يعتبر خطاب الأمير عبد الله - ولي عهد المملكة العربية السعودية - في قمة مسقط الأخيرة لدول مجلس التعاون الخليجي، مع نهاية العام 2001، بارقة أمل وهدية عام جديد للخطاب السياسي في عالمنا العربي. فلقد جاء بمثابة منشور نقدي يعتمد على فكر جديد ورؤية مختلفة ويخرج بنا من دائرة السفسطة وإلقاء اللوم على الآخر والارتكان إلى التفسير التآمري للتاريخ. لقد عبرت كلماته عن وعي جديد وتناول عصري لواقع الأمة العربية والإسلامية، وحين تأتي تلك الإشارات المضيئة من المملكة العربية السعودية المعروفة بفكرها المحافظ وتمسكها التقليدي بالثوابت وحرصها التاريخي على نصرة الشعب الفلسطيني، فإننا نشعر بالرضا والتفاؤل لأننا محتاجون في خطابنا الإعلامي المعاصر إلى تلك الدرجة من الوضوح وذلك المستوى من الشفافية والصدق مع النفس. فنحن نتحمل - بغير جدال - جزءاً كبيراً من مسؤولية ما جرى لنا من افتراء على ديننا وتشويه لقوميتنا وتصنيف لهويتنا. ولعلي أسوق في هذه المناسبة عدداً من الملاحظات على النحو التالي: - أولاً: لقد حان الوقت لكي نفكر في المستقبل بطريقة تختلف عن الماضي وتتقدم على الحاضر لأن الدنيا تغيرت والعالم تحول وما كان ممكناً من قبل لم يعد مقبولاً الآن، كذلك فإن ما كان مستحيلاً قبل الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 اصبح وارداً حالياً، والأمم العاقلة والشعوب الواعية هي التي تراجع سياساتها وتعيد ترتيب أوضاعها وتجدد نمط تفكيرها ولا تظل عاجزة "مكتوفة الأيدي"، على حد تعبير الأمير في خطابه الذي يعتبر نقطة تحول في الفكر السياسي العربي الراهن بكل المقاييس. - ثانياً: لقد حان وقت الإصلاح السياسي لأنه هو المتغير المستقل الذي تتبعه كل أنواع الإصلاح الأخرى، فهو كالرأس بالنسبة إلى جسد الأمة. فالسياسة هي فن إدارة المصالح ولا يمكن أن تؤتي ثمارها بغير ترشيد حقيقي وإصلاح هيكلي. ولا أجد حساسية، في هذا المقام، لأن أتطرق إلى قضية الحريات في النظم السياسية العربية المختلفة من دون أن أشير إلى بلد بذاته أو أغمز على نظام بعينه، فالهم واحد والمسؤولية مشتركة، إنني أدّعي مخلصاً أن قضية الديموقراطية وتوسيع حجم المشاركة السياسية هي أمور حاكمة في تشكيل المستقبل العربي أمامنا ولأجيال قادمة بعدنا. - ثالثا: إن الإصلاح السياسي لا يقف عند حدود قضية الديموقراطية، ولكنه يتجاوز ذلك إلى تأكيد سيادة القانون، إذ أن أدق تعبير معاصر عن الدولة الديموقراطية هو أنها "دولة القانون" STATE OF LAW عندما تخضع الرؤوس - كل الرؤوس - للقاعدة القانونية العامة المجردة بغير استثناء أو تمييز وعندما ينصاع الجميع أمام قوة الجزاء باعتباره زاجراً دنيوياً منظماً، كما كان يعلمنا أساتذة القانون في مستهل حياتنا الأكاديمية، ولست أعني بذلك عملية النقل المباشر عن الغرب، ولكنني أعني أن يكون تمسكنا بالثوابت رهناً بفهمنا للمتغيرات بحيث نقوم بعملية مواءمة فكرية بين الأصيل والوافد يتحقق بها التوازن بين الشخصية القومية وروح العصر. - رابعاً: إن النمو الاقتصادي والتحول الاجتماعي محكومان معاً بالإصلاح السياسي والدستوري، أي بالإصلاح في نهج