} الحديث عن الماضي له شجون، لأنه ابحار في ما قد فات، وجردة للأيام التي مرت. واسترجاعها يقدم شيئاً من عبق الذي ذهب ولن يعود. وهنا نبحر في ذاكرة شيخ عماني عاش في عهدين ومناخين مختلفين، فقد شهد اكثر من ربع قرن وبلاده نثار من التخلف والجهل والظروف الصعبة بين جبل صلد وصحراء تبتلع في رمالها الانسان، وهاجر حين كانت الهجرة ملاذاً ومفراً، ثم عاد الى بلاده في عصرها الجديد ليتابع رحلة التطور خطوة خطوة. انه المواطن محمد بن ناصر الندابي، اخترنا الحديث معه ليصور لنا النقلة العمانية بين مرحلتين ومناخين. شهدت عمان وعموم الجزيرة العربية طفرات مدنية في عقود قليلة من الزمن، تحولت خلالها حياة السكان من بساطة اليوميات الصغيرة الى تعقيد المدنيات والايديولوجيات. هذه المناطق التي لم تكن تعرف من تطورات منتصف القرن التي هزت العالم الا الشيء البسيط الذي تسمح به الظروف الاعلامية او الاعلانية لينتقل ذكر التطورات هامشياً الى الجبال والصحاري، فلا يعرف منه الا ما هو في لب اهتمامات الناس المشغولين بحياتهم الصخرية ينحتون فيها بأظافرهم لعلها تنتج ماء وغذاء. واذ يتذكر العمانيون الامس فانهم يتذكرون ذلك القريب الذي عاشوه وانكووا بصعوبته، فمنهم من هاجر يضرب في ارض الله يبتغي رزقاً ومنهم من بقي يتلمس في الارض مزروعات تقيه الجوع ومنهم من طاف بالبحار موانئ العالم تاجراً ومسافراً. هذا الامس القريب كان العقود القليلة التي سبقت عام 1970 اذ ان البعيد يشمل حضارة امتدت الى شرق الارض وغربها، تجارة اللبان وصلت الى معابد الفراعنة والاساطيل البحرية مادت في المحيط الهندي تطارد المستعمرين البرتغاليين مرات وتسيطر على اراض على السواحل الآسيوية والافريقية مرات اخرى، و500 قلعة وحصن تشهد على تاريخ حضاري يعتز به العمانيون لكنهم لا ينسون انهم في ساعة الشدة لم يكن امامهم الا الصبر والهجرة بعيداً عن الاهل والارض. محمد الندابي يروي قصة التغيرات التي طرأت على المكان ارضاً وبشراً، وهو اذ يروي ما تغير فانه يطيل في قراءة ما قد كان على اعتبار ان ما هو كائن تكشفه الوقائع على الارض ولا حاجة الى الاطالة فيه كثيراً، فالاعلام والفضائيات أبقت العالم قرية صغيرة مفتوحة السماوات على بعضها البعض. مواسم الهجرة انتثر عقد العمانيون في اراضي الله الواسعة باحثين ومنقبين عن الرزق يساعدهم في ذلك حبهم للترحال، هاجروا الى بلدان الخليج القريبة كالبحرين والسعودية وقطر والكويت، وغاصوا في انحاء البلدان الافريقية كتنزانيا وزنجبار بحكم الوجود التاريخي العماني هناك الذي اغراهم ايضاً بالرحيل الى المناطق البحرية في ايران وباكستان والهند. والبلدان التي لا تحدها الا الصحراء سافروا اليها من طريق البر على ظهور الجمال والحمير وقلة من يملكون الخيول. اما المناطق البحرية فان السفن كانت بوابتهم الانسب، فمن شواطئ مسقط وصور وصلالة ومرباط انطلقت السفن الشراعية حاملة المسافرين وأغراضهم شتى، فمنهم من ذهب للبحث عن عمل ومنهم من خرج تاجراً. محمد بن ناصر الندابي يعدد انواع الرحلات والاسباب التي دعت بعض العمانيين الى الهجرة، يقول: رحلات العمانيين الى افريقيا كان هدفها التجارة وبلغت معظم السواحل الافريقية، وفي