سيوفر مؤتمر القمة العربي الذي سيُعقد في بيروت في الفترة 25-26 آذار مارس المقبل فرصة سانحة للشركاء العرب لانتزاع زمام المبادرة في السياسة الاقليمية من الولاياتالمتحدة وإسرائيل - وكانت لهما اليد الطولى في رسمها وتخطيطها - لقد آن للعرب أن يتحكموا بمصيرهم، وان يتسلموا مقدراتهم بأيديهم، وأن يُصبحوا لاعبين رئيسيين في المنطقة، لا أن يبقوا متفرجين، خصوصاً حين يتعلق الأمر بقضايا جوهرية لها تأثير مباشر في مصالحهم الحيوية. وتقع مسؤولية جسيمة في التحضير الناجح لهذه القمة على كتفي السيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية. وقد وضع الأمير عبدالله، ولي عهد المملكة العربية السعودية، النقاط على الحروف، حينما قال في افتتاح مؤتمر القمة لدول مجلس التعاون الخليجي الذي عُقد في مسقط في كانون الأول ديسمبر من العام الماضي: "أكان من الممكن أن تجري الأحداث الدامية في فلسطين، على النحو الذي نعرفه، لو أن الأمة العربية والإسلامية أظهرت تضامنها ووحدتها في وجه إسرائيل؟ ما الذي فعلناه لتطبيق المبادئ الأساسية للجامعة العربية؟ ولتنفيذ معاهدة الدفاع المشترك أو الوحدة الاقتصادية؟". إن هذا التوبيخ الجارح الذي وجهه الزعيم السعودي، يمكن أن يكون حافزاً لبدء عمل عربي فعال ومؤثر. معسكر السلام في إسرائيل بدأ تحركه ما هي الملامح الأساسية للموقف الحالي؟ - أولاً، لقد انخفضت حوادث العنف بشكل ظاهر في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس ياسر عرفات في 16 كانون الأول، مطالباً ب"التوقف التام لكل الأعمال العسكرية، خصوصاً العمليات الانتحارية ضد إسرائيل". وكان هذا الخطاب انعطافة مهمة في مسيرة الأحداث. كلا، لم يستسلم الفلسطينيون بأي شكل من الأشكال، وستستمر المقاومة ضد الاحتلال، ولكن يبدو ان الانتفاضة دخلت مرحلة جديدة. - ثانياً، يبدو أن الولاياتالمتحدة أصبحت أكثر استعداداً للتدخل في عملية السلام، بعدما كانت تُظهر عدم اكتراث بها، وهو ما كان يمكّن ارييل شارون، رئيس وزراء إسرائيل، من أن يطلق يديه في استخدام القوة لسحق الانتفاضة. والتطور الجديد هو أن وزير الخارجية الأميركي اتصل بالهاتف بكل من عرفات وشارون، وتم الاتفاق على عودة الجنرال انتوني زيني، مبعوثه الخاص، يوم الخميس الماضي، إلى المنطقة، في جولة جديدة لم تستغرق أكثر من أربعة أيام. وهناك حديث عن احياء مخططات ميتشل وتينيت. هذا لن يُرضي، بطببعة الحال، مَن كانوا يأملون في عودة المفاوضات السياسية الجادة بين الطرفين، ولكن مجيء زيني خطوة صغيرة في الاتجاه السليم. - ثالثاً، وفي داخل إسرائيل، بدأت تحركات خجولة لمعسكر السلام تظهر للعيان بعد غياب طويل. وتجسد هذا التحرك في المسيرة التي جرت في القدس في 28 كانون الأول وشارك فيها ما لا يقل عن ألفي شخص. وقد صدر عن هذه المسيرة، التي رعاها كل من يوسي ساريد زعيم الجناح اليساري في حزب "ميريتس" وسري نسيبة ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في القدس هو رئيس لجامعة القدس، ومعروف باعتداله، بيان مهم لا يخلو من شجاعة، إذ طالب باجراء مفاوضات عاجلة وفورية بين الطرفين تستهدف الاسراع في إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967، وتفكيك المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، والاعتراف بالقدس عاصمة للدولتين، والتوصل إلى تسوية عادلة ومنصفة لقضية عودة اللاجئين الفلسطينيين. ويبدو أن هناك رأياً يكتسب المزيد من الصدقية عند الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء: انه الاقتناع باستحالة تحقيق الأهداف السياسية المعلنة للطرفين عن طريق العنف. على أن مثل هذا الرأي ينبغي أن يؤخذ بمزيد من الحذر: ان الذين حضروا وشاركوا في هذه المسيرة في القدس لا يمثلون إلا أقلية صغيرة، ولا يزال حزب الحرب الذي يتزعمه شارون يمثل الأكثرية، على الأقل الآن، ولا يزال حزب العمل ضعيفاً ومنقسماً على نفسه. إسرائيل منقسمة، في واقع الأمر، إلى معسكرين متخاصمين ومتعارضين بعمق، ولكل معسكر وجهة نظر في قضايا العالم الراهن: هناك من جهة غلاة القوميين ومعهم السلفيون المتدينون، وهؤلاء يعارضون مبدأ السلام الأساسي "الأرض في مقابل السلام" وهم في غاية الخطورة، لأنهم مقتنعون بأن إسرائيل قادرة على أن تُبقي سيطرتها على الضفة الغربية وغزة، في المستقبل المنظور. وانزلقت أكثرية من الإسرائيليين في هذا الاتجاه، بعدما افزعتها العمليات الانتحارية داخل إسرائيل. وهناك، من جهة أخرى، المعسكر الذرائعي الاشتراكي العلماني الذي يطالب بتسوية على أساس المفاوضات، ويعترف بحل يؤدي إلى قيام دولتين، ويخوض المنتمون إلى هذا المعسكر معركة دفاعية في غاية القسوة. يبقى جوهر الصراع متمحوراً حول حزب العمل الإسرائيلي الذي يقترب من شفا الانهيار: لقد فقد هذا الحزب تأييد الجماهير الواسعة له، بعدما دفعت الانتفاضة الفلسطينية بالناخبين الإسرائيليين إلى أقصى اليمين. وقد انقسم الحزب بين الذين يرغبون في البقاء في حكومة الائتلاف الوطني برئاسة شارون، مثل شمعون بيريز وزير الخارجية وبنيامين بن اليعيزر وزير الدفاع، وبين الذين يصرون على ضرورة الانسحاب من هذا الائتلاف والانضمام إلى حزب "ميريتس" في تجمع جديد "ديموقراطي وإشتراكي". إن فشل رئيس الوزراء السابق ايهود باراك في التوصل إلى اتفاق مع ياسر عرفات، اقنع الإسرائيليين - وقد غسلت أدمغتهم دعاية الجناح اليميني - بأن الفلسطينيين لا يريدون السلام، بل إنهم راغبون في تدمير دولة إسرائيل! هل ينبغي أن يتقدم العرب بمبادرات؟ أقول نعم، فهناك اشارات واعدة بأن معسكر السلام الإسرائيلي بدأ باكتساب مساحة صغيرة من الثقة عند الجماهير الإسرائيلية. إذن، لندرس ملياً مقالاً، نشر حديثاً في صحيفة "الجيروزاليم بوست" الإسرائيلية بقلم ناولي شازان، وهي عضو في الكنيست من حزب "ميريتس". جاء في المقال: "إن مصير الفلسطينيين اليوم وأكثر من أي وقت مضى، مرتبط بمصير الإسرائيليين. لا يمكن تجاوز المأزق الراهن إلا من خلال الاعتراف المتبادل بالرؤيا السياسية لكل من الطرفين، فمن حق الفلسطينيين أن يحرروا أنفسهم من الاحتلال الإسرائيلي، ومن حقهم أيضاً إقامة دولة قابلة للحياة على امتداد حدود 1967، ولكن من حق الإسرائيليين أن يعيشوا من دون خوف، ضمن حدود آمنة ومعترف بها...". ثم أضافت في مقالها: "لن يتمكن أي طرف من أن يأمل في تخفيف العنف، إذا لم يتقدم بحوافز سياسية لتحقيق أهدافه السياسية...". وتتجسد رسالة السيدة شازان في المقطع الأخير من مقالها، انها، على نحو ما، تدعون إلى مساعدتها. وعلى العرب أن يأخذوا علماً بهذه الرسالة. ولا يجوز لهم أن يتركوا عملية السلام بأيدي الأميركيين بشكل مطلق، بل عليهم أن يسعوا إلى تبديل موازين القوى داخل إسرائيل. في المقابل، هناك أكثرية من الفلسطينيين، بل من العرب، ترغب في التوصل إلى تسوية للصراع العربي - الإسرائيلي على أساس الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدسالشرقية، تسوية