السياسة وأصول الحكم لأن إدارة البلاد تحتاج إلى رؤية شاملة ونظرة متكاملة تخرج من نطاق الجزئيات إلى الإطار العام للمجتمع بكامله، بل ربما للأمة بأسرها، والذين يتصورون إنه يمكن أن يتحقق تقدم اقتصادي وإنصهار اجتماعي وازدهار ثقافي مع غيبة الإصلاح السياسي واهمون بكل المعايير، لأن التغيير إلى الأفضل يبدأ من العقل، لذلك فإن رأس الأمة هو الذي يحدد مسارها ويرسم طريقها. - خامساً: إن الفساد السياسي والتخلف الاقتصادي أبوان شرعيان للإرهاب - ذلك العدو المخيف الذي يستهدف الإنسان في كل زمان ومكان - فغيبة الرؤية وضبابية النظرة وشيوع الفساد وضعف التمثيل السياسي للقوى المختلفة في الشارع العربي، هذه كلها روافد تصب في نهر تجري فيه سفن العنف وتختفي منه قوارب النجاة. إنني أقول بصراحة كاملة إن استمرار الظلم الاجتماعي يؤدي في الغالب إلى تفريخ العناصر الإرهابية سواء كان هذا ظلماً محلياً أو إقليمياً أو دولياً، فالهوة بين الإنسان وواقعه، والمسافة البعيدة بينه وبين أحلامه المشروعة تؤدي بالضرورة إلى حال ضياع ذاتي وارتباك عقلي وسقوط في مستنقع الرفض السلبي الذي يقوم على تكفير الجميع والخروج من دائرة الزمان والإنقلاب على روح العصر. - سادساً: إن إعادة ترتيب أوضاع البيت العربي كانت دائماً مسألة ضرورية، ولكنها أصبحت الآن قضية حتمية فلا يمكن أن يظل العالم العربي في حال الانقسام التي يعاني منها وهو محاط بذلك الكم الهائل من المخاطر والمخاوف والتحديات، لقد حان الوقت لوضع المصلحة العربية العليا فوق كل اعتبار والأخذ بمنطق الحسابات القومية التي تقوم على الواقعية والاعتراف بالحقائق والتسليم بأن وحدة الأمة هي المدخل الطبيعي لتماسكها وقدرتها على الخروج من المأزق الذي وضعتها فيه أحداث العقد الأخير من القرن الماضي والعام الأول من القرن الحالي. - سابعاً: إن تنقية المجتمع العربي من الشوائب العالقة به والمغالطات السائدة فيه والاستخدام المنحرف لديننا الحنيف والابتعاد عن صحيحه، كلها أمور تستوجب المراجعة والتدقيق، وعلى المؤسسة الدينية أن تلعب دورها الغائب، وأن تتحمل مسؤوليتها التائهة وأن تقدم صورة الإسلام الحقيقية إلى عالم لا يفهمه وشعوب اختلطت لديها مبادئه الرفيعة بممارسات لا تمت إليه بصلة. - ثامناً: إن مواجهة الإرهاب محلياً واجتثاث جذوره دولياً والقضاء على أسبابه في كل بلد عربي أو إسلامي هي ضرورة ملحة في هذه الظروف، لأنه خير لنا أن نفعل ذلك بأيدينا لا بيد الولاياتالمتحدة الأميركية، ولقد مارس الرئيس اليمني بحصافة وذكاء ذلك الدور لكي يجنب بلاده مغبة الوقوع فريسة لهجوم خارجي، كما واجهت مصر على امتداد عقدين كاملين معركة ضارية مع الإرهاب الشرس دفعت فيها من أرواح أبنائها واقتصادها الوطني ضريبة لا مفر منها من أجل الاستقرار والمضي نحو أهداف الدولة وغايات شعبها. - تاسعاً: إذا كان الإرهاب ظاهرة عالمية لا ترتبط بدين أو جنس أو لون فإن مواجهته تصبح هي الأخرى مواجهة عالمية بشرط وضوح الهدف والابتعاد عن تطويع الحقائق وتزييف المواقف وإلصاق التهم، ويقتضي ذلك بالضرورة درجة عالية من الوعي العربي والتنوير الإسلامي لأننا