استقبلت صالات عروض الفن المعاصر في "مركز بومبيدو" الثقافي اخيراً معرضاً لاظهار نشاط مدرسة "الباوهاوس" الألمانية التي كانت شديدة التأثير في ثلاثينات اوروبا ما بين الحربين العالميتين، ولا يزال تأثيرها قائماً حتى اليوم في الولاياتالمتحدة. وتملك هذه المدرسة سطوة ثقافية حداثية في تاريخ الفن المعاصر الغربي والعربي معاً، ليس فقط بسبب دعوتها الشمولية التي تجمع شتّى الصناعات والفنون حول العمارة، وإنما ايضاً بسبب شموليتها الذوقية والحضارية التوليفية التي تستعيد تقاليد العصور الوسطى لناحية مساواة الفنون التطبيقية بتلك النخبوية، وترسّخ هذه التوحيدية، إعادة استثمار فنون الحضارات الرديفة خصوصاً او العربية الاسلامية. نقل فاسيلي كاندينسكي فنون آسيا والشرق العربي والدته مغنية من اصل صيني مسلم، وتبدو تأثيرات السيراميك صريحة في اعماله، وأهدى مجموعة تدعى "عربيات" الى التراث المشرقي، ويبدو حمل الفن الاسلامي لدى بول كليه اشد حسماً، باعتماده على التوقيع الجبري والتنويط اللوني وفق نظام رقعة الشطرنج، ودراسته التي تحفظها "اليونيسكو" عن الفن الاسلامي عن المحراب مقاومة الاشكال دليل استمداده الاصيل من معين التجريد الاسلامي. ووصل تأثر إيتن بالفن البوذي الى ان اعتنق ديانته وأصبح نباتياً لا يأكل اللحوم. ونقل موهولي ناجي هذا التوليف المتسامح الى فرع "الباوهاوس" في بودابست هنغاريا، فكان فكتور قازاريللي من تلامذته، هو الذي حقق لقاء لقاحياً بين الاصول البصرية للغرافيك الاسلامي والبحوث التشكيلية المعاصرة. وترجع الفكرة الى العام 1555، اي الى عصر الامبراطور المغولي علي أكبر خان الذي كان مصوراً بارعاً في رسوم المخطوطات المنمنمات وترك الكتاب الوحيد عن تقنيتها وفلسفتها، وأسس هذا العاهل المتسامح معبداً بلورياً في ذلك التاريخ ليتحاور تحت قبته الزجاجية فقهاء من الاديان التوحيدية وسواها. عندما تأسس مدرسة الباوهاوس عام 1919، كُلف المهندس والتر غروبيوس من مختارية وايمر ببناء يقترب رمزياً من هذه الفكرة. وهكذا كان فبنى عمارته البسيطة التربوية عام 1925 اشبه بمحترف توليفي كبير الى جانب عمارات المبيت للأساتذة والطلاب ثم اصبح مديراً لها، وكان فضّل مدينة داسو القريبة من وايمر بعيداً من كثافة المدن الصناعية، وعلى رغم تعدد المهندسين الذي اداروا المدرسة فقد بقي غروبيوس رمزاً نظرياً لها. يحفل القسم الاول من المعرض في مركز بومبيدو بوثائق تعرض للمرة الاولى عن بداية ومراحل هذه العمارة وتصاميمها الاولى وتعديلاتها اللاحقة، يعكسها الشعار الذي صممه الحفّار ليونيل فيننغر ولوحته الطباعية التي تمثل واجهة المدرسة - المعبد. كما يحفل المعرض بمثل هذه الوثائق المفاجئة، واللوحات التي تعرض للمرة الاولى، ذلك ان غالبية المعروضات وفدت من ميراث نينا، ابنة كاندينسكي التي توفيت عام 1981. وكذلك من مؤسسة كاندينسكي. يعبر الاسم "باوهاوس" عن الاحرف الاولى من تعبير "فنون العمارة" ولكن المعنى الادق هو: "الفنون والصناعات التي ترفد العمارة". ويكشف تاريخ هذه المدرسة النخبوية القلق وعدم الاستقرار في مرحلة الاجتياح النازي، فقد اتهمت بعدم موافقتها على الفن الاعلامي الملتزم، و"بالتجريد" وتحريم الصورة، كانت مختبراتها تعكس ظاهرة التجريد في اوروبا بأجمعها والاتجاه الى شمولية لغة الاشارة والبعد الروحي فيها، وهو ما شرحه كتاب كاندينسكي ما هو روحاني في التصوير وكتاب بول كليه الخط واللون والفراغ. بدأ الازعاج منذ عام 1933 فانتقلت المدرسة من داسو الى وايمر ثم الى برلين ثم اغلقها النازيون عام 1937 نهائياً، وصادروا محتوياتها، واتهموا فنانينها بالتبشير بالفن الفاسد، وبيعت اعمالهم بأبخس الاثمان ثم احرق ما بقي منها. انكمش نشاط بول كليه، واستقر كاندينسكي في باريس ليتوفى بعد فترة، وهاجر كل من موهولي ناجي ووالتر غروبيوس وجوزيف البير الى الولاياتالمتحدة ليؤسسوا "باوهاوس" جديدة في نيويورك. ويذكر ان السوريالييين في مصر احتجوا على إغلاق مدرسة "الباوهاوس" واطلاق تهمة الفن الفاسد على التجريد، وكتب العريضة رمسيس يونان. اهتمام فرنسا بفكر "الباوهاوس" عريق، فقد شارك معماريها الكبير لوكوربوزييه في تصاميم ومحاضرات التأسيس، وخُصصت مساحة كبيرة في القصر الكبير في باريس عام 1930 "لمدرسة الباوهاوس" الصالون الكبير، كما ان متحف الفن المعاصر لبلدية باريس المعروف باسم "قصر طوكيو" اقام معرضاً بانورامياً حافلاً عام 1969، وكانت هذه المدرسة مركز اهتمام معرض: "باريس - برلين" في مركز بومبيدو نفسه. وفي كل مرة كانت تُعاد طقوس الحوار الشمولي بين التصوير والحفر والنحت والسيراميك والرسم الصناعي وديكورات المسرح والموسيقى والرقص والسجاد الخ... وبين انواع الثقافات الجرمانية - اللاتينية والعربية الاسلامية والآسيوية البعيدة وغيرها. اما جوزيف ألبير فلم يقتصر دوره على حمل مبادئ "الباوهاوس" وقواعدها التربوية الى الولاياتالمتحدة بدءاً من الخمسينات وانما ساعدت عبقريته في تغذيه وتأسيس بعض التيارات مثل فنون "الوهم البصري" و"المنماليزم" الاختصارية في الرسم والنحت، ولا شك في ان عمق تأثيره تجلّى من خلال شيوع كتابه عن العلاقات اللونية الذي طبعه عام 1963، وكان تحية الى المربع الملون ونبضه الى الداخل والخارج، اما معرضه الجامع عام 1970 قبل وفاته عام 1976. فقد كان الحكم الفصل في الاعتراف بقوة تأثيره، باعتبار ان تجربته تمثل الحد الاقصى من تحرير وظائف اللون، وعلاقاته القزحية النسبية. ولهذه الاسباب فإن صورة الباوهاوس ترتبط بعالمية التعبير اكثر من مجال الحدود الجرمانية.