عادلة ومنصفة لقضية اللاجئين الفلسطينيين الذين ارغموا على مغادرة بلادهم. والطريقة الوحيدة لتحقيق هذه الأهداف هي أن يبادر العرب إلى التدخل في النقاش الحاد الدائر حالياً في إسرائيل إلى جانب معسكر السلام. إن الرأي العام الإسرائيلي متقلب بشكل ملفت للنظر، ويمكن أن يتأرجح في هذا الاتجاه أو ذاك بسهولة. لقد دفعه الخوف إلى اليمين، ولكن بروز حوافز عربية سياسية شجاعة يمكن أن يصيره إلى وسط اليسار. وهناك حافزان بشكل خاص، قادران على إحداث تأثير درامي كبير في الرأي العام الإسرائيلي، وقد سبق لي أن تحدثت عنهما في هذه الصفحة من صحيفة "الحياة"، وأنا أنصح بأن يكون موضع اهتمام وعناية في مؤتمر القمة العربي المقبل. أما الحافز الأول، فيمكن للأمير عبدالله، ولي عهد المملكة العربية السعودية، أن يطرحه باسم "خطة عبدالله للسلام"، وتقوم هذه الخطة على تحديث وتوضيح ما عرف سابقاً ب"خطة فهد للسلام" عام 1981، ووافقت عليها الدول العربية في مؤتمر فاس عام 1982. كان واضحاً في هذه الخطة أن الوعد بانسحاب إسرائيل حتى حدود 1967، وقيام الدولة الفلسطينية سيوفران السلام والأمن "لجميع دول المنطقة". وهذا السلام يشمل إسرائيل بالطبع. وينبغي أن تكون هذه الرسالة بمنتهى الوضوح: فإذا ما أعلن الزعماء العرب الذين سيجتمعون في بيروت في آذار المقبل، استعدادهم لإقامة سلام مع إسرائيل حال انسحابها من الأراضي المحتلة، فإن أكثرية الإسرائيليين سيتخلون عن متطرفي الجناح اليميني، وسيصطفون وراء معسكر السلام، وسيكون في وسع حزب العمل أن يملك من الشجاعة ما يمكنه من تركه حكومة الائتلاف الوطني الحاكمة، وسيتداعى شارون بعد أن يفقد التأييد الشعبي وسيكون الطريق مفتوحاً آنئذ لقيام مفاوضات سياسية جادة بين إسرائيل والفلسطينيين، وبين إسرائيل وسورية. وإذا شاء العرب أن يكسبوا الرأي العام الإسرائيلي، فسيتوجب على الفلسطينيين أن يبادروا إلى القيام بخطوة ثانية لا تقل أهمية وحيوية هي تحديد المقصود ب"عودة اللاجئين الفلسطينيين"، بشكل لا يحتمل الغموض أو اللبس. ومعروف ان هذا الموضوع من دون سواه، بل أكثر من أي موضوع آخر، كان السبب في عزوف معظم الإسرائيليين عن التسوية السلمية، فقد تولد عندهم الوهم بأن الفلسطينيين عازمون على تدمير دولة إسرائيل عن طريق عودة أعداد كبيرة من اللاجئين إلى أرضهم. أدعو قراء "الحياة" إلى مراجعة المساجلات التي جرت بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول هذا الموضوع، ومواضيع أخرى المسجلة في موقع الانترنت www.bitterlemons.org. وقد قال سري نسيبة، في مداخلة له في هذا الموقع على الانترنت بتاريخ 31 كانون الأول 2001: "إن مطالبة الفلسطينيين بقيام الدولة يعني بالدرجة الأولى ان هذه الدولة ستقوم ضمن حدود 1967 وليس في إسرائيل. وان مسألة إعادة توطين اللاجئين تحتاج إلى المزيد من التوضيح، لا يمكن للفلسطينيين أن يطالبوا بحق تقرير المصير وبإقامة الدولة، وأن يطالبوا من جهة أخرى بحق كل منهم بالعودة إلى منزله الأصلي الذي غادره". وفي رأي نسيبة ان الاستراتيجيتين متضاربتان. لقد آن الأوان لاجراء حوار فلسطيني علني حول هذا الموضوع، على رغم مما يتسببه من حساسيات وآلام. إن توضيح مقاصد الفلسطينيين وأهدافهم الحقيقية، سيكون له تأثير عميق جداً في الرأي العام الإسرائيلي، إذ سيطمئن الجمهور الأوسع إلى أن السلام والأمن هما، بعد كل شيء، في متناول اليد. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.