الجانب الآسيوي بلغت الصين، خصوصاً ميناء كانتون. اما الرحلة الى دول الخليج العربي فمنها ما كان لغرض تجاري او زيارة البيت الحرام لكن معظمها كان لطلب الرزق. وعن الاسباب التي دعت الى ذلك يرى الندابي انها تلك الصعوبات التي عصفت بعمان في العقود القليلة التي سبقت عام 1970: مرت على عمان سنوات من الجدب تعذر فيها حتى الاكل لاعتماد العمانيين على الزراعة، من المصاعب الاخرى قلة الاعمال فمن يملك مزرعة يعمل فيها ومن لا يملك مزرعة او محلاً صغيراً للتجارة لا بديل امامه الا اختيار الاصعب فالهجرة ليست سهلة، والمسافر يودع اهله كأنه راحل الى الابد لأنه لا يدري ان كان يعود حياً او ميتاً او ربما لا يعرف عنه احد شيئاً لصعوبة الاتصال في تلك الفترة. ويضيف: الأعمال كانت محدودة جداً، هناك من كان يعتمد على رزق البحر والحيوانات القليلة التي قد لا تبقى موجودة في زمن القحط. عن تجربته يقول محمد الندابي: سافرت منتصف الستينات الى دبي ومنها الى البحرين ومن ثم السعودية ولم اجد عملاً، فعدت الى البحرين حتى عام 1970 وكانت رحلتي على سفينة شراعية صغيرة متنقلاً بين موانئ دبي والمنامة وجدة، واشتغلت مع شيوخ البحرين ولكن، بقي الحنين للعودة، فمهما كانت حفاوة الاخوة البحرينيين بنا نحن العمانيين فان احساسنا بالغربة والبعد عن الاهل والتخلف الذي فيه عمان ولد فينا المرارة والرغبة في جعل بلادنا تعود الى ما كانت عليه من حضارة يشهد لها التاريخ. ولكن، ماذا عن المصاعب التي كانت تواجه العمال العمانيين في الخارج؟ يقول الندابي: بحكم تجربتي في البحرين فان اكثر العمانيين اشتغلوا في هذا البلد الطيب الذي كان يعطي الاولوية للعمال العمانيين، وكان عملنا في الحراسة على بوابات المنشآت وأيضاً في الزراعة والتجارة واعمال البناء، والمعاملة القاسية تأتي غالباً من ارباب العمل من خارج البحرين. الصعوبات الاخرى كانت بسبب الاقامة فالهجرة لأجل العمل تتطلب المكوث فترة طويلة هناك ولا بد من تجديد الاقامة، ما يتطلب العودة الى عمان والسفر مرة اخرى، بما في ذلك من مصاعب جمة كمخاطر السفر وتكاليفه والفترة التي تضيع على العامل من دون أجر. وبعد ان يجدد الاقامة ويعود يجد ان عاملاً آخر حل محله وعليه ان يمضي فترة للبحث مرة اخرى ويبقى في ظروف صعبة جداً لأنه انفق ما ادخره على عائلته التي تغرب عنها وعاد خالي الوفاض على امل العمل مرة اخرى، ومن الصعب ان يرجع مرة اخرى الى بلاده لأنه قد لا يجد أجرة الركوب في سفينة العودة. الجواز الصعب وماذا عن جواز السفر؟ يقول محمد الندابي: تصرف الحكومة في مسقط الجواز ولكن بصعوبة، ولا يسمح لمن دون العشرين بالسفر. وتحدد دول معينة للسفر اليها وهي دول الخليج فقط ولا يمكن السفر الى دولة اخرى الا اذا حصل صاحب العلاقة على جواز سفر آخر من دبي. وعن اجرة التنقل يقول: انها تتفاوت بحسب حجم السفينة التي أجرتها اقل من أجرة الشاحنات الكبيرة المعدة اصلاً لنقل البضائع والتي ظهرت في أواخر الستينات، ومتوسط اجرة التنقل 200 روبية هندية وهي العملة التي كانت متداولة حتى عام 1968 حين أمر السلطان سعيد بن تيمور بسك الريال العماني، وكان هناك ايضاً قرش الفضة وهو عملة فرنسية. أما