أصبح واضحاً أن الأزمة المالية ثم الاقتصادية التي ضربت عموم العالم خلال العامين الماضيين قد دخلت في طور اعادة انتاج النظام الاقتصادي العالمي تمهيداً لإعادة تشكيله سياسياً وعسكرياً. التوتر الصيني - الأميركي الذي عبّر عن نفسه في شكل مفضوح خلال الأسابيع القليلة الماضية يدل على اننا بلغنا فعلياً هذه المرحلة، وإن في وقت أبكر مما كان متوقعاً. فالتوتر الأميركي - الصيني الذي يجرى اختصاره خطأ في اعلامنا العربي بإيران يحمل في طياته صراعاً أبعد وأعقد من مجرد مشكلة اقليمية حتى لو كانت بحجم الملف النووي الإيراني. فإيران هي مشكلة طارئة على العلاقات المعقدة مع الصين التي تعتبرها واشنطن منذ اليوم الأول لسقوط الاتحاد السوفياتي خصم المستقبل. خلال زيارته للصين في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي اشتكى الرئيس الأميركي باراك أوباما من الخلل في الميزان التجاري الذي يميل بقوة لمصلحة الصين، مطالباً هذه الأخيرة بتقليل اعتمادها على السوق الأميركية والتحول نحو نمط استهلاكي أكبر، كما طالب بتحرير سعر «اليوان» الذي جعل قيمته المنخفضة البضائع الصينية أرخص عالمياً وأقدر على المنافسة في ظل أزمة اقتصادية طاحنة. الصين التي تمكنت سريعاً من تجاوز ظروف الأزمة، والاستفادة حتى من بعض مظاهرها، لم يرف لها جفن، خصوصاً مع تحولها الى أكبر حامل لسندات الخزينة الأميركية (المصدر الرئيس للإنفاق الأميركي) ورافعة للاقتصاد العالمي مع تحقيقها العام الماضي نمواً بنسبة (10.7 في المئة)، اضافة الى استحواذها على الجزء الأكبر من احتياط العالم من الدولار الأميركي واتجاهها للحلول محل اليابان كثاني أكبر اقتصاد بعد الولاياتالمتحدة. وعلى رغم اتجاهه الى فرض اجراءات حمائية ضد الصين وفرض ضرائب أعلى على الشركات الأميركية العاملة فيها، إلا أن أوباما كان مدركاً ومنذ مجيئه الى السلطة ان هناك شيئاً ما تغير في بنية النظام الدولي. فللمرة الأولى منذ انشاء نظام «برتن وودز» في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي أكدت هيمنة الغرب الصناعي على القرار الاقتصادي العالمي، انضمت عشرة من الاقتصادات الناشئة الى نادي الكبار الذي طالما اقتصر التمثيل فيه على الدول الصناعية الكبرى (الولاياتالمتحدة - المانيا - اليابان - بريطانيا - فرنسا - ايطاليا وكندا). وعلى رغم انضمام روسيا الى مجموعة السبع الكبرى أو (G7) بعد أن تحولت الى اقتصاد السوق عقب نهاية الحرب الباردة، إلا أن اقتصادات مهمة بحجم الصين والهند والبرازيل ظلت تقبع في العراء بانتظار الفرصة المناسبة لدخول نادي الكبار. هذه الفرصة غدت في متناول اليد، فبعد زلزال الانهيارات المالية، أدركت دول الغرب الصناعية أنها غير قادرة بمفردها على الإحاطة بتداعيات الأزمة فاضطرت للاستنجاد بدول طالما عاملتها بفوقية واضحة وأطلقت عليها اسم الاقتصادات الناشئة. ما يحصل اليوم يشبه في كثير من وجوهه الأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم في ثلاثينات القرن الماضي. ويذهب معظم المؤرخين الى أن أحد أهم الأسباب التي أدت الى سقوط معاهدة فرساي وانهيار نظام التعددية القطبية الذي ساد في فترة ما بين الحربين هو الانهيار المالي الشامل الذي وقع خريف العام 1929 وعرف باسم «الكساد الكبير». في ذلك العام تعرض النظام المالي الدولي الى هزة خطيرة تهاوت على أثرها معظم البورصات العالمية وعلى رأسها بورصة نيويورك ولندن، ما دفع بالاقتصاد الأميركي - الذي بدأ منذ عام 1876 يحل محل الاقتصاد البريطاني كأكبر اقتصاد عالمي، الى حافة الانهيار. في معرض ردها على تلك الأزمة ولمنع الدخول في حالة ركود يترتب عليها فصل مئات آلاف العاملين من وظائفهم، بادرت ادارة الرئيس