يمكن لأي مسلم - بحكم العقيدة - أن يبديها نحو المسيحية أو اليهودية. وحين ذكر الرئيس بوش أن حرب أميركا ضد الإرهاب الإسلامي هي حرب صليبية إنما كان يعبر من دون وعي وبزلة لسان عن المشاعر الدفينة في نفوس الكثيرين في الغرب تجاه الإسلام. وسؤال الرئيس بوش أيضاً لماذا يكرهوننا؟ هو إسقاط لمشاعر الكراهية التي يحملها نحو الإسلام. فالكراهية هي كراهية الغرب للآخرين وليس العكس، وسلوك الآخرين العنيف ضد السياسة الأميركية هو رد فعل طبيعي على تلك الكراهية، وإن كانت أميركا تريد إظهار الأمور على عكس حقيقتها حتى تضع الآخرين موضع الشك والاتهام والدفاع عن النفس وتظهر هي بمظهر الضحية البريئة المعتدى عليها من دون ذنب ارتكبته في حق هؤلاء المعتدين. وهذا لا يعفي الأعمال الإرهابية على أي حال من الإدانة الأخلاقية. وتختلف مظاهر الرفض والغضب والتحدي من دولة الى أخرى، تبعاً للظروف المحيطة، لكنها كلها تعبر عن ثورة فكرية وعاطفية في عقول المسلمين والعرب ونفوسهم ضد نظرة الغرب وتصميمهم على إيجاد نوع من التوازن القائم على الاحترام المتبادل مع الغرب. ولقد كانت روح التحدي دائماً من الصفات الأساسية المميزة للإسلام كدين وعقيدة وأسلوب للحياة. وتاريخ العالم الإسلامي والعربي مملوء بالثورات ما يدل الى حيويته وديناميته على عكس ما يعتقد الكثيرون وعلى رغم النتائج الوخيمة التي انتهت إليها بعض هذه الثورات. هذه الروح المتمردة والكامنة وراء السكون الظاهري هي ذاتها التي تقلق الغرب الآن على رغم معرفته بضعف العرب والمسلمين مادياً وعسكرياً وتكنولوجياً في المرحلة الراهنة. فلم ينس الغرب كيف كان الإسلام يشكل في فترة من فترات تاريخه قوة ضاربة أفلحت في احتلال بعض الأجزاء الجنوبية من أوروبا وهددت العالم المسيحي اليهودي في عقر داره. وعلى رغم اضمحلال هذه القوة ووقوع العالم الإسلامي - أو معظمه - تحت سيطرة الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر استمر الغرب يثير المخاوف من الإسلام والعروبة ويعمل على محاربتهما بشتى الطرق والوسائل ويجاهد للقضاء على الدين واللغة و يعتبرهما عدواً لدوداً لحضارته وثقافاته وأساليب حياته، ويتهمهما بالتعصب والعنف ضد الأديان والقوميات الأخرى. وظهر منذ السبعينات الماضية على وجه الخصوص تعبير "الإسلام المحارب" لوصف كل الحركات الإسلامية التقدمية التي تعمل على تغيير الأوضاع الراكدة في العالم الإسلامي ذاته ومكافحة توجهات الهيمنة والتحكم الخارجية، حتى وإن لم تلجأ إلى العنف في تحقيق أهدافها. وساعد على ترسيخ هذه المخاوف أحداث 11 أيلول سبتمبر الأخيرة وانتهاز وسائل الإعلام الغربية والأميركية بالذات، خصوصاً الأجهزة الإعلامية الموالية لإسرائيل والخاضعة لسيطرة اليهود، هذه الأحداث للتشهير بالعروبة والإسلام وتعميق روح الكراهية للعرب والمسلمين والتحريض على أقسى العقوبات بحق الدول العربية والإسلامية "الشريرة" أو "المارقة" التي ساعدت في تمويل الجماعات الإرهابية تحت ستار الأعمال الخيرية. تعبير الإسلام المناضل أو المكافح أو المحارب نجده في وسائل الإعلام الأميركية بطريقة ملتوية للتخويف والترويع والتشهير، كما الحال مثلا في المقالات الكثيرة التي تحمل هذا التعبير وتنشرها مجلة "كومنتري" Commentary Magazine الأميركية التي تتناول من وجهة نظرها الخاصة بعض المشكلات الشائكة مثل مشكلة معاداة السامية التي يجيد كتّاب يهود اللعب بها وتسخيرها لخدمة أهوائهم ومصالحهم. ومعظم مقالات هذه المجلة التي بدأ صدورها في تشرين الثاني نوفمبر 1945 - أي قبل قيام إسرائيل بحوالى ثلاث سنوات - دعوات سافرة لتعبئة المشاعر ضد العالم العربي وضد الإسلام والمسلمين. ويشارك في هذه الحملات كثير من المتعصبين للصهيونية من أمثال آدم ولفسدون وإفرايم كارش وجون ليفنسون، كما أن المجلة أفلحت في إغراء عدد من غير اليهود بالكتابة ضد الإسلام كفرانسيس فوكوياما الذي كتب في عدد أيلول 2002 مقالاً في عنوان "هل هناك أي خير في الإسلام الأصولي". وكان هاجس القومية العربية يؤرق فكر المشرفين على المجلة منذ بداية ظهورها حيث نجد في عدد نيسان إبريل 1948 - على سبيل المثال - مقالاً بقلم جون مارلو عنوانه "كيف نتعامل مع القومية العربية؟"