قبل نهاية العام المنصرم طالب نبيه بري، رئيس مجلس النواب اللبناني، بتأجيل موعد مؤتمر القمة العربي المقرر عقده في مطلع آذار مارس من العام الحالي. الرئيس بري قال ان هذه المطالبة هي موقف شخصي لا يلزم بالضرورة الدولة اللبنانية. الرئيسان اميل لحود ورفيق الحريري أكدا هذا الطابع عندما ادليا بتصريحات لاحقة قالا فيها ان القمة ستعقد في موعدها، وان لبنان على اتم استعداد لاستقبالها في ذلك الموعد. ولكن خلافاً لما اكده الرؤساء اللبنانيون الثلاثة، فإن المقربين من رئيس البرلمان اللبناني يلمحون الى ان موقفه هو اكثر من موقف شخصي، وان مغزاه الحقيقي سيظهر خلال الاسابيع المقبلة. الارجح ان هذا الانطباع الذي يرشح عن اوساط الرئيس بري هو الاقرب الى الواقع، والا لما ألح على موقف يؤثر في الاوضاع اللبنانية والعربية، ولما اقترحه على الامانة العامة لجامعة الدول العربية. قدم رئيس مجلس النواب اللبناني المبررات الاولية التالية للمطالبة بتأجيل انعقاد القمة: اولا القيادات العربية غير متفقة في الرأي حيال مسألة الصراع العربي - الاسرائيلي. ثانياً، هناك خوف من اشتداد الضغوط الاميركية على الدول العربية بحيث يخشى ان تنجح واشنطن في حمل هذه الدول ومن ثم القمة العربية على الخروج بمقررات تتنافى مع استمرار المقاومة والانتفاضة. ثالثاً، هذه الضغوط ستنحسر خلال الفترة المقبلة بحيث يصبح الوضع الدولي اكثر ملائمة لانعقاد مؤتمر قمة عربي يخرج بمقررات تعزز المقاومة وتدعم شعب فلسطين في معركة تحرير اراضيه من الاحتلال. هذا الموقف يخطئ في المواضع الرئيسية التالية: 1 - انه ينطلق من تقويم خاطئ للوضع الدولي. صحيح ان الوضع الدولي ليس في مصلحة العرب، وان الاسرائيليين حققوا مكاسب مهمة خلال الفترة المنصرمة. ولكن كيف يمكن الجزم بأن المرحلة المقبلة ستشهد تحسناً لمصلحة العرب؟ اين هي العوامل التي تضمن او حتى ترجح مثل هذا التحسن؟ واذا كانت الضغوط الاميركية - الاسرائيلية على الدول العربية هي من العلامات السلبية التي تطبع الوضع الاقليمي الراهن، فهل هناك ما يدل على ان هذه الضغوط ستخف "خلال اشهر معدودة" بحيث يمكن عندها عقد مؤتمر قمة من دون ان تفعل هذه الضغوط فعلها في الساحة العربية؟ المعطيات الراهنة تشير، على العكس، الى ان المرحلة المقبلة ستشهد ضغوطاً مباشرة وربما عسكرية تستهدف اكثر من بلد عربي. التشتت العربي يسهل تفاقم هذه الضغوط وازدياد الاوضاع الدولية تدهوراً، اما انعقاد القمة العربية فإنه سيكون عاملاً مساعداً على احتواء هذه الضغوط. الامر الذي ينبغي تأكيده هنا هو ان السياسة الاميركية تجاه الصراع العربي - الاسرائيلي وتجاه العرب ليست قدراً محتوماً. هذه السياسة تتأثر، قطعاً، بالضغوط الصهيونية التي هي عامل مهم جداً في رسمها. ولكن هذه السياسة تتأثر ايضاً بالعامل العربي، بقدرة العرب على تشكيل جبهة متماسكة، بمدى استعدادهم لتقديم تنازلات متبادلة فيما بينهم. فاذا اظهرت الدول العربية درجة من التماسك والتفاهم، واذا اعتمدت هذه الدول والقيادات سياسة سليمة في التعامل مع المجتمع الدولي ووظفت مواردها البشرية والمادية