عن الرواتب فيروي الندابي انها كانت قليلة جداً تترواح بين 200 و250 روبية، ومن يحصل على 300 معرض للحسد، لكن بركتها كانت في القناعة، والعماني قانع بطبعه ويتجلى ذلك في بيته البسيط ومأكله الابسط والمصاريف لم تكن الا للأكل والشرب وبالكاد تكفي، واللباس كان متواضعاً، ما قصر على الطفل الاكبر يلبسه الذي يليه، وما يتركه الجد يلبسه الاب وما يتركه الاب يلبسه الابن من دون اية مواربة او حرج، فالحياة الصعبة تفرض اساليبها، وكل الناس ظروف معيشتها متشابهة تقريباً. في النهار يكدحون ويعملون وفي الليل لا شيء من ادوات الترفيه الا الشعر وجلسات سماع الروايات والاحاديث، ومن كان لديه فضل خير يسهر مع الآخرين على ضوء قنديل والا فان ضوء القمر في الصيف اجمل. ولا ننسى ان الشتاء كان يأتي شديد البرودة لانعدام الالحفة القادرة على صد البرد ولذا فان التحلق حول الصريدان كافٍ ليأتي ببعض الدفء، والصريدان هو آنية من حديد يوضع فيها الجمر، والمصائب التي سببتها كثيرة، من حالات اختناق واحتراق. ففي مرة كانت احدى الامهات تضع الصريدان تحت مهد الطفل ليتدفأ ونامت لتجد المهد ومن فيه كتلة فحم. زنجبار الأليفة ويشير محمد بن ناصر الندابي الى هجرة العمانيين الى زنجبار وهي هجرة لها اسبابها المتعلقة باستيلاء عمان السابق على سواحل شرق افريقيا، وبعد الانقلاب الافريقي على الوجود العماني هناك تعرض العمانيون للاضطهاد والتعذيب ما حدا بالكثيرين الى الرجوع الى بلدهم. وشكل السلطان سعيد بن تيمور لجنة للنظر في طلب من يريد العودة من دون انتظار أية اجراءات، وكان العمانيون الذين يعملون هناك يبعثون بالاموال الى اقاربهم واهلهم في عمان ليشتروا لهم مزارع ومحلات تجارية وكان ذلك بعد نظر، فحالما هبت العواصف ضد الوجود العماني وجد هؤلاء ما يعينهم على الحياة مما ادخروه لساعة الشدة، الا ان هناك من آثر الصبر حتى انجلاء العاصفة وثبت على رغم كل الظروف، ومنهم من عاد بعد عام 1970، ومنهم من لا يزال يعيش حتى الآن في زنجبار وسائر المدن الافريقية التي كانت خاضعة لعمان متمسكين بملابسهم وعاداتهم ويذكرون بلادهم دائماً كلما التقوا احد الزوار من عمان. ويشير الى خدمات قدمها السلطان قابوس الى زنجبار كبناء مستشفى ومطار وتقديم عدد من الخدمات للجالية العمانية التي تعيش هناك. يكاد معظم العمانيين يتذكرون الصعوبات التي قاساها جيل ما قبل 1970، فلم توجد في عمان الا ثلاث مدارس لا يدخلها الا الاغنياء، اثنتان في مسقط وواحدة في صلالة، فيما قامت مدارس القرآن الكريم في الجوامع بدورها في تعليم اقلية مبادىء قراءة القرآن والحديث واللغة العربية. وقد خلف الجهل والتخلف ظروفاً صعبة أدخلت الاساطير وخرافات السحر والشعوذة الى عقول معظم الناس، هذا بالنسبة للتعليم. أما في النواحي الصحية فكانت الفرصة الوحيدة للعلاج الحديث تتمثل في مستشفى البعثة التبشيرية في مدينة مطرح، وكانت عمان تكاد كلها تعرف الطبيب طومس توماس. لم يكن العلاج مجانياً وانما في مقابل مبالغ ودعوات للدخول في المسيحية. المستشفى كان بناء عادياً وفيه تجرى العمليات. العلاج الخفيف الذي لا يتطلب اكثر من ادوية وحبوب يتكلف من 10 الى 15 روبية، والعمليات 