من جديد سيجد الأردن نفسه في أتون الجغرافيا القلقة اذا حققت الحرب الأميركية المحتملة هدفها في اسقاط النظام العراقي، واضطرت هذه المملكة الصغيرة الى الاشتباك مع حال الطوارئ التاريخية التي رافقت نشوءها في عشرينات القرن الماضي، وظلت تحدد مساراتها وخياراتها السياسية في محيط لا يعرف الاستقرار وتلوح فيه دائماً نذر الحرب. هذه المرة ستتعرض قدرة الاردن الاستثنائية على التكيف لاختبار جدي، بعدما نجح مدى 35 عاماً في الاحتفاظ بحدود هادئة نسبياً مع اسرائيل، ذلك أن صحراءه الشرقية المفتوحة على غرب العراق ستكون مسرحاً واسعاً للعمليات العسكرية، وممراً لترتيبات سياسية جديدة، تطل منها مخاوف عدة، ليس أقلها الخطط الأميركية - الاسرائيلية لتوطين أكثر من 350 الفاً من لاجئي لبنان الفلسطينيين بين رمالها في مرحلة ما بعد صدام حسين، فضلاً عن الخسائر الأكيدة التي سيمنى بها الاقتصاد الأردني المنهك بالديون الخارجية وضعف اجمالي الناتج المحلي المعتمد منذ عقدين على السوق العراقية. لكن الأحداث التي تلت تفجيرات 11 أيلول سبتمبر بددت آخر اوهام المسؤولين الأردنيين عن امكان بقاء النظام الحاكم في العراق طويلاً، وبات عليهم أن يكونوا جاهزين للمرة الأولى للتعاطي مع غياب نظام رئيس في المنطقة، والبحث تالياً عن وظائف جديدة للدولة الاردنية التي سارت عقوداً على "حبل مشدود" في علاقاتها مع سورية والعراق جارتيها البعثيتين اللتين شككتا طويلاً في شرعية نظامها السياسي، وحاولتا تغييره بوسائل شتى أكثر من مرة. وقبل ذلك، تستدعي الوظائف الجديدة دقة متناهية في حسابات الخسائر التي لا بد من التعامل مع تبعاتها بحذر شديد. فالعراق هو المصدر الوحيد لكل احتياجات المملكة من النفط، ويزودها به بموجب فاتورة تصل قيمتها الى 650 مليون دولار، نصفها منحة مجانية، والنصف الآخر بأسعار تفضيلية. واذا ما تعطلت هذه الامدادات بسبب الصيغة المقبلة للحكم في العراق، فإن على المملكة أن تؤمن سنوياً 800 مليون دولار لشراء النفط من مصادر أخرى، وهذا ما يحتاج الى "معجزة حقيقية". ولا يغيب أن التكيف الأردني مرهون "بالمدة الزمنية التي ستستغرقها الضربة العسكرية، وبأسعار النفط العالمية، الى جانب الترتيبات المستقبلية الداخلية في العراق"، بحسب ما يرى رئيس الوزراء الأردني علي أبو الراغب. ويأمل المسؤولون الأردنيون أن يستتب الوضع الداخلي في العراق في غضون ستة أشهر بعد الاطاحة بصدام، وهي فترة كافية للتفاهم مع خليفته الموالي بالضرورة لواشنطن. ويرى محللون أن الوظائف التي سيؤديها الاردن في غياب صدام حسين عن الحكم ستعتمد أساسا على العلاقات الاستراتيجية الناضجة بين المملكة والولايات المتحدة التي ستقرر شكل النظام السياسي الجديد في العراق ودوره وصلاته مع جيرانه، ويتوقعون أن يحصل الأردن على مكافآت مجزية نتيجة وقوفه الى جانب واشنطن تتجاوز الاتفاق النفطي والبروتوكول التجاري الى طابع شبه احتكاري للسوق العراقية في الفترة الانتقالية على الأقل، في هيئة شراكة واسعة يلعب فيها الأردن دوراً رئيساً مع تركيا، فيما ستتضاءل فرصة سورية في الافادة من اتساع الاسواق في العراق الجديد. ويتوقع المحللون أن الأردن سيكون مؤهلاً أيضاً لأداء وظيفة اقليمية مهمة في ارساء سلام بين النظام العراقي الجديد واسرائيل، على رغم أن ذلك سيؤدي الى حال استقطاب في المنطقة تلحق ضرراً بالمصالح المصرية والسورية. وتفاخر أوساط أردنية "ببعد نظر استراتيجي" بدأ منذ عام 1995 عندما نسجت عمان خيوطاً مع المعارضة العراقية على رغم السخط الرسمي في بغداد، الذي بلغ أحياناً التهديد بقطع امدادات النفط. اذ سمح الأردن لتنظيم بارز فيها هو "حركة الوفاق الوطني" المعارضة بزعامة اياد علاوي بالعمل السياسي والاعلامي في المملكة، وقدّم لها أيضاً تسهيلات في ايواء معارضين سياسيين وعسكريين بارزين، وربما مكّنت هذه الورقة المملكة من بناء علاقة سريعة ومتينة مع النظام البديل في العراق. وفي هذا السياق، لم ينظر الأردن في جدية الى السيناريوات التي تطرحها منذ سنوات أطراف في المعارضة العراقية مثل "الحركة الملكية الدستورية" برئاسة الشريف علي بن الحسين لاستعادة العرش الهاشمي في العراق الذي أطاحت به ثورة الضباط العراقيين بقيادة عبدالكريم قاسم عام 1958، ورأت المملكة في ذلك محض رسالة أميركية الى الدول العربية التي تعارض حربها على نظام صدام حسين. فالاردن، بحسب مسؤولين، "لا يعترف بأي محاولات لتوسيع قاعدة الحكم الهاشمي خارج حدود المملكة، ولا يريد من عراق المستقبل أكثر من مصالح اقتصادية أكثر ديمومة، وحدوداً أكثر أمناً كذلك".