في تنفيذ هذه السياسة لأمكن تحسين الوضع الدولي. وربما كان مفيداً ان نذكر هنا الفرق بين الوضع الصعب الذي كانت تمر به الدول العربية قبل حرب تشرين الثاني نوفمبر 1973 والتحسن الكبير الذي طرأ على هذا الوضع بعد الحرب. ذلك التحسن لم يأت نتيجة تغيير في الوضع الدولي بمقدار ما كان حصيلة تبدل في الوضع العربي تجلى في تمتين عرى التفاهم بين الدول العربية عبر التنازلات المتبادلة فيما بينها. بتعبير آخر، تستطيع الدول العربية تعزيز مكانتها الدولية اذا التزمت بدورية انعقاد مؤتمرات القمة وبتطوير آليات العامل المشترك على المستويات القيادية العربية. اما تأجيل القمة وما ينطوي عليه هذا التأجيل من احتمال اسقاط قاعدة دورية القمة فإنه يضعف مكانة الدول العربية ويحد من قدرتها على التأثير على سياسة الاطراف الدولية في المجتمع الدولي. الخطأ الثاني الذي يرتكب في سياق الدعوة الى تأجيل القمة، هو في توصيف العلاقة بين الدول العربية والمقاومة. الدول العربية لا تقدم دعماً كافياً للمقاومة في فلسطين، ولا قدمت دعماً كافياً للمقاومة في لبنان. بعض الاوساط العربية قد يفضل تخلي الفلسطينيين عن خيار الكفاح المسلح. كل ذلك صحيح. ولكن المقاومة عندما تلتزم استراتيجية صحيحة فإنها تستطيع احتواء الضغوط العربية والدولية. المقاومة في لبنان التزمت مثل هذه الاستراتيجية في موضعين بارزين: التركيز على طرد المحتل من الشريط الحدودي، وتوجيه الكفاح العسكري ضد قوات الاحتلال والمليشيات التابعة لها تحديداً مع العمل بدأب على تحييد المدنيين. الالتزام بهاتين القاعدتين ساهم، في توفير افضل الاجواء لاستمرار المقاومة ولرد الضغوط عنها. هذا لا يقلل من اهمية بسالة المقاومين وكفاءة المقاومة العالية في ادارة الصراع مع العدو، ولا من اهمية الاحتضان اللبناني والدعم السوري والايراني والعربي للمقاومة اللبنانية، ولكنه يؤكد اهمية مراعاة الاعتبارات الاخلاقية والانسانية في ادارة الصراع ضد العدو، وهذا ما نجحت فيه المقاومة في جنوبلبنان بامتياز، هذا النجاح يعكسه رفض المجتمع الدولي الامتثال للاملاءات الاميركية بصدد حزب الله. واشنطن، وحدها تعتبره منظمة ارهابية، بينما ترفض الدول الاخرى، مثل بريطانيا والمانيا هذا التوصيف. اذا كان هذا هو موقف دول اوروبية تجاه حزب الله، فإنه لن يكون سهلاً على القمة العربية مسايرة الموقف الاميركي بينما تمسك تلك الدول المتعاطفة الى ابعد حد مع اسرائيل والتي تحرص حرصاً شديداً على امنها واستقرارها عن التجاوب مع ارادة واشنطن. موقف المقاومة في فلسطين اكثر دقة وتعقيداً من اوضاع المقاومة في جنوبلبنان. بعض منظمات المقاومة الفلسطينية لم يقبل، عملياً، قاعدة تحييد المدنيين في الصراع العسكري. وبصرف النظر عن تقويم هذا الموقف بالمعايير الاخلاقية، فإنه لم يكن مقبولاً دولياً حتى ولو كانت اسرائيل هي البادئة بالتعرض الى المدنيين. تأسيساً على ذلك فإن الضغط الاميركي على الدول العربية لحملها على اتخاذ المواقف السلبية تجاه تلك المنظمات الفلسطينيةوسيكون اكبر هنا من الضغط الذي مارسته في لبنان. ولكن على رغم هذه الضغوط