50 روبية، وكان هذا الترف الصحي مقتصراً على مسقط والمناطق القريبة منها، اما سكان الاماكن البعيدة فلا يعرفون عن طومس سوى "قدرته العجيبة على شفاء الامراض"، وانتقالهم الى مسقط للعلاج مغامرة شبه خاسرة، فاذا لم يمت المريض في الطريق فانه يموت ومن معه بسبب قطاع الطرق، ولا يمكن للقبيلة ان تكلف اشخاصاً للسير شهراً كاملاً لحراسة مريض قد لا تكتب له النجاة بسبب شدة المرض وتعب الطريق. ويتابع الندابي: وسائل العمانيين في العلاج كانت بدائية جداً، وعلى رغم كثرة الانجاب فان الموت اسرع الى تلك الذريات الكبيرة العدد، كل عائلة تنجب عشرة او عشرين ابناً، قد لا يبقى منهم الا واحد او اثنان والباقون يدفنون اطفالاً نتيجة الوفيات الكثيرة والجهل في مداواة الامراض، وكان بعض العلاج بجلسات الزار وضرب المريض بحجة طرد الارواح الشريرة منه، ومن الوصفات المحلية إدخال الطفل المصاب بالحمى في غرفة صغيرة تشتعل فيها النار ويدهن جسمه بالثوم بتأثير معتقدات خاطئة، وما هي الا دقائق حتى يكون الطفل قد ارهقته الحمى والنار والثوم الحارق فتغادر الروح الى بارئها. كان كل من لديه مريض يستجيب لأي وصفة يقولها احد الجهلة والمدعين معرفة بالعلاج، من باب الامل في أي شيء ينقذ المريض من آلامه. ولا ينسى محمد الندابي اسلوب الكي لعلاج أي مرض. هناك من يتلقى جسمه عشرات الوسوم التي تترك ندوباً ان لم تكن قد تسببت اصلاً في فناء الجسد بسبب كثرة الحروق التي ليس لها مراهم او علاج، اما المصابون بالحصبة من الاطفال فانهم يسقون بول طفل لم يتم ختانه ويقطر في اعينهم وآذانهم ويدهن به سائر جسمهم. ويضحك الندابي وهو يقول: ومن ثم يتعجبون كيف مات الطفل!!! ولا ينفي الندابي وجود عارفين بالادوية العشبية الا انهم نادرون والاتصال بهم صعب وسط الموانع الطبيعية التي تشكل الجبال ابرزها. أساطير السحر من هذه الظروف انطلقت خرافة السحر التي ترى ان الميت ليس متوفياً وانما سحره شخص يريد ان يأكله في وليمة يدعو اليها اصدقاءه من السحرة بحسب طقوس خاصة، وتبدأ الاشاعات بعد وفاة شخص ما بساعات اذ يدعي أحدهم انه يشك في موت هذا الانسان، ومن ثم يدعي آخر انه رآه يشرب، وآخر يقول انه سمع صوت صرخاته والساحر يضربه. وهكذا تكبر الحكاية لتغدو حديث المتسامرين، خصوصاً انه لا شيء للتسامر غير هذه القصص والخرافات، وما يجعل الامر قابلاً للتصديق ان الساحر على خلاف مع شخص هو وفاة اكثر من إبن لذلك الشخص في ظرف ايام، هذا نتيجة الامراض المعدية والتي لا علاج لها، لكن الناس تصدق الحديث المتداول بسبب جهلها ورغبتها في تصديق الحكايات، وتشير الى اشخاص معينين انهم سحرة ويتم تجنبهم أو السعي الى رضاهم. ومن المصاعب الاخرى التي يتذكرها الندابي المواصلات فلم تكن هناك وسائل الا الجمال والحمير، وفي الستينات ظهرت السيارات الانكليزية والاسبانية ومن تلك الانواع اللاندروفر والبيد فورد، واول سيارة رأيتها كانت عام 1962. وعلى ظهور الحمير والجمال كنا نقطع المسافة بين مسقط ونزوى في عشرة ايام ونبيت عشر ليال في الطريق، مع احتمال ان نتعرض للهجوم من قطاع الطرق واللصوص والمهاجمين من القبائل الاخرى. وبالسيارة الآن المسافة نفسها تقطع في ساعتين فقط.