، وفي عدد شباط فبراير 1949 مقالاً بقلم جوفتن عن "التيارات المتلاطمة في مشاعر العرب الوطنية"، وهكذا. وكان من الطبيعي أن تنتهز المجلة أحداث أيلول للإسهام بقوة في إثارة الرأي العام الأميركي ضد العرب والمسلمين فيكتب فيكتور ديفيز هانسون مثلاً "أعداؤنا السعوديون" في عدد تموز/ آب يوليو/ أغسطس 2002، كما يكتب جوشوا مورافشيك "القلوب والعقول والحرب ضد الإسلام" في عدد آيار مايو 2002، مثلما يكتب تيري إيستلاند عن "النزعة الإسلامية: شركة متحدة" في عدد آذار مارس 2002 وهكذا. ولعل أشد هؤلاء الكتاب تحاملاً وأكثرهم تهجماً على العروبة والإسلام المفكر الليكودي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط دانييل بايبس Daniel Pipes وهو في الوقت ذاته أكثر هؤلاء الكتاب أيضاً مثابرة على النشر في المجلة وأقدرهم على تغليف تحيزه وتعصبه ضد الإسلام بغلالة رقيقة من الموضوعية الزائفة، وهو أسلوب يجيده كثير من الكتاب اليهود خصوصاً في أميركا. وعناوين بعض مقالاته تكشف عن نوع الآراء المتطرفة التي يعتنقها وينشرها. ففي عدد تشرين الثاني نوفمبر 2001 أي بعد شهرين اثنين من أحداث 11 أيلول يكتب عن "الخطر: الإسلام المحارب في أميركا" لكي ينبه الرأي العام إلى أن الأميركيين المسلمين يشاركون الإرهابيين الذين قاموا بتفجير مبنى التجارة العالمي ومبنى البنتاغون في كراهيتهم للولايات المتحدة على عكس ما يقول الرئيس بوش، وعلى رغم تظاهرهم بالتعاطف مع الدولة في مكافحة الإرهاب. وبعد ذلك بشهرين اثنين أيضاً أي في عدد كانون الثاني يناير 2002 يكتب في عنوان "من هو العدو؟"، ويعلن رأيه صراحة بأن الإسلام المحارب هو العدو الحقيقي لأميركا. والواقع أن مقالاته وكتاباته السابقة على أحداث أيلول كانت هي أيضاً تصدر عن الكراهية ورغبة التشكيك في ولاء الأميركيين المسلمين للولايات المتحدة كما الحال في مقاله في عدد آيار 1999 الذي يتهم فيه الحركات الإسلامية الأصولية باستعدادها عند اللزوم للوقوف ضد أميركا وقتل اليهود الأميركيين بالذات. وليس من شك في أن هذه الآراء تجد صدى ولو محدوداً في الرأي العام الأميركي وتساعد على إثارة الشكوك والمخاوف من الإسلام والمسلمين، وتعمل على تهيئة الأذهان لتقبل فكرة أن الحضارة الإسلامية معادية لحضارة الغرب، وهي الدعوى التي نجدها في شكل آخر في كتاب صامويل هنتنغتون عن صراع الحضارات. ومنذ شهور قليلة أعاد دانييل بايبس نشر بعض مقالاته المعادية في كتاب تعمل المنظمات اليهودية ووسائل الإعلام على الدعاية الواسعة له. ويحمل الكتاب عنواناً مثيراً للغاية هو "الإسلام المحارب يصل إلى أميركا" وهو في مجموعه ينعى على أميركا ترددها في الإعلان صراحة عن أن الحركات الإسلامية هي العدو الحقيقي الذي يهدف إلى القضاء على ديموقراطية الغرب من ناحية وإحلال نظام الحكم الإسلامي الأوتوقراطي في دول العالمين العربي والإسلامي. وليس ثمة فارق في ذلك بين جماعات إسلامية معتدلة وأخرى متطرفة، فالكل سواء في العداء للغرب وأسلوب حياته وقيمه وتقدمه العلمي والتكنولوجي، وأن ثمة خطراً حقيقياً يواجه الغرب وحضارته، يتمثل في سرعة انتشار الإسلام في العالم الثالث وبين الجماعات والفئات المهمشة والمتمردة في دول العالم المتقدم مثل زنوج أميركا ما قد يؤدي إلى إثارة النعرات العرقية ومعاداة السامية على ما هو واضح - في رأيه - من مواقف جماعة أمة الإسلام بزعامة الأميركي الزنجي المسلم لويس فرقان الذي "ينشر العداوة ضد الساميين بين الزنوج". وقد تكون مجلة "كومنتري" غير معروفة لدى الكثيرين في العالمين العربي والإسلامي، لكن كتاباتها ودعاواها الخطيرة تستحق الانتباه. وليس من شك في أن هذه الدعايات القوية والمستمرة تؤثر بشكل أو بآخر في اتخاذ القرار الأميركي الى درجة أن الرئيس بوش يصف حربه ضد الإرهاب بأنها حرب صليبية، كما هو معروف، ويتخذ هذا الموقف المتصلب والمتعنت من بعض الدول العربية في الوقت الحالي وكأنه يريد أن يكرر - ولو في شكل آخر - ما فعله القائد الفرنسي الجنرال غورو الذي دخل دمشق عام 1920 بعد معركة ميسلون وكان أول ما فعله هو أن وقف على قبر صلاح الدين وضربه بيده قائلاً: "ها قد عدنا يا صلاح الدين". * أنثروبولوجي مصري.