المتوقعة على القمة العربية، فإن المؤشرات لا تدل على ان الدول العربية ستخضع للرغبة الاميركية. فالبيان الصادر عن وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الطارئ المنعقد في القاهرة في العشرين من كانون الاول ديسمبر الفائت، على رغم كل المآخذ عليه، يفرق بين المقاومة والارهاب. فضلا عن ذلك، فإنه اذا كان التخوف من اتخاذ القمة موقفاً يتناقض مع استمرار المقاومة المسلحة هو سبب لتأجيل القمة فإن منظمات المقاومة المعنية اعلنت مؤخراً تجميد العمليات الانتحارية. اخيراً لا آخراً فإن في الدعوة الى تأجيل القمة خطأ ثالثاً وضمنياً يتعلق بالنظرة اليها كأحد تجليات العمل العربي المشترك. ان تحويل القمة الى مؤسسة امر مهم جداً من اجل تطوير التعاون بين الدول العربية. ومأسسة القمة العربية تقتضي الالتزام الدقيق بالموعد الدوري المقرر لها. ان هذا الالتزام ليس شأناً اجرائياً بسيطاً. والا ففي غياب مثل هذا الالتزام، من الذي يتخذ القرار بالدعوة الى القمة؟ واذا اسند هذا الحق الى زعيم عربي او دولة عربية معينة بالدعوة اليها، فمتى يقوم بهذا العمل؟ وما هي الظروف المناسبة لعقد المؤتمر؟ واذا افترضنا ان تلك الظروف تتم من خلال مشاورات بين الزعماء العرب، فما هي آلية تلك المشاورات وكيف يمكن الاتفاق بين الزعماء العرب على الظروف المناسبة لانعقاد المؤتمر؟ ان هذه الصعوبات ليست فرضيات نظرية، بل انها مشاكل عملية واجهت القيادات العربية مراراً في ظل غياب الالتزام بالموعد الدوري لانعقاد القمة. كانت هذا المشاكل من العقبات المهمة التي حالت دون انعقاد مؤتمر القمة لمدة اربع سنوات بعد انعقادها في القاهرة عام 1996، ولربما استمر هذا الوضع لفترة اطول لولا قيام الانتفاضة في فلسطين وشعور القيادات العربية بأنه لا بد من ابداء شيء من التجاوب مع "الشارع العربي" من خلال العودة الى مؤسسة القمة كأداة للتحرك الرسمي العربي الجماعي. ان مأسسة القمة العربية لا تعني بالضرورة ان يكون القادة العرب متفقين على القضايا المهمة المطروحة عربياً ودولياً. ان مثل هذا الشرط سيؤدي، عملياً، الى ابطال القمة وليس الى تسهيل اعمالها. فالقيادات العربية لم تتفق مرة واحدة على كل القضايا الرئيسية التي تواجه العمل العربي. بل انه يصعب التفكير في انعقاد اية قمة دولية في ظل تفاهم كامل بين الدول الاعضاء وقادة تلك الدول. حتى قمم حلف وارسو التي كانت تنعقد في ظل الزعامة السوفياتية لدول المعسكر الاشتراكي ووجود القوات السوفياتية في تلك الدول، فإنها كانت تشهد تبايناً في المواقف بين المؤتمرين. القمم لا تكون عادة حصيلة المواقف المتطابقة وانما المواقف المتقاربة، ودورها هو في التعبير عن مثل هذا التقارب وتوسيع مساحته وتعميقه. ان اهمية القمم الدورية هي ان تنعقد على رغم الخلافات، اذ عندها يخف طابع الشخصنة فيها - اي القمة - وينمو طابعها المؤسسي. مثل هذا التحول يوفر اطاراً افضل واثبت للتعاون بين الدول العربية سواء في الدفاع عن حقوقها في فلسطين، او في الارتقاء بالاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية. * كاتب وباحث لبناني.