استهوت الطبيعة الخلابة لبلاد التشيك معظم المتناحرين الأوروبيين منذ العصور الوسطى وحتى وقت قريب. واستحقت هذه البلاد ما أطلقه عليها مكسيم غوركي الذي قضى بعض الوقت في منتجعات "مريانسكي لازني" الطبيعية للعلاج من التدرن الرئوي فيما وصفها بأنها "جنة أوروبا من دون منازع". بيد أن هذه الطبيعة أمنت أيضاً مستلزمات صناعة تقليدية رائدة شغلت العالم بروعتها ودقتها ومستواها الفني ألا وهي "صناعة الزجاج والكريستال" حيث تشكل واحداً من أبرز العائدات المالية للبلاد، بعد الصناعات الثقيلة والسياحة. وتعود صناعة الكريستال في بوهيميا ومورافا، وهما القسمان اللذان يشكلان جمهورية تشيخا الحالية بعد انفصال جمهورية سلوفاكيا عام 1993، الى القرون الوسطى، حين ظهرت في تلك الفترة بدايات الصناعات الموزائيكية والزجاجية بصيغتها البدائية، غير أن هذه الصناعة لم تلبث أن تطورت في شكل جيد منذ عام 1370 في عهد الملك الروماني كارل الرابع، ونموذج هذا التطور تعكسه زجاجيات كنيسة القديس بارثولوميو في كولينا التي تبعد عن براغ نحو ساعة بالسيارة. وفي بداية القرن الخامس عشر كانت في عموم الامبراطورية الرومانية ثمانية معامل لصناعة الزجاج في بوهيميا وخمسة في مورافيا وثمانية في سيليزيا التي كانت آنذاك جزءاً من المملكة البوهيمية. اما مصنع الزجاج في "خشيبسكا" الذي لا يزال قائماً الى وقتنا الحاضر، فقد تأسس عام 1427، وأصبح أحد أهم أجزاء الصناعات الزجاجية في بوهيميا. وما ان حل القرن السادس عشر حتى توسعت هذه الصناعة في ظل حكم عائلة "هابسبورغ" اذ ظهر مزيد من الموديلات والنماذج الجذابة المليئة بالحركة والتلوين الفني. وعام 1610 قام الصائغ كاسبار لهيمان باستخدام معادن جديدة في تلوين الزجاج وقدم هذه النماذج المتميزة للملك رودولف الثاني. وابتداء من عام 1680 أخذ الزجاج البوهيمي يغزو أوروبا، وارتبط باسم العوائل الارستقراطية التي أسست مصانع باسمها مثل "كينسكي" و"هاراخ" في الشمال والشمال الشرقي من بوهيميا، وكذلك في منطقة شومافا. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ارتقت الصناعات الزجاجية في بوهيميا مرتبة فنية أعلى إذ دخل عنصر الذهب في هذه الصناعات، فأصبح يلون وبأشكال متنوعة الزجاج الأبيض واللأزرق والأخضر والأحمر، كما دخل اللون الأسود في هذه الصناعات وعرف الصائغ ايكناس بريسلر كأبرز الصناع آنذاك. وأخذت تجارة الزجاج البوهيمي تغزو الأسواق الفرنسية والروسية ابتداء من القرن الثامن عشر، وباتت نقوش ورسوم الحيوانات الملونة تحتل اهتمام الناس. وما أن حل القرن التاسع عشر حتى أصبحت صناعة الزجاج البوهيمي تمتاز بالتنوع الفني المتطور، واشتهرت مصانع مدينة "يابلونتس نادنيسو" بهذه الصناعة، وهي ما زالت الى يومنا هذا تحمل منتجاتها علامة واسم "يابلوتكس". وحقق الزجاج التشيكي شهرة فائقة خلال القرن العشرين وأصبح معروفاً في العالم أجمع بخصائصه الصناعية والفنية وكذلك بنوعية المعادن المستخدمة في تطعيم نماذجه لا سيما الملونة، أما "الكريستال الأبيض" الذي تستخدم فيه المهارة اليدوية في شكل أكبر، فهو الشيء المحبب لدى معظم الأجانب، وهو بحق بمثابة السفير الذي لا يتحدث ولكنه يأسر القلوب ويترك بصمته في بيوت الناس. وهناك الكثير من المدن التشيكية الذي يشتهر في الوقت الراهن بالصناعات الزجاجية مثل "براغ" وضواحيها و"كارلوفي فاري" التي فيها مصنع "موسر" ومحلات عرض الزجاج بأنواعه، و"يابلونتس" و"خكوم" وغيرها، وظهرت في الآونة الأخيرة بعد انهيار النظام الشيوعي مصانع صغيرة للقطاع الخاص، انتشرت في عموم البلاد، وباتت تنتج أنواعاً كثيرة من الصناعات الزجاجية الراقية. وفي براغ مدرسة خاصة للدراسات الزجاجية الفنية تخرجت منها أجيال جديدة من الحرفيين المهرة الذين يدرسون آخر مبتكرات الصناعات الزجاجية. وتحقق تجارة الزجاج دخلاً مهماً للدولة. وهي تلاقي اقبالاً كبيراً من السياح والمشترين في مختلف انحاء العالم، لا سيما في اميركا والبلاد العربية. ويهتم العرب بشراء الزجاج التشيكي لنوعيته المتميزة، الى حد باتت معه أسواق الخليج العربي تزخر بالثريات الزجاجية التي تنتجها المصانع التشيكية، بل وتعدى ذلك الى المؤسسات والمرافق الحكومية المختلفة التي تشتري مختلف المنتجات الزجاجية من جمهورية تشيخيا بما في ذلك ثريات ومصابيح الجوامع ودور العبادة. ربما تكون هذه الصناعة قطعت شوطاً كبيراً في تطورها، ولكنها أيضاً تسير باتجاه ابتكار مزيد من الاضافات التي قد تظهر خلال المرحلة المقبلة، لذا تبدي الحكومة التشيكية اهتماماً كبيراً في رعايتها.