محاطون بحملة تشكيك واسعة لم نتعرض لمثلها عبر تاريخنا الطويل. - عاشراً: إن الصورة لا تتغير إلا إذا تغير الأصل، ولا يمكن أن نبحث في إعلام عربي جديد ما لم تكن هناك سياسات عربية جديدة تظهر بها المؤسسات الراسخة في أنظمة الحكم العربية بحيث تزحف نحوها الديموقراطية بمنطوقها العصري ونقوم معها بثورة في التعليم الديني والعادي ونتمكن بها من ترشيد الثقافة وتوطين التكنولوجيا لكي نكون قد قطعنا أشواطاً بعيدة نحو الدولة العصرية والأمة القوية، ولن يحدث كل ذلك إلا بالوعي القومي والإرادة السياسية لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!. إن الإرهاب ثوب فضفاض تضعه قوى معينة على جسد غيرها وتوجه الاتهام إليها في ظل غيبة التعريف القانوني الدقيق واختلاط المفاهيم المرتبطة به، وهو أمر يدعو إلى القلق الحقيقي. فذلك الرداء الاحمر الذي يشبه "بدلة الإعدام" سيتحول إلى ذريعة لدى الاقوياء لتصفية من يريدون الخلاص منه وتشويه من يرغبون في إقصائه. إننا أمام "مكارثية" من نوع آخر، بينما الأمر في ظني يحتاج إلى مشروع "مارشال" جديد، فالفقر هو البيئة التي يولد فيها الإرهاب والمجتمعات المتخلفة هي الحضانة الطبيعية له. ولعل مشهد الصواريخ الأميركية التي ضربت أفغانستان، والتي قد تضرب الصومال يمثل لوحة معبرة للعلاقة الغريبة بين أقوى الأغنياء وأكثر الفقراء بؤساً. لذلك فنحن محتاجون إلى مخاطبة العالم من خلال مبادرات نطرحها وأفكار نتبناها بدلاً من أن نكون رد فعل عاجزاً يكتفي بالتساؤل المهين، على من منا الدور غداً في تلقي ضربات التأديب في مشهد حزين يعيد إلى الاذهان ذكريات أليمة لعصور الانحطاط في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية؟ لقد حان الوقت لكي ندرك أننا جزء لا يتجزأ من هذا العالم وأننا قوة فاعلة فيه لا ينبغي تهميشها أو الإقلال من قدرها أو الانتقاص من مكانتها، ففي العقل العربي الإسلامي جزءاً من المكون الغربي المسيحي بحكم روح العصر، كما أن في العقل الغربي جزء من المكون الإسلامي العربي بمنطق الجوار التاريخي والتواصل الحضاري والتشابك الإنساني، إذ لا توجد خطوط فاصلة بين الحضارات ولا أسلاك شائكة بين الثقافات. دأبت إسرائيل، في الجانب الآخر، على التشهير بالعرب وتقديم الدولة العبرية على أنها واحة الديموقراطية وبؤرة التقدم المحاطة ببحيرة آسنة من التخلف ومستنقع راكد من الدكتاتوريات الفردية، وجاء الوقت لنرد على هذه الدعاوى الظالمة والدعايات المغرضة ونتقدم نحو العالم الجديد بخطوات ثابتة تبدأ من البيت العربي الذي يحتاج إلى الإصلاح السياسي والذي يقود بدوره أنواع التغيير والتجديد والتطوير كافة، لأن صورتنا في النهاية هي إنعكاس للأصل، قديماً قالوا: "إن فاقد الشيء لا يعطيه" وليس الإصلاح مطلباً عسيراً اذ مارسته الحضارة العربية الإسلامية في حقب مختلفة تحت مظلة التنوير أحياناً أو اجتهادات رائدة أحياناً أخرى، ولعل الأحداث التي شهدها العالم اخيراً تكون بمثابة صحوة للعقل العربي تدفع نحو نقلة نوعية في اتجاه مستقبل نتطلع إليه وغد نحلم به. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.