هيربرت هوفر الحاكمة حينئذ الى فرض رسوم حماية مرتفعة على البضائع الأوروبية (الألمانية خصوصاً) لمنع اغراق السوق الأميركية. الإجراءات الأميركية أدت الى خفض الواردات وحالت دون إفلاس مئات الشركات، لكنها أدت في المقابل الى دخول المانيا في أزمة اقتصادية خانقة. استغل النازيون الاستياء الشعبي من الوضع الاقتصادي المستجد فقفزوا الى السلطة في انتخابات العام 1933 تحت شعار التخلص من الشروط المذلة التي فرضها عليهم الحلفاء في باريس عام 1919. في ذلك الوقت كانت ألمانيا تدفع تعويضات الحرب بموجب معاهدة الهدنة، لكنها بدأت تعجز عن السداد، فراحت تبحث عن مخرج، ولاحت الحرب حلاً وحيداً. انتهت الحرب بانتصار الحلفاء وكانت الولاياتالمتحدة المستفيد الأكبر من نتائجها. فقد أخرجت الحرب الكونية الأطول والأكثر عنفاً الاقتصاد الأميركي من حالة الركود من خلال تسخير الاقتصاد لخدمة الآلة الحربية، فدارت عجلة الإنتاج وتنامي الاستهلاك وساعد التنافس على حصول تطور تكنولوجي هائل. أعادت الحرب انتاج النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، فتربعت أميركا على عرش العالم، ومع ظهور نذر الحرب الباردة وخوفاً من تنامي الاستياء الشعبي نتيجة الوضع الاقتصادي السيء وبالتالي تعبيد الطريق أمام سيطرة الأحزاب الشيوعية الناشطة على معظم أوروبا الغربية قررت واشنطن مساعدة أوروبا على اعادة البناء والتخلص من آثار الحرب، فكان مشروع مارشال. قدمت الولاياتالمتحدة وفق هذا المشروع ما يزيد على 47 مليار دولار (دولار ذهبي بقيمة ذلك الوقت) على شكل مساعدات اقتصادية استفادت منها معظم أوروبا الغربيةواليابان. ولم تمض سنوات قليلة حتى تعافت اقتصادات هذه الدول وشكلت الى جانب الراعي الأميركي أعمدة النظام الاقتصادي والسياسي العالمي لمعظم فترة الحرب الباردة. خلال الحرب الباردة شهد العالم أكبر صراع ايديولوجي في تاريخه، استخدم خلالها أطراف الحرب كل الوسائل المتاحة لإرهاق الخصم ودفعه الى الاستسلام. وقد بدأت الحرب بنظرية الاحتواء التي وضع أسسها السفير الأميركي في موسكو جورج كينان عام 1946. تقوم النظرية على أساس انشاء أحزمة سياسية وعسكرية تحيط بالاتحاد السوفياتي لمحاصرته ومنعه من تحقيق اختراقات في جسم المعسكر الغربي تمهيداً لقضمه وانتهاء بالقضاء عليه. ونتيجة لذلك شكلت واشنطن حلف شمال الأطلسي الذي ضم معظم الحلفاء الغربيين كما ظهر حلف بغداد في منطقة الشرق الأوسط لمحاصرة الاتحاد السوفياتي من خاصرته الجنوبية وجرى استكمال ذلك بإقامة وجود عسكري أميركي في اليابان وكوريا الجنوبية لإطباق الحصار على موسكو. وعندما فشل الاحتواء اخترع روبرت مكنمارا وزير الدفاع في ادارة الرئيس كينيدي نظرية سباق التسلح لإرهاق الاقتصاد السوفياتي تمهيداً لإسقاطه. عملت واشنطن على هذا المبدأ في فترات كانت أخطرها عندما بدأت ادارة ريغان مشروع حرب النجوم دافعة بسباق التسلح الى مستويات غير مسبوقة ما أدى الى سقوط الاتحاد السوفياتي وإنهاء الحرب الباردة. في دراسته الشهيرة «صعود وانهيار القوى العظمى» رأى المؤرخ البريطاني بول كينيدي ان انحدار كل امبرطوريات العالم ويبدأ عندما تنفق على الانتشار العسكري أكثر من قدرتها على الإنتاج وتعويض الإنفاق، وهو ما حدث مع الاتحاد السوفياتي. لكن المؤشرات الأخيرة تدل على أن الولاياتالمتحدة نفسها قد تتعرض ببطء للصيرورة نفسها. فنتيجة الحرب التي أعلنتها ادارة الرئيس بوش على «الإرهاب» بعد هجمات أيلول (سبتمبر) 2001 وما استتبعها من زيادة هائلة في النفقات الدفاعية والأمنية وتحميل القوة الأميركية أعباء الانتشار على امتداد قارات العالم ومحيطاته مضافاً اليها تكاليف مشاريع أخرى مرتبطة بحرمان أعداء مفترضين من القدرة على توجيه الضربة العسكرية الأولى (الدرع الصاروخية) فضلاً عن تكاليف تعزيز الأمن الداخلي التي أعقبت هجمات سبتمبر) كل ذلك مترافقاً بتداعيات الأزمة المالية، الإنفاق الكبير والدين الهائل وظهور عوارض عجز واضح عن تأمين التمويل اللازم يعزز فرضية الانحدار في القوة الأميركية. في سبعينات القرن الماضي وضع المفكر السياسي الشهير ايمانويل والرشتاين مجموعة أفكار أطلق عليها اسم نظرية المركز والأطراف. شكلت هذه النظرية مفصلاً مهماً في تاريخ النظام الدولي وأسهمت في تحقيق فهم أفضل لديناميكيات الحركة فيه. يرى والرشتاين ان النظام العالمي يتألف من ثلاث دوائر أساسية هي الدائرة المركزية والدائرة نصف المركزية والدائرة الخارجية أو (الأطراف). تتألف الدائرة المركزية من القوى الاقتصادية والعسكرية الكبرى المهيمنة على النظام العالمي في حين تتجمع في الدائرة الثانية القوى الإقليمية المهمة التي تمتلك اقتصادات نصف متطورة، أما ما تبقى من دول في العالم فهي تقع في الدائرة الخارجية وهي بمعظمها دول نامية فقيرة لا يعتد بها وتعيش على الهامش. لكن والرشتاين يرى ان هذا النظام غير ساكن بل يتمتع بديناميكية عالية حيث تتنافس الدول على الاقتراب من المركز من خلال تطوير اقتصاداتها وقواها العسكرية والتكنولوجية، في الوقت نفسه عندما تتدهور امكانات دول المركز فإنها تخرج في شكل تلقائي منه بدفع من القوى التي تسعى الى الدخول اليه. وعليه بمقدار ما يتمتع المركز بقوة جذب كبيرة فهو أيضاً يتمتع بقوة نبذ توازيها في القوة. وهكذا تدخل الى المركز دول وتخرج منه أخرى لتستقر في الدائرة نصف المركزية وربما يتم طردها الى الأطراف. هذا الأمر يحصل في كل الدوائر التي تشهد حركة دائمة في شكل الصراع والتنافس المحرك الأساسي لها. شكلت القمم الأخيرة لمجموعة العشرين، تطبيقاً عملياً لنظرية والرشتاين، حيث ضمت قادة دول يشكلون 90 في المئة من الاقتصاد العالمي جاؤوا مقتنعين بضرورة السعي الى تعديل أسس عمل الصندوق والبنك الدوليين واتفاقات «بريتن وودز» - التي وضعت عام 1945 لتعكس موازين القوى السياسية والاقتصادية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية - وإعطاء دور أكبر للاقتصادات الناشئة في اقرار توازن عمل الهيئات الدولية بدل حصر الدور بالولاياتالمتحدة ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى. قادة الصين وروسيا والهند والبرازيل التي تشكل نحو نصف الاقتصاد العالمي تسعى بقوة الى دخول المركز وهي جاءت الى القمة أصلاً بدعوة من الكبار الذين يعانون مشاكل بنيوية في اقتصاداتهم قد تؤدي في المدى المتوسط الى خروجهم من المركز وترك المكان لدول أخرى جاءت من الدائرة الوسطى تريد الحلول محلها. هذا التحليل تؤكده دراسة أعدها مجلس الاستخبارات القومي الأميركي تحت عنوان «الاتجاهات العالمية في 2025» وجاء فيها ان الأزمة المالية العالمية الحالية هي بداية اعادة توازن اقتصادي على مستوى العالم، وأن العشرين سنة المقبلة ستكون فترة انتقالية نحو نظام عالمي جديد. ويتوقع التقرير انضمام الصين والهند الى الولاياتالمتحدة على رأس القوى الكبرى، وأن تنافس الدولتان أميركا على النفوذ. ويقول ان وضع روسيا كقوة كبرى غير مؤكد، بينما ستحصل دول مثل تركيا وإيران وإندونيسيا على نفوذ متزايد. أما النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية فستطمس معالمه تماماً بحلول عام 2025 بسبب بروز القوى الجديدة الصاعدة، وعولمة الاقتصاد، والانتقال التاريخي للثروة من الغرب الى الشرق. التنافس الصيني - الأميركي المتصاعد يعكس جزءاً من التحولات الكبرى التي تحصل على مستوى النظام الدولي في دائرته المركزية كما وصفها والرشتاين